هائل سعيد .. كرامة المحتاجين

من رمضان إلى آخر، يزداد تهافت المتصدقين من منظمات وتجار، جماعات وأفرادًا و"هيئات ومؤسسات حكومية" للأسف على التصدق العلني، بل مع حرص على دعوة وسائل الإعلام لتصوير مشاهد تصدقهم بالفتات من الغذاء، أو بالريالات المعدودة على جموع الفقراء والمعدمين من الناس بعد حشدهم وتجميعهم في أماكن أبلغوا بها ونقل ذلك فضائيًا، وتغطيتها إعلاميًا، ما يظهرهم أحرص على الوصول إلى أكبر عدد من الإعلاميين للتغطية وتحقيق أعلى نسبة مشاهدة، أكثر من حرصهم على وصولهم إلى أكبر قدر من المحتاجين، ما يجعل من عمليات توزيع صدقاتهم أشبه بمهرجانات دعائية، وإعلانات ممولة، تروج لهم وتسوق لعطائهم وكرمهم وتلمعهم على حساب المحتاجين والمعوزين وكرامتهم، والإساءة إليهم، حد التشهير مقابل فتات الفتات، وفي كل مرة أرى فيها هذه المشاهد الموجعة والمحزنة والمؤلمة، أو أسمع وأقرأ عنها، أو أدعى لحضورها وتغطيتها، تعيدني ذاكرتي تلقائيًا إلى "رمضانات" ما قبل 20 عامًا، وأترحم على الحاج هائل سعيد أنعم!

الحاج هائل سعيد أنعم(شبكات التواصل)
الحاج هائل سعيد أنعم(شبكات التواصل

ومن لا يعرف هائل سعيد أنعم؟!

الرجل الذي رحل في مثل هذه الأيام من شهر رمضان قبل 34 عامًا، مخلفًا السمعة الطيبة وأكبر مجموعة تجارية يمنية، ووصية لأبنائه وورثته من بعده كما يقال، بـ"النهوض بمسؤوليتهم تجاه الفقراء والمحتاجين، والدوام في العطاء والإحسان عليهم مما أعطاهم الله، والجود عليهم مما جاد به الله عليهم"، وهكذا استمرت هذه المجموعة ونمت وكبرت واتسعت حتى باتت على ما هي عليه اليوم: الإمبراطورية التجارية الأكبر يمنيًا، ما يجعل منها برأيي أهم قصة نجاح يمنية حية ومنظورة، وأنموذجًا استثنائيًا ملهمًا في تخلقه وولادته أولًا، وبقائه وديمومته ثانيًا، ونموه واتشاعه ثالثًا، وما أحوجنا إلى هكذا نماذج وقصص نجاح تلهم الإرادة والإصرار والكفاح والعطاء أيضًا.

 

أما لماذا الحاج هائل سعيد؟!

فالأمر يرجع إلى مثل هذه الأيام من رمضان الماضي، وتحديدًا إثر مأساة حادثة الحريق والتدافع الأليمة لآلاف اليمنيين المعدمين في مركز توزيع مساعدات مالية سنوية من رجل الأعمال الكبوس، للفقراء، واستشهاد وإصابة المئات من المواطنين -بالمناسبة ما هي نتائج لجنة التحقيق التي وجه بتشكيلها رئيس المجلس السياسي الأعلى في صنعاء؟!- المهم معها وجدتني أستعيد تلك الجلبة التي كان يحدثها وصول مندوبي المؤسسة الخيرية لمجموعة هائل سعيد في صباحات مثل هذه الأيام من شهر رمضان ما قبل عقدين من الزمن، ومرورهم على بيوت المحتاجين ومحدودي ومتوسطي الدخل في حارتنا بتعز بيتًا بيتًا، وتسليمهم مساعدات مالية لا تقل في الأغلب عن "عشرين ألف ريال"، أي ما يعادل 100$ وقتها، وقد تزيد بالنسبة للأسر ذات العدد الأكبر من الأبناء، ومن دون تصوير ولا تشهير ولا ضجيج إعلامي، حتى أصبح الأمر طقسًا أو تقليدًا رمضانيًا اعتاده الناس، ولا يكتمل رمضان إلا به. وهكذا استمر الأمر لسنوات طوال، قبل أن يتم استصدار بطائق مساعدات بأسماء أرباب الأسر المستحقة للمساعدة، وقد دوّن على كل بطاقة مبلغ المساعدة المستحق لكل أسرة بناء على عدد أفرادها، ومن خلال تلك البطاقة سيكون بمقدور كل أسرة، استلام مساعدتها في أي وقت من أيام الشهر الكريم.

قبل أيام اتصلت بأحد الأصدقاء في تعز، وسألته عما إذا كانت المساعدات المالية لبيت هائل مستمرة، وكان رده باستمرارها، بالآلية القديمة نفسها، ومن دون تغطية أو تصوير، وهو ما تتمسك به المجموعة التجارية، وتحرص عليه في أغلب أعمالها الخيرية التي تنفذها بسرية تامة، وبعيدًا عن الأضواء، وبلا منٍّ ولا استعراض، من منطلق أن "صدقة السر" يحبها الله، وأجرها مضاعف، وفي الأثر النبوي سنجد ما معناه أن المتصدق بصدقة أخفاها، ولم تعلم شماله ما أنفقت يمينه، أحد سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، والأمر لا يقتصر على الأعمال الجماعية للمجموعة التجارية، بلا يتسع ليشمل تلك الأعمال الشخصية والفردية الخاصة، وليس آخرها التكفل بإعادة بناء وإقامة بيت أديب وكاتب توفي قبل أن يتمكن من إعادة ترميم ما تهدم من منزله، وحين بلغ الحاج عبدالجبار هائل سعيد حاجة الأسرة إلى مبلغ مالي يعينهم على إكمال تكاليف ترميم منزلهم الوحيد، بادر بتبني إعادة إقامة البيت كليًا، والأمر نفسه حدث أيضًا مع أسرة كاتب آخر في تعز، ومن دون أن يعلنوا أو يتحدثوا أو يطلبوا الكتابة أو الشكر حتى، وهكذا سلوك إنساني من هذه المجموعة التجارية لخليق بالاقتداء به والسير على هديه والإشادة به.

هذا ليس مديحًا للمجموعة التجارية، ولا ترويجًا أو تلميعًا لها، ذلك أن ما تقوم به من أعمال خيرية، خاصة وعامة، هي من صميم مسؤوليتها المجتمعية وواجبها تجاه شعبها ووطنها، وهو ما يجب أن تؤمن به مجموعة هائل سعيد وكل التجار وأصحاب رؤوس الأموال وكل صاحب قدرة مجتمعين وفرادى، وتستمر في تحمل هذه المسؤولية بصورة أكبر وأوسع، ولا سيما في هكذا أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، تصبح مسؤولية الجميع مضاعفة عما قبل.

ورحم الله هائل سعيد أنعم وكل تاجر ومسؤول يشعر بمسؤوليته تجاه الناس، ويعمل على التخفيف من آلامهم من دون أن تعلم شماله ما أنفقت يمينه.