مأثرة فتحي الاسودي.. «صنعاء الحصار والانتصار»

 
من نسيج الحنين إلى عبق البطولات والأمجاد، لأيام سطر فيها اليمني، على صفحات التاريخ، مجد الانتصار للمستقبل والحرية والأمل، كان كتاب الأستاذ القدير، والإداري الكبير، فتحي الأسودي الذي ساهم بشخصه بدور لا ينكر، في قيادة الجهود لصد الحصار الذي رام إعادة اليمن واليمنيين إلى غياهب سجن الإمامة البغيض. تزامن حصار صنعاء والانتصار في الملحمة الإنسانية العظيمة (ملحمة السبعين)، مع قطف ثمار حرب التحرير في الجنوب اليمني. ويسجل الاسودي لمحات إنسانية وسياسية عن قادة حرب التحرير في لقاءات مباشرة معهم، تشكل في مجموعها رواية تاريخية في غاية الأهمية.
تضمن الكتاب صفحات لا يعرفها كثيرون ممن عاصروا تلك الأحداث، ناهيكم عمن لم يعشها، ولم يعاصرها، أو يقترب من أيامها. 
 الوصف الصادق البسيط، الشبيه باليوميات، في الكتاب قدم مادة ثمينة لا تقدر للمؤرخين والباحثين عن فترة من أهم الفترات التي عاشتها بلادنا في عصرها الحديث. وعلى سبيل المثال نقرا في الكتاب أحداثا مثل:
حادثة تقطع الملكيين على طريق صنعاء الحديدة لسبعين عالما أزهريا مصريا، تم اغتيالهم وقتلهم على مسافة ستة كيلو مترات من مناخة. وكأنها جريمة "بئر معونة" التاريخية تتكرر بعد قرن ونيف؛ إذ العدد نفس العدد في الحادثتين، والضحايا هنا دعاة إلى الله كالضحايا هناك.
نقرا كيف لف آخر وزير داخلية للسلال (العقيد محمد الاهنومي) نفسه بالشاش الطبي ليتمكن من مغادرة صنعاء مع القوات المصرية، بعد أن كان قد فعل بالناس الأفاعيل في عهده القصير.
ونقرأ في الكتاب كيف كان مدير المخابرات العامة اليمنية محمد السلامي، وسفير اليمن في العراق الدكتور محمد الشهاري، يحرضان، في زيارة الى مصنع الغزل والنسيج، على اخراج العاملات في المصنع ليتظاهرن ضد المصريين!.
ونقرأ عن تلك الأحداث المأساوية يوم 3 أكتوبر 1967م الحزين، عندما جازى اليمنيون إخوانهم المصريين جزاء "سنمار"، فأطلقوا عليهم الرصاص في الشوارع.
ونقرأ أين عقد ممثلو الأحزاب السرية والمستقلون اجتماعهم بصنعاء ليخططوا لاخراج المظاهرات الهاتفة بشعار " الجمهورية أو الموت" في وجه اللجنة الثلاثية التي أرسلها مؤتمر القمة في الخرطوم، التي جاءت بمشروع الدولة الإسلامية بدلا من الجمهورية.
ثم تتوالى الأحداث التي تخطف الأنفاس وأنت تتابعها في هذه الوثيقة التاريخية النادرة (الكتاب) وهو يرسم صورة صنعاء، بعد أن غادرها المصريون، وأحاطت بها الذئاب من كل حدب وصوب، وهي تتحرك لتعيد مأساة استباحة صنعاء بعد ثورة 48م، فتكاد ترى المباني الخاوية التي غادرتها البعثات الدبلوماسية، والاقتصادية، والطبية، والتعليمية الأجنبية، ما عدا السفارتين الجزائرية والسورية، والسفارة الصينية وبعثتها الفنية، الذين بقوا في صنعاء ليواجهوا مصيراً ظن الكثير في العالم انه موت محتم، عندما كانت مانشتات الصحف في العواصم العربية -المحبة والقالية على السواء- تنذر بسقوط صنعاء، وتحمل عناوين مثل: "الملكيون يدقون ابواب صنعاء".
ويرسم الكتاب لوحة معبرة لمآثر القوات المسلحة والمقاومة الشعبية وقياداتها الشابة وما اجترحته من بطولات أشبه بالمعجزات، على الرغم من شحة الإمكانيات وقلة الأنصار.
 
إبداع المقاومين
يمر قارئ الكتاب على لمحات جميلة من الإبداع الشعبي والرسمي الرامي إلى رفع المعنويات وشد الصفوف وإغاظة الأعداء، فنقرأ على سبيل المثال:
" واستخدمنا أسلوب الدعاية: كيس من السكر، وكيسين من القمح، وكيس من الدقيق، لا تباع إلا لمن عندهم أعراس، بشرط إقامة زفة ليلية حنَّانة طَّنانة، يطلق فيها الرصاص، وتلعلع فيها الميكرفونات؛ حتى تسمع حشود الملكية في ِ"حزيز" وغيرها، في مواقعهم القريبة من العاصمة، أن ساكني صنعاء لا يبالون بهم، وانهم في أعراس نهارية وليلية. وان ما تدعيه إذاعة الملكيين ليس إلا كذبا وهراء، عندما تقول إنها قد وصلت إلى باب اليمن، وقاع صنعاء، وقرية الدجاج وشعوب. وكان هذا الكذب تفضحه لمواقعهم خارج العاصمة كل تلك الأعراس التي كانت تتم يوميا".
وكان من أساليب الدعاية الجمهورية التي تستخدمها وزارة الاقتصاد(كان الاسودي وكيلا لها) "ان الوزير كان يقترح يوميا على رئيس المجلس الجمهوري، إصدار قرارات جمهورية بتغيير المؤسسة إلى شركة، والشركة الى مؤسسة، وتأسيس مؤسسات وشركات جديدة؛ وذلك للإيحاء إلى الملكيين، سواء في المواقع القريبة من العاصمة أم في مواقع قيادتهم الرئيسة أم في السعودية أم على حدودها، أن انتصار الملكية ومن ثم عودتها محالان، وان الجمهورية راسخة إلى الأبد". وكانت هذه الإعلانات تظهر إلى أي حد كانت الجمهورية مشغولة بالبناء والتعمير وهي في أحلك أيام الحصار. 
 ويسجل الكتاب الأدوار البطولية لمختلف الشرائح لابناء الشعب في ملحمة صد حصار صنعاء. ومن ذلك دور طياري الخطوط اليمنية، الذين كانوا يهبطون بطائرات ال "داكوتا" ذات المحركين ويقلعون بها، تحت ضرب النار الكثيف من مواقع الملكيين، ناقلين شريان الحياة والاحتياجات الحيوية، لمدينة تم خنقها بقطع الطرق الموصلة إليها من جهاتها الأربع. ولا ينسى الاسودي ذلك الطيار اليوغسلافي الذي رفض المغادرة مع من غادروا البلاد من الأجانب وبقي مع رفاقه اليمنيين ينقل إلى صنعاء إمدادات الحياة.
ويتضمن الكتاب أحداثا جساما أسست للمرحلة التي نعيشها في تاريخ اليمن، وسجل كثيرا من الأحداث التي أُغفلت وكادت تختفي من الذاكرة، في الطريق الشاق المليء بالدم والدموع والعرق، وصولا إلى فك الحصار عن صنعاء وتحقيق الانتصار. الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية كان لها نصيبها في هذا الكتاب القيم، الذي يجب ألا تخلو منه مكتبة أي بيت يمني؛ لأنه يسجل مرحلة عزيزة وغالية من تاريخنا المعاصر.
يتألف الكتاب من(250) صفحة من القطع المتوسط، ومن إصدارات مؤسسة العفيف، وقدم له الأستاذ القدير عبد الباري طاهر، وهو متوافر في المكتبات.