أسماكي لا تسبح في الماء

صورة تعبيرية من إنتاج الفن الرقمي
صورة تعبيرية من إنتاج الفن الرقمي (النداء - لكسيكا)

في أوقاتٍ عصيبة تبدو هذه الحياة غير مفهومة، شفراتها غامضة، بل مخيفة، وطلاسمها عصية أن تُفك. نتفاءل هكذا ترغمنا أرواحنا العصية على الانكسار، نتفاءل دومًا ليبدو لنا القادم أجمل في المستقبل القريب، ثم نكتشف أن تفاؤلنا الساذج في الماضي بأن الأمور ستمضي على ما يرام، هو السبب في كل هذا السوء الكارثي الذي نغرق فيه. هل جرعات قليلة من التشاؤم كانت مفيدة لنا في حينه؟ أم هو التشاؤم أم الحذر على وجه التحديد؟ ربما (نعم)، لنضع حساباتنا الماضية في قوالبها المناسبة للحاضر. وربما (لا)، فلولا معاركك في الحياة لكنت شخصًا آخر بروحٍ أخرى. ولربما ما بدت لكم هذه الكلمات أكثر تراصًا وثباتًا، أعمق صدقًا كما لم يحدث من قبل.

وهي تشبهني كثيرًا في هذه اللحظات، وهذا ما يُخفف عني الكثير. لماذا أكتب؟ هل هروبًا من قسوة الواقع، أم لمواجهتها، أم رغبةً مني في تلبس حالة صدقٍ عجيبة في عالم السطور المزيفة؟ هل أكتب لأشعر أني بخير قليلًا أمام موجات الكآبة، أم هي محاولات مستمرة لجلد الذات حتى تحترق تمامًا مع وضع آخر اللمسات على النصوص، فأتوهج معها في حالة غريبة جدًا. ها أنت تحترق، لكنك لست تذوي تمامًا. تستمر المرأة بداخلي في التوهج، لامبالية بكل هذا الرماد. تتلبس هذه الحياة بكل تقلباتها، فتشعر بالزيف أمام نفسك، فهذا ليس أنت، ولا هذه الصورة الواضحة للجميع حولك هي حقيقتك.

ما العمل إذن؟ تبحث عن حياة أخرى تُحتمل، فهذه التي تعيشها أنت لم تعد تحتاج لحكمة الكبار ولا لطيش الشباب، لا لثبات الجبال ولا لصبر صيادٍ حتى. تبدو حياة مستهلكة ورخيصة، عليك أن تكون صادقًا أكثر، وتقول: أبحثُ عن بعدٍ آخر لأفهم هذا المحيط الغادر، فأنا سمكة أريدُ أن أسبح فيه، وأنجو منه على حدٍّ سواء. ثم عليك أن تكون كاذبًا -ولو قليلًا- لتسمح لهذا الهواء الملوث أن يدخل رئتيك كل صباح، لأنك لو منعته -بحجة الصدق- ستختنق وتموت لا محالة.

ها هي أسماكي تسبح في المجهول ونحو المجهول. ثم من أخبركم أنّ على اليابسة ملاذي، أو أن على هذه الأمواج نجاتي؟ هكذا تستطرد الأسماك غاضبة أمام المياه التي تغرقها، تخنقها، تفقدها قدرتها على التنفس، تذبحها حتى الوريد. ثم أحاول أن أدفعها نحو اليابسة، تخرج للضوء، لكنها تموت على الفور.

ما الذي فعلته بها؟! رغم كل المحاولات المستمرة لمنحها الحياة أو لدفعها عنها. هذه الأسماك لم تنكفئ، لم تنزوِ، لم تخفت ضحكتها، لم تجف دموعها، تبقى مشاكسة ومشاغبة رغم أنها عالقة بإحكامٍ في صنارة الصياد، إلا أنها تُخبّط بزعانفها، تتشبث بالحياة حتى الرمق الأخير.

هل بدت لكم الحياة مفهومة في مرحلة ما منها؟ وهل تغدو الحياة أحلى حين نفهمها؟ أم أن محاولاتنا المستمرة لفهم الحياة هي الطريق الذي يقودنا لمزيد من الإرباك والغموض؟ ربما الحياة أحلى بكثير حين لا نفهمها عميقًا، وحين لا نأخذ فيها كل الأمور على محمل الجد دومًا.

لا أؤمن بذلك كثيرًا -كل الوقت- لكنه يبدو واقعيًا في هذه اللحظات على الأقل وأنا أفكر: ماذا حلّ بأسماكي تلك التي لا تسبح في الماء ولا تنجو على اليابسة؟ ها هي تستقيل من هذين العالمين الضجرين، ثم تبحث عن عالمٍ مختلف تقاتل بضراوة لتنجو من أجله. هي تقهر الموت بالمزيد من رغبة الحياة، وتقهرها الحياة بالمزيد من أشكال الموت المختلفة. هل لها أن تسبح الآن؟ تنصهر.. تنفجر في المحيط، ثم تتطاير أشلاؤها لتحلق برشاقة في السماء. ما ألطف تلك الهشاشة وهي تحلق فارغة من كل شيء. من الخوف والأمان، من الحب والكراهية، من المطامح والمطامع، فارغة تمامًا من كل المحاولات لفهم الحياة، ومن كل لامبالاتها بها.

هل لأسماكي أن تصل إليَّ لأجدني كما تركتني البارحة معتقة بالحزن، ومعلقة على سطح منزلٍ مهجور، وبداخلي نارٌ متقدة من نصوصٍ عامرة بالحب وقصائدٍ مذبوحة؟ هذا الجنون الغريب الذي أعيشه هو الحقيقة الوحيدة الساطعة في حياتي الآن، والمربكة لخيالي الجامح. حين تضربني رياح العاصفة بقسوة مبالغٍ بها، فتذوي أسماكي كطرائدَ منذورةٍ للموت، ثم ترتطم بوحشية برغبتها الصادقة في الحياة، تتجلى بصمتٍ ممتلئة بالخيبات الكافية لتعيش محتفظة بتقاعدها من الأحلام والأوهام.