فندق عدن.. كان صرحًا من جمال فهوى

فندق عدن 1982
فندق عدن 1982 (صورة أرشيفية متداولة)

لم يكن فقط أول فندق خمس نجوم في عدن، بل كان أول عمارة حديثة اكتست واجهته العامة وشاحًا من التراث، ولكن بقدر معلوم. بلمسة بارعة جاءت مستلهمة من هندسة العمارة التراثية في حضرموت، وتحديدًا معمار مدينة شبام بواجهتها العامة. على أن ذلك القدر المعلوم من رشاقة الابتكار لعبقرية مصممه المهندس المعماري اللبناني الأستاذ رهيف فياض، أستاذ الهندسة في الجامعة اللبنانية، والذي راعى بدقة فائقة تحاشت الإخلال بمتطلبات الحداثة وثقافة السياحة العصرية، بل جعل لها الغلبة.

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، استقبل مجتمع اليمن الديمقراطية، بترحاب واسع، ما أطلقه الرئيس علي ناصر من توجهات سياسة معتدلة على صعيد الداخل والخارج، للخروج بالبلاد من قوقعة التطرف الذي عزلها أمدًا عن ركب التحديث مبقيًا عليها تحت لا رحمة الشعارات الجوفاء التي لا أرضًا قطعت ولا ظهرًا أبقت كالمنبت، كما في الحديث الشريف. بالطبع لم تكن الخطوة من السهولة بمكان، فواجهت اعتراض الجناح المتطرف في قيادة الحزب آنذاك، والتي كانت تنفر من أي توجه معتدل، وتحتقر التحديث والسياحة بخاصة، لكنها، وقد بلغ الضيق بالبلاد منتهاه، بدت معزولة تمامًا أمام ذلك الترحيب الشعبي الواسع بخطوات الاعتدال سياسيًا واقتصاديًا، فضلًا عن كونها خطوات تطلبت يومئذ قدرًا من البطولة وذكاء الخيال السياسي. عنصران لم يتوافرا آنئذ إلا في شخصية الرئيس علي ناصر الاستثنائية.

ولما كانت السياحة أحد المجالات التي لحق بها ضرر كبير، بل حوربت بوصفها من أهم مكونات اقتصاد الخدمات الذي دمر بكل مكوناته، فقد كان لا بد أن تحظى باهتمام التوجه الجديد، وبما ينسجم مع انتعاش بقية المستويات الاقتصادية والتجارية.

في تلك الفترة حصلت البلاد على أول قرض أوروبي أقرت الحكومة استخدامه في مجال السياحة وإنشاء فندق بمواصفات عالمية. وعليه تم التعاقد مع شركة بناء فرنسية، ولتتولى إدارته لاحقًا الشركة الفندقية الفرنسية فرانتل. أما في ما يخص التصميم، فقد تم اختيار المؤسسة العربية للتصاميم في لبنان، لصاحبها المهندس المرموق الدكتور رهيف فياض، أستاذ الهندسة بالجامعة اللبنانية، والمعروف كذلك بشغفه بهندسة العمارة الطينية في حضرموت بوجه خاص، حيث كان يجري المقارنات بينها وببن شبيهتها في المغرب العربي، وله عدة كتب في مجالات العمارة عمومًا.

فندق عدن (أرشيف)
فندق عدن (أرشيف)

تولت مؤسسته، التي كانت تنفذ أيضًا مشروعات هندسية في بلدان خليجية، إعداد التصميم، وفي ذهنه عمارة شبام التاريخية، فضلًا عن المواصفات السياحية العالمية المطلوبة. تم تحديد الموقع على بحيرة راكدة توسطت برزخ خور مكسر وجزيرة السواعي (العمال)، فجرى ردمها بحضوره شخصيًا، لضمان التثبت من احتمالها البناء الضخم المتكون من 15 طابقًا. سار البناء بإشراف المهندس الذي كان يواظب على زيارة الموقع ثلاث مرات سنويًا. لكنه في نهاية عام 1981 جاءني للسفارة متوترًا ولا يعرف سببًا لوقف البناء عند الطابق العاشر كما أبلغته شركة البناء، قال إن إلغاء خمسة طوابق عليا سيؤثر سلبًا على جمال التصميم العام، فقررت السفر غدًا إلى عدن لمعالجة الأمر.

اتضح لاحقًا أن السبب تدخلات أمنية لأمن الدولة، بحجة أن ارتفاع المبنى يكشف مستودعات جبل حديد والمطار. سألهم مغتاظًا: هل لديكم صواريخ عابرة للقارات بجبل حديد؟ ثم إنكم في عصر أقمار صناعية ترى كل شيء.

عند عودته لبيروت، دعاني للعشاء في بيته، وكان قد هدأ رغم فشله في إقناعهم بالتراجع. ضحكنا معًا خلال استعراض وقائع زيارته الحزينة مع مندوبي الأمن.. كان يضحك كثيرًا مما حدث له من مقالب يمنية باعثها الهاجس الأمني المبالغ فيه، قلت له الحمد لله إنهم قبلوا العشرة طوابق، وعقبى للمبنى القادم بعشرين طابقًا (وكان فعلًا يفكر بتصميم فندقين آخرين في البريقا ووادي حضرموت، في حال توفر التمويل، لا سيما وأنه علم من شركات سياحبة عن طلبات من سواح فرنسيبن وإسبان وطليان، للسياحة في عدن وحضرموت، للتمتع بشمس الشتاء الدافئة).

ولاحقًا صدمت مسامعنا شعارات المتطرفين بأن الفندق وكر للمخابرات العالمية، إذ كان يصعب عليهم تقبل ما فيه من معانٍ حضارية ومدنية، وما يتوفر عليه من مؤشر نهوض وانتعاش.

وبفعل تأثير التطرف للأسف أخرج فندق عدن من صفحة السياحة والحداثة، ليحشر في صفحة رواسب السياسة وتعقيدات صراعاتها.

في ما بعد (عقب كارثة يناير 86)، ذكرت صحفية لبنانية التقت أحد مسؤولي ما بعد الكارثة، ذكرت أن اللقاء معه أخذ ثلاثة أرباع الساعة، قضى المسؤول إياه نصف ساعة منها في الحديث عن "سيئات" فندق عدن وخطره المخابراتي(!)، حتى كدت، كما كتبت ساخرًا، "أتصور أن الفندق كان سبب ما حل من كارثة سياسية مجتمعية!".