عفاف البشيري: حكايات من ماء ولون

عفاف البشيري حكايات من ماء ولون
عفاف البشيري حكايات من ماء ولون-أروى عثمان

"إن الكتب هي من غيرتني، ومن أنقذتني، وأنا أعلم في قرارة نفسي أنها ستنقذكم أيضًا" إليف شافاق، حياة الكتابة.

وأنا أقرأ ما كتبته عفاف البشيري، من قصص وحكايات الأطفال، في مجموعتيها القصصيتين: "ثلاثية أوسان وريدان"، الصادرة 2019، و"حكايات أطفال مدهشين"، 2022، والفائزة بجائزة حزاوي لأدب الطفل في دورتها الأولى 2022، تملكتني الدهشة، إذ كيف استطاعت عفاف، أن تكون مجموعة شخوص في شخصية واحدة: طفلة تحكي، وصندوق حكايات مستل من موروث الجدات وقصصهن وحكاياتهن، وأن تكون أيضًا أمًا، معلمة، وصديقة، شكلت كل هذه الحيوات الأديبة عفاف.
في حكاية "العصفور الذي أبكى أبي"، كان المُشكل الأسري والضغط والحزن معًا الذي يعيشه الطفل، وهو يرى والديه يشتجران: "لا أعرف متى يتوقف أبي وأمي عن الشجار، أحيانًا لا أقدر على النوم، وإذا نمت أرى كوابيس" (ص55).
استطاعت عفاف أن تصل إلى حل المشكل بين الزوج والزوجة، وانعكاسه على الطفل، عبر العصفورة -الأم أيضًا، حيث تنقل المشكل والحل السلس معًا:
"مرت أسابيع وشهور كان صوت زقزقتهما يملأ المكان بهجة، لم تغادر العصفورة القفص، تمامًا مثل أمي التي لم تعد تغادر البيت" (ص61)، "انظر يا أبي كم يحبان بعضهما، إنه يضع الطعام في فمها وكأنها ابنته، هل هي زوجته يا بابا أم ابنته؟" (ص57).
وفي حكاية "بائع المناديل" قصة من الواقع تعكس معيش الأطفال الفقراء وهم يكابدون مشقة الحصول على الأدنى من المأكل والمشرب والسكن والتعليم، إذا يتوقف الطفل الكبير عن التعليم، مضحيًا بذلك من أجل إخوته؛ ليتعلموا. وهذا الفقر لا يحول دون رحابة الصدر وغنى النفس، وعزومة بائع المناديل الفقير لصديقه الجائع الذي أراد أن يجرب الحياة اليومية في الشارع، تمثلًا بالروح اليمنية: "ارحبوا على الحاصل" (ص77).
وفي حكاية "حرامي عيد الميلاد"، سطرت القاصة، بعض مسارات الفرح والتعلم من الأخطاء: "أجمل شيء هو مشاركة الأصدقاء الفرح وليس سرقته" (ص101).

 

القراءة ثم القراءة

استهلت عفاف مجموعتها الأولى، بإهداء يحث الأطفال على القراءة، إذ تقول: "إلى الأطفال الذين سيكبرون غدًا ليخبروا أبناءهم أن القراءة كانت نافذتهم الأولى إلى العالم". وفي مجموعتها الثانية خاطبت: "كل الأهالي الذين يدفعون أبناءهم نحو القراءة في عصر تختطف فيه الطفولة... فأطفالكم هم من يمدوننا بحبر الكتابة، ولولاهم لجفت الأقلام" (ص2).
ولا تنسى، بحب وامتنان، ذكر من أثروا حياتها بحب القراءة: أبي الغالي، وروح أخي الزكية، نافذتاي الأوليان نحو القراءة".

 

خصائص المحكي

تحاول الكاتبة في سردها الطفولي إيجاد توازن نفسي للطفل داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع من خلال إضفاء قيم التربية النبيلة، فتستعرض حدثًا حياتيًا ملموسًا، لتصنع منه وباحترافية قصة/ حكاية، فالحدث -المشكل والحل لا يأتيان بشكل فج، أو استعراضي، أو متعالٍ، بل ينسابان بسلاسة ومتعة، من خلال اللعب، القراءة، الرسم، التفاعل، الحوار، الطبيعة، الصور المرئية، وتحاول زحزحة القيم السلبية بالقيم الإيجابية، باعثة الهدوء والجمال في روح الطفل والقارئ، كرقرقة المياه، كما في حكايتها "أريد ماء"، إذ يتمازج كل من اللون والكلمات والخطوط والكتابة بسلاسة، بعيدًا عن التقريرية ولغة الوعظ.
على سبيل المثال، قصة "الهدية الثمينة" وشخصية ريدان الطفل والطالب معًا، عندما يدعو أصدقاءه الأغنياء، فقط، إلى عيد ميلاده، من أجل الحصول على هدايا ثمينة، قائلًا: "إذا عزمت الجميع سيأتون وسيلتهمون "الترتة" والحلوى دون فائدة... تعالوا ولا تنسوا الهدية... إذا لم تأتِ أرسل هديتك مع السائق... أتيت المرة السابقة مع ابنة خالتك، ولم تحضر معها هدية، إذا أرادت حضور حفلة عيد ميلادي، عليها ألا تنسى الهدية"، لكن لم يحضر الأصدقاء الأغنياء الذين دعاهم، وإنما حضر الحفلة ثلاثة من أصدقائه غير المعزومين، ومعهم هدية، وبأدب جم قالوا له: "لقد نسيت أن تعزمنا، فقررنا أن نأتي بأنفسنا"، وقدموا له خاتمًا من العقيق اليماني، نقشت عليه أسماؤهم (ص17).
إلى جانب الصور المرئية التي يحفل بها سردها، تختار الكاتبة الأسماء التي لها وقع الفرح واللذاذة، كـ"سُكرة"، والأسماء التاريخية كـ"أوسان، وريدان".

 

حضور المدينة

تركز عفاف على قيم المدينة والمدنية، ودورهما في رفع قيم المحبة والتسامح والتعايش والخير والجمال والعطاء والتشارك والحوار، تستثني العدائية المطلقة، يحضر الوطن باتفاقاته واختلافاته وصراعاته مع قيم الحق والخير والجمال، والشر والحروب، والمنازعات.
في قصة "المدينة الرملية"، ترتسم مدينة عدن وسواحلها وشواطئها، مستفتحة بهواء البحر: "يصحو أوسان في الصباح، يفتح شباك الغرفة، وتهب نسمات البحر منعشة تشعره بالسعادة" (ص20). وتحضر سلوكيات البيت اليومية، فبعد الصحو من النوم، التوجه إلى الحمام، قبل الجلوس لتناول الفطور، وهذا ما لم يفعله أوسان الكسول، إذ جلس على المائدة دون غسل وجهه، وأمرته أمه بعمل ما يجب من غير أن تنهره.

 

لو خربت داري عمرت ثاني

تحاكي القصة المذكورة، بطريقة غير مباشرة، الصراع والحرب بين الشمال والجنوب، من خلال حضور العاصمتين: صنعاء وعدن، وكيف يكون ذلك، فالأختان إحداهما تسكن صنعاء، والأخرى عدن، وتتزاوران باستمرار كما هو معتاد ومعاش في الحياة اليمنية، كان ذلك إلى ما قبل الحروب البينية عقب الوحدة وحتى اليوم، وما جرّته من ويلات الكراهية ما تسمى الهويات الدامية، التي تشهدها مدن اليمن، فتذكر الكاتبة في ثنايا الحكاية، كلمات إشارة للحرب: "تخريب، كمين، هدم، الدم، هاربين، نرميهم بالحصى، سنعيد بناء البيت"، التي تتكرر في ثنايا القصة.
يقوم أوسان وريدان ببناء بيت رملي على الشاطئ، يأتي مجموعة من الأطفال يهدمونه ويهربون، فما كان من أوسان وابن خالته إلا الانتقام وعمل كمين، "حفرة كبيرة فيقعون، ونرميهم بالحصى"، وتم ما أراداه، وسقطوا في الحفرة، وسال الدم، ومع وجود أمهاتهم، استطعن الاقتراب من المشكل، والبحث عن لغة أخرى غير العنف، أن يجتمع الأطفال المتشاجرون، ليعيدوا بناء ما هدموه، وكانت فكرة "شاركونا البناء" لوقف الحرب، وإحلال السلام كأداة للعمار والحياة، لكن تبقى مسألة اللاثقة، عند أوسان وريدان: "ماذا لو قاموا بتخريب البيت بعد أن نقوم ببنائه"، "إذا كثر الطباخون فسد الغداء". فثمة إصرار بأن الآخر يتربص وينوي الفتك والتهديم. ترد الأم والخالة: "المشاكل لا تحل إلا بالحكمة".
يصبح البيت -المدينة -الوطن، حلمًا يسع الجميع من خلال استدعاء الرفاق الذين قاموا بالهدم، والآخرين، والأخت وبنت الخالة اللتين كانتا تسبحان وتصنعان عقدًا من أصداف البحر، وتتكرر قيمة المشاركة بالبناء، ليتوسع الحلم من إعادة بيت رملي، إلى بناء مدينة، فتقول الأم: "بدلًا من أن تبنوا منزلًا، ستبنون مدينة رملية، بالمشاركة، وبتوقيت محدد" (ص32).
كان هذا الحوار كفيلًا بأن يتحمس أبناء الخالة، ويدعون أصدقاءهم للبدء ببناء المدينة من خلال شعار "شاركونا البناء". "فبدأ الأطفال بالتجمع وسط الدائرة، متحمسين للعمل، طلبوا جميعًا بالقرب من بعضهم البعض، وبدأوا منهمكين في بناء المنازل الرملية" (ص33).
هذه أبجديات المدينة وقيمها، تمثلتها الكاتبة في حكاياتها، وأشركت الأطفال ببناء الحلم -المدينة -الحكاية أيضًا، معنى أن تكون مدينة، بما هي ماثلة في الفكر الإنساني الاجتماعي والثقافي، أي حضور الحالة المدنية: السلام والحرية، المدرسة، الشارع، مشاركة الإناث والذكور، المساحات الخضراء، الاختلافات، البحر، والشاطئ والتنزه واللعب بالمشاركة، والتنوع الثقافي في الأزياء، الزمان والمكان والتنقلات بين فضاءات المدن من صنعاء إلى عدن البحر "الجبلي والبحري"، بمعنى: الحق في المدينة، والحق في التنقل، والسلام والحوار،.. الخ من مواثيق حقوق الإنسان الأساسية.
أتت الألوان الباردة، والحارة المشعة وألوان البهجة كما في حكايات الماء، وحكاية المدينة الرملية، تأتي الملابس جامعة ما بين المدينتين صنعاء، وعدن، حضر المعوز، والستارة الصنعانية التي شكلت فستان أختهم، والدرع العدني، والفل المزين لشعر الأم، والزنة الجبلية، توجت هذا الكرنفال اللوني الفنانة: برديس يحيى برسوماتها الجميلة.

 

ريق الحياة: الحق في الماء

تحضر المدينة، كما في الحكاية الأولى من الإصدار الأول "أريد ماء"، بذكريات العطش والجفاف في اليمن، منذ عقود، وخصوصًا في أوقات الشدة والحروب، والصراع على قطرة الماء بين الجيران، والحارات والشوارع: "... انظري يا ماما إلى هؤلاء الأطفال، انظري إلى أجسادهم النحيلة ووجوههم الشاحبة، إنهم لا يجدون مياهًا نظيفة للشرب، ويقطعون مسافات طويلة كي يصلوا للبئر، ثم يعودون محملين بجرادل ثقيلة لا تكاد أجسادهم النحيلة تقوى على حملها، إنهم يعانون يا أمي، ولا أحد يشعر بهم" (ص8-9)، حتى وإن استنطقت الكاتبة الحكاية بصورة طفل إفريقي يعيش المجاعة والحرب، ما هو إلا انعكاس لنا في اليمن.

 

منطق الطيور

تثري عفاف قصصها بشحذ المخيلة وتفعيلها كتابة وصورة ولوحة، فتضفي إلى المعرفة التسلية والسعادة، "أوسان والحمامتان"، الديالوج، بين الحمامتين، وأوسان والثعبان، لتختم الحكاية بصورة: "... خلف زجاج النافذة كانت حمامتان؛ واحدة بيضاء وواحدة سوداء، تنظران إليهما في سرور وفرح" (ص48).

أخيرًا

عفاف مقلة في كتابتها السردية للأطفال، نعلم أن الكتابة للأطفال ليست سهلة، ولا يتقنها إلا القلة، أمثال عفاف.
مرة أخرى أشعر بالابتهاج وأنا أقرأ حكايات الأطفال المدهشة، بقلم الأديبة الطفلة، عفاف، أصير طفلة معهم، ألعب، وأتزيا بالملبس الشعبي، وأخاف على قطرة الماء في بلاد المياه والمحيطات، وأتمثل الحكمة -الحديث النبوي، الذي أوردته في سياق حكايتها: "لا تسرف في الماء حتى لو كنت على نهر جارٍ". نتمنى أن تُدرس بعض حكايات عفاف في المدارس... ذلك أضعف الإيمان.
تحية للعزيزة عفاف التي تمثلت ما قالته الكاتبة شارلوت مندلسون، من دفاتر الملاحظات: "أعيش من أجل تلك اللحظات التي تتحول فيها الأفكار إلى كلمات".