أيام وذكريات

أيام وذكريات

>عبد الباري طاهر
"أيام وذكريات"؛ عنوان مذكرات الدكتور حسن محمد مكي. وحسن مكي واحد من مهندسي السياسة اليمنية لأكثر من 3 عقود. سياسي مخضرم، عركته التجارب والسنون، وكان واحداً من اليسار القومي بالمعنى العام. لعب دوراً في مسار ثورة سبتمبر، وتقلد عدة مناصب سياسية مهمة: رئيس وزراء ووزيراً للخارجية أكثر من مرة، ووزير الاقتصاد، ورئيساً لجامعة صنعاء.
يقع الكتاب في 284 صفحة قطع متوسط، إضافة إلى الصور التي تغطي مراحل مختلفة من حياته.
إيجابي أن يهتم السياسيون اليمنيون بتدوين مذكراتهم وذكرياتهم. فاليمن بلد مدفون تاريخه منذ سبأ وحتى اليوم، وقد شكا الإمام الشوكاني ومن قبله لسان اليمن الحسن بن أحمد الهمداني، ما يتعرض له اليمانيون من غمط وتناسٍ وإهمال، وطمس عامد في أحايين كثيرة.
تدوين الفسيل والمروني والنعمان والشامي والمقبلي والمقدمي وجزيلان وسنان والأحمر والسنيدار والحبيشي وبركات والراعي وأحمد بركات ويحيى مصلح ومحمد عبدالعزيز سلام وغيرهم.. أمر مهم. فبغض النظر عن الخلاف والاتفاق، فإن الأهم تدوين الوقائع ورؤية كل واحد من هؤلاء الذين أسهموا بدور في أحداث ووقائع الحركة الوطنية والثورة.
دون حسن مكي الذي يبدو أنه كان يحتفظ بتسجيل للوقائع، أو أن ذاكرته حية تخزن تفاصيل أحداث قد أخملتها وقائع أكبر.
في المقدمة يأتي الدكتور على ذكر إمارة الإدريسي في المخلاف. وكانت صبيا منطقة آل زكري المركز الأهم لهذه الإمارة التي كان جده يحيى أحد وزرائها. ولعب والده دوراً في معارضة "معاهدة مكة" التي وضعت الإمارة الإدريسية تحت الحماية السعودية كمقدمة لابتلاعها بدعم وتأييدي بريطاني، فالإمارة التي ورثتها بريطانيا عن إيطاليا قد ألحقت بسلطنة نجد والحجاز لإضعاف اليمن.
انضم والده لصنعاء بعد خسارة المخلاف الذي كان جده إحدى ركائزه، وانضم إلى حركة الأحرار ليسجن 4 أعوام.
يأتي مكي على طفولته في مدينة الحديدة، والشغف بالتعلم، والإلحاح على والده للابتعاث للخارج ليكون من أوائل الطلاب إلى بيروت في بعثة الأربعين، ممن كان لهم دور في الحياة السياسية والعسكرية والإدارية فيما بعد.
المذكرات مصاغة صياغة متينة ومقتصدة، فيذكر مراحل الطلب المختلفة. ولعل أهم ميزة تتسم بها المذكرات التواضع الجم لصاحبها، والاعتراف بأدوار وذكاء زملائه وأساتذته وكل من أسدى إليه مع وفا. فيذكر أن إبراهيم علي صادق كان من الطلاب النابهين، وكان يحتل المركز الأول.
كما يشيد بكل زملائه بحب، ويذكر الأستاذ مساوى أحمد الحكمي، وهو من الرجال المهمين، وعلماء الاقتصاد القليلين. يذكر أن أستاذه مساوى هرب من اليمن إلى السعودية لأنه خطب في يوم عيد النصر في تعريض بالإمام "نموت نموت جميعاً ويحيا الإمام"، وتخرج من القاهرة ليصبح بعد الثورة نائباً لوزير المالية، ثم رئيساً لمجلس إدارة التجارة الخارجية.
لا يبالغ مكي في دوره، ولا يقزم أدوار الآخرين. فهو أمين وموضوعي ودقيق في تتبع الأحداث. وكان إلى جانب التغيير الثوري، ورفض المساومة على الجمهورية رغم ما تعرض له من ضغوط ومتاعب، لعل أبشعها على الإطلاق الاعتداء على حياته، ثم "التضحية بثور". حينها كان المسؤول الثاني في المؤتمر الشعبي العام، وقائماً بأعمال رئيس الوزراء، وهو ما عنى ويعني أن أصغر فرد في القبيلة أكبر من أي رأس في الحكم. فالعصبية القبلية هي الأساس، أما الدولة فلا تزال في دور التكون والاحتمال.
أروع وأصدق تعليق على اعتداء شيخ القبيلة على أهم رجل في الدولة بعد الرئيس علي عبدالله صالح، و"إمطاره" بالرصاص، ما جعل نجاته من الموت مصادفة دفع ثمنها حياتهم 3 من حراسته الأوفياء، كان تعليق الدكتور عبدالكريم الإرياني: "ذبحت الدولة يوم ذبح الثور". وأصبح تعليق الإرياني مضرب مثل.
اشتمل الكتاب على عدة عناوين، فبعد التمهيد والمقدمة؛ السعي للحصول على المعرفة وفكرة السفر للخارج، وتحقق الحلم الذي جسد شغفه للمعرفة، والإصرار العنيد عليها.
في مدينة بدأ التفتح السياسي بفضل الاحتكاك بشخصيات لها اهتمامات سياسية: عبدالله المقحفي، والشهيد محمد عبدالكريم الصباحي الذي كان يزودهم بأعداد "صوت اليمن"، كانت تعز حينها المدينة الثانية بعد عدن من ناحية انتشار الأفكار السياسية وتخلق المعارضة "السرية".
كما يرسم الخلاف بين ولي العهد أحمد و"سيف الإسلام" عبدالله وزير المعارف حينها، حول إرسال البعثة، فقد كان أحمد يعارض إرسال أي طالب للخارج، وكان أحمد حينها الرجل القوي.
في مدرسة القاصد بصيدا توزع الطلاب الأربعون على الفصول الخامس والسادس ابتدائي، بينما ذهب بعضهم إلى طرابلس، ومنهم كاتب الذكريات.
تتسم أيام وذكريات حسن محمد مكي بالدقة وسلامة ورقي التعبير، وفنية العنونة، والاهتمام منذ البدء بالجانب السياسي "المعارض"، ويبدأ الخيط من قراءة "صوت اليمن". وفي مصر يلحظ مكي، خصوصاً بعد 1955، بداية الصخب السياسي، وبروز الاتجاهات السياسية المختلفة ونشاط الإخوان المسلمين.
وكزملائه اليمنيين كان كثير التردد على الشهيد سيد قطب (الزعيم الإخواني، والأديب الكبير متعدد المواهب)، والأستاذ عبدالله القصمي العالم الأزهري، والمفكر الكبير المتحرر. ويشير إلى الطلاب المترددين على قطب والقصيمي: محمد أنعم غالب، حسين الحبيشي الذي كتب مذكرات من أهم المذكرات اليمنية بل والعربية، وإبراهيم صادق، وربما كان إبراهيم صادق أكثر جرأة في تبني أفكار القصيمي الذي كان اسمه قد ارتبط "بالإلحاد" بعد إصدار كتابه المهم "هذي هي الأغلالـ"، وأصدر بحقه مفتي السعودية محمد بن إبراهيم آل شيخ فتوى: بالتكفير، وعدم قبول توبته، وإحراق الكتاب، وتجريده من جنسيته.
جدير بالذكر أن أتباع القصيمي وزملاءه وأصدقاءه في مصر منذ الأربعينيات كانوا من السياسيين والطلاب والأدباء والكتاب اليمنيين.
بقراءة ذكريات مكي يستطيع القارئ تتبع الخط الثوري السبتمبري، فاستقلالية مكي عن الاتجاهات اليسارية: الإسلامية والقومية والماركسية، جعلته أقرب للضباط الأحرار، وأقرب أيضاً إلى مصر عبدالناصر، وإن كان لم يحمه من الاعتقال مع الحكومة اليمنية التي كان عضواً فيها.
ما يلفت الانتباه في أيام وذكريات مكي، صدقه وتواضعه الجم في رصد الأحداث التي شارك فيها، والحديث عن نفسه من خلال الصف السياسي الواسع المعارض لسياسات السلال والقيادة المصرية. وفي قراءته السياسية للصراع حينها قدر من الفطنة والإدراك والمسؤولية، وكان منحازاً للصف الجمهوري، وللثورة والحركة والتنمية، وقد تعرض لحادث أليم أثناء تحركه لإيقاف القتال بين القوات المسلحة في أحداث أغسطس 68.
الدكتور حسن مكي، ككثير من القيادات السياسية المخضرمة والمجربة: أمثال الدكتور عبدالكريم الإرياني، والدكتور محمد سعيد العطار قبل وفاته، والأستاذ حسين الحبيشي.. وعشرات غيرهم، جرى تهميشهم واستبعادهم، مما حرم الحكم من خبرات قديرة وكفؤة.
أيام مكي بحاجة إلى أكثر من تحية. فهي ترسم الخط الناضج والحصيف في مسار الحركة الوطنية، والتطور السياسي لثورة سبتمبر 62. والمؤلف سياسي محنك، ومدني بنى مجده بالتعليم. لم يرتهن للقبيلة أو للعصبيات المتخلفة. عقلاني في التفكير. ورغم عقلانية التفكير، والميل أكثر للاعتدال والاستقلالية، لم يسلم من الاستهداف، وأكثر من مرة.