كتابات مغرضة تستهدف تاريخ اليمن المجيد

اعتاد مغرضون تشويه تاريخ اليمن وتراثها، والنيل من حضارتها في كتاباتهم، وبودي أن أستفسر، ألا يدرسون تاريخ الأمم والحضارات حتى يكتبوا بموضوعية؟ ألا يعلمون أن كل حضارات وافدة تأخذ من حضارات سبقتها في المجالات العلمية والفنون، ثم تقوم بتطويرها إلى مستويات أفضل خدمة للبشرية؟

ومن هذا المنطلق، أؤكد لهؤلاء المغرضين، أن الحضارة الغربية لم تنزل من كوكب زحل، وإنما نهلت من ينابيع حضارات سابقة لها مثل الحضارة العربية -الإسلامية في (بغداد وقرطبة) التي سادت قرابة سبعمائة عام، ثم دبت فيها عوامل الضعف فشاخت، ولكنها لم تمت، لأنها قدمت ما لديها من معارف وعلوم، وذلك بحكم التاريخ الإنساني وتطوره إلى مستويات أفضل، فالتاريخ الحضاري لا يندثر، فعلى سبيل المثال، أخذت الحضارة العربية -الإسلامية من الحضارات الأخرى مثل الحضارة اليمنية في الميادين المختلفة (الفلك، وهندسة السدود، وتصريف مياه الري، واستخدام المحراث وتوسيع الرقع الزراعية، وبناءالحدائق، والمدرجات، وتشييد القصور، والمعابد، وصناعة السفن، وتصنيع السيوف، والدروع، وتقويم الرماح، والقيام بالصناعات اليدوية المختلفة)، وكانت مركز ازدهار تجاري في العالم القديم، وسوقًا للتوابل، والبخور، ومن المراكز المهمة في التبادل التجاري في طريق الحرير من الصين، والهند إلى اليمن ثم مكة، والشام الخ.
كما أخذت من حضارات أخرى، مثل (اليونانية: حضارة الفلسفة، والعلوم والمعابد... الخ، والفرعونية: بناء الأهرامات، والمعابد، والمتاحف، والتحنيط، والسفن، والصناعات الحرفية، وصناعات السلاح... الخ).
وهناك أيضًا حضارات أخرى لها إسهاماتها: (البابلية، والآشورية، والهندية، والصينية، والفارسية، والرومانية والفينيقية، والسامورائية)، فكل حضارة كانت مبدعة في زمانها بفنون، وصناعات، وعلوم، ومعارف، حضارات سادت زمنًا ثم كبت، لكنها لم تمت، حتى يقيض الله لها من بنيها لاستعادتها من جديد، ولو كان بعد قرون.
يقينًا، إن الحضارات بفعل عامل الزمن، تتخللها عثرات، لكنها سرعان ما تنهض بولادة قشيبة نتيجة لإرث، وموروث حضاري.
الجدير بالذكر، أن كل ما يحدث في الوقت الحاضر، بخاصة في الصين، والهند، وما تشهده كل من جمهورية كوريا، واليابان، وتجمعات اقتصادية مثل مجموعة "معاهدة شنغهاي" ومجموعة "بريكس"، من طفرة صناعية ملحوظة، يعتبر مؤشرات لحضارة قادمة في المنطقة، والعالم، فالمسألة لا تعدو أن تكون مجرد وقت.
من ناحية أخرى، ثمة حضارات أخرى في الغرب كانت قد نشأت قبل اكتشاف القارة الأميركية (العالم الجديد) بأربعة آلاف عام، بخاصة في وسط القارة، وجنوبها، عرفت بإسم "حضارات المايا، والإنكا، والأزتيك"، والتي تأثرت بالحضارات الشرقية من خلال التواصل في سفن شراعية عملاقة، مخرت عباب اليم إلى شواطئ تلك المناطق النائية، وشكلت معها تعاونًا حضاريًا خالدًا، وكلها سادت ثم كبت، ومصيرها أن تعود، أو أن تسهم ولو بعد حين بما تملكه من معارف وعلوم ومخزون فكري.
ثم أتت الحضارة الأوروبية لتنهل من جميع تلك الحضارات، تحديدًا منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي (عصر النهضة، والاكتشافات الأوروبية الاستعمارية) شرقًا وغربًا، بفضل ركوب البحر بسفن بخارية عملاقة، وتقدم علم الفلك، واستخدام "الإسطرلاب" الذي صنعه العالم العربي إبراهيم الفزاري، في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، وقد طور العرب هذا الجهاز، وابتكروا جهاز الإسطرلاب المكون من قطبين بدلًا من قطب واحد، ليواكب حركة الإبحار، والتجارة، وحركة الجيوش... الخ.
وعليه، تمكن الأوروبيون من مخر المحيطات، واكتشاف ما كان مجهولًا من العالم، ومن خلاله شيدوا حضارة أوروبية متقدمة.
وأخيرًا، انبثقت الحضارة الأميركية (الغربية) من خلال انصهار حضارات عدة من قبل الوافدين إليها من شتى أنحاء المعمورة، وشكلت حضارة ذات شأن، وجعلت من العالم "قرية كونية" بفضل التقدم التكنولوجي الهائل، واكتشاف الفضاء، بخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
حقيقة، لنا وقفة هنا: إنه ما كان لهذه الحضارة الأميركية التكنولوجية أن تكون، لولا تلك التشكيلة الوافدة من أمم كانت حضارية، ومنهم عرب، وأوروبيون، وآسيويون... الخ، وجدوا في العالم الجديد ملاذًا طيبًا للعيش بسلام ووئام، وإنتاج قلما يجدون في بلدانهم من مزايا تسهم في تشجيعهم لبناء أوطانهم.
في واقع الأمر، إن الولايات المتحدة الأميركية عبارة عن مجتمع عالمي جديد، كانت نتيجته هذا التقدم الهائل في العلوم المختلفة.
طبيعة الأشياء، إن استمرار الحال من المحال، فلا بد إذن من أن تأتي حضارة جديدة من الشرق، أو الغرب، تكون أكثر شموخًا ورفعة. ومهما يكن الأمر، سيظل الإنسان محور تلك الحضارات.
الجدير بالتنويه، أن تقديمي لهذا العرض المتعلق بالحضارات إنما المراد منه بالمقام الأول هو الرد المبين على كل من الكاتبة سهير السمان، والكاتب د. نشوان حميد الفائق، وتأكيدي لهما أن "اليمن" كانت وستظل حضارتها، وإسهاماتها في مسار التاريخ الحضاري الإنساني الخالد، كبقية حضارات الأمم..
والسؤال: لماذا نتجاوز كعرب الإيجابيات ونعمل على إغفالها، ونظهر المثالب، والعثرات في أحاديثنا، وكتاباتنا عن تاريخنا؟ أليس هذا إنكارًا، وعقوقًا، ومحاباة لا تصدر سوى من جاحد، وحاقد وحاسد؟
وللتوضيح، إن الكبوات، والعثرات ليست حالة أبدية، وإنما حالة زمنية قابلة للتصحيح، والعودة للنهوض من جديد.
وفي السياق نفسه، استحضرني هنا مقالان قرأتهما منذ أشهر، أحدهما بعنوان "الجيوش الإليكترونية"، للكاتبة سهير السمان، والمقال الآخر بعنوان "اليمن من الارتزاق إلى الاختراق"، بقلم، د. نشوان حميد الفائق، ألفيت أنه لا يعنيهما الحضارة اليمنية وإسهامها في حضارات لاحقة، حتى الحضارة الحديثة، فأحدهما يمجد زمن الإلكترونيات، والتكنولوجيا، وكأن هذه الحضارة قد هبطت من السماء، وأن اليمنيين يعيشون في ماضيهم، تهكمًا عليهم، بطريقة غير مباشرة للكاتبة سهير السمان، إذ إن مفهومها لحضارات المنطقة، وخصوصًا اليمنية، أنها حضارات لا تشرف.. الخ.
أما الكاتب د. نشوان حميد أحمد الفائق، فإنه لا يقيم لحضارة اليمن وزنًا، أي أنه قد أنكر دور اليمن الحضاري، والإنساني المشرف، واختصره بكلمتين من بنات أفكاره، بعنوان: "اليمن بين الارتزاق، والاختراق"، كصفتين دائمتين، ولا شيء سواهما. كما نفهم من النص أنه ليس لها إيجابيات طيلة تاريخها مذ آلاف السنين.
وكنا نأمل منه بعد أن أتحفنا بقراءته التاريخية، أن يتجمل علينا بتقديم الإيجابيات أو بعضها، وهي كثيرة، منذ خمسة آلاف عام.
لذا، فإني أؤكد أن ما كتبه، يعد نظرة قاصرة للتاريخ، بل تشويهًا للحقائق، فقد ركز على عثرات اليمن، ونحن لا ننكرها، فكل حضارة لها سلبياتها وإيجابياتها. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين الشفافية، والموضوعية في كتابة التاريخ؟ وعن أي تاريخ يتحدث؟ فله الحق، أن يعبر عما يشاء من سلبيات، وهي موجودة في كل المجتمعات الإنسانية، لكن التاريخ أيضًا يتكلم عن إيجابيات لكي تكتمل القراءة التاريخية، وتكون محل إشادة، وتقدير من الجميع.
هذا ما وددت تقديمه نصحًا.
والله المستعان.