حطب العيش يقتل الأمهات في تعز

نساء في اليمن يحملن الحطب
نساء في اليمن يحملن الحطب - (تصوير Will De Freitas. CC license: Attribution-NonCommercial-NoDerivs (2.0 Generic

في ريف تعز اليمني، تتعرض النساء لخطر الموت المحقق كل يوم، بينما يبحثن عن الحطب في الجبال الشاهقة التي تتحول إلى مقابر لاحتطاب أرواحهن. الفقر المدقع ونقص الخدمات الأساسية وارتفاع أسعار الغاز المنزلي، مما يجعله بعيدًا عن متناول اليد بالنسبة للعديد من الأسر الريفية، يدفع النساء إلى القيام بهذه الأعمال الشاقة والمهددة للحياة.

مع تزايد الطلب على الحطب، تمت إزالة معظم الغابات، ما يضطر النساء للذهاب إلى الجبال الشاهقة لجلب الحطب كوقود للطهي، الأمر الذي يعرضهن لخطر السقوط والموت.

في قرية نائية غرب مدينة تعز، وقفت فاطمة مقبل، الستينية، تنظر إلى الجبل الذي فقدت فيه ابنتها أميرة. كانت أميرة في طريقها لجلب الحطب عندما سقطت من الجبل وفارقت الحياة.

تروي فاطمة مقبل قصتها المأساوية لـ”النداء”: كانت أميرة أمًا لطفل رضيع، وكانت تضطر إلى الذهاب إلى الجبل لجلب الحطب، لأن الأسرة لا تستطيع تحمل تكاليف الغاز.

في منطقة مقبنة بريف تعز الغربي، اعتادت أميرة مصلح، البالغة من العمر 30 عامًا، الذهاب إلى الجبل يوميًا قبل بزوغ الشمس، للحصول على الحطب. في ذلك اليوم ذهبت على أمل أن تعود سريعًا لطهي الطعام لأسرتها، لكن هذه المرة، لم تعد أميرة إلى منزلها، بل عاد جثمانها هامدًا.

تقول فاطمة، بصوت حزين: “لايزال الألم يعتصر قلبي، عندما أتذكر يوم سقوط ابنتي من الجبل. لم أكن أعلم أنها ستموت، (تبكي)… ماتت قبل أن ترضع طفلها الذي لم يتجاوز عمره سبعة أشهر”.

أميرة هي واحدة من عشرات النساء الريفيات في تعز اللواتي يتعرضن للخطر والموت في سبيل توفير لقمة العيش لأسرهن. ففي غياب الخدمات الأساسية، لاتزال النساء في القرى الريفية يضطررن إلى تسلق الجبال الشاهقة بحثًا عن الحطب.

 

ثماني نساء ضحايا من منطقة واحدة فقط

يمنيات يحملن الحطب
يمنيات يحملن الحطب (صورة أرشيفية)

تتعرض النساء الريفيات في محافظة تعز، لمخاطر كبيرة أثناء محاولتهن جلب الحطب من أعالي الجبال، حيث تقع العديد منهن ضحايا الانهيارات الصخرية أو السقوط من المنحدرات الشاهقة.

أميرة ليست الوحيدة، رصدت “النداء” عشرات الحوادث المشابهة خلال العقدين الأخيرين فقط، في عدد من قرى غربي تعز.

خلال نحو 15 عامًا، فقدت منطقة بني بكاري لوحدها 8 نساء، كما يقول ناجي البكاري (45 عامًا)، الذي توفيت زوجته في حادث مشابه.

15 أكتوبر 2015، كان يومًا مرعبًا في حياة ناجي وأهالي القرية عمومًا. في الساعة الرابعة عصرًا، تلقى خبر سقوطها من هاوية الجبل أثناء جمعها الحطب: “تمزق جسدها عند تدحرجها من الجبل، وغادرت الحياة في موتِ مرعب”، يقول البكاري.

بالرغم من تزايد مثل هذه الحوادث خلال السنوات الأخيرة، لم يقدم الناس أي بلاغات أمنية أو شكاوى أو دعاوى قضائية، حيث يعتبرون مثل هذه القضايا “قضاء وقدرًا”. يقول ناجي إن الناس يجهلون حقوقهم، في ظل غياب كامل للجهات الحقوقية أو الرسمية، “لذا تدفن مثل هذه القضايا مع الضحية، وإلى الأبد”.

المحامي القانوني علي الصراري، في حديثه لـ”النداء”، اعتبر تكرر مثل هذه الحوادث دون اتخاذ أي إجراء، مؤشرًا إلى انعدام المسؤولية القانونية لدى الجهات الرسمية تجاه المجتمعات الريفية، حيث تتخلى عن مسؤولياتها سواء بتوفير الخدمات الأساسية كمادة الغاز المنزلي لهذه الفئات الضعيفة، بما في ذلك التوعية بمخاطر تسلق الجبال في زيادة خطر وقوع هذه الحوادث.

قبل حوالي عام، سقطت الشابة نجيبة فاروق (25 عامًا)، وهي تبحث عن الحطب في أعلى الجبل. كانت نجيبة تعيش مع والدتها وشقيقها في قرية الزتان، الواقعة في محافظة تعز. تقول والدتها مسعدة الزتاني: “أصبح الحطب منعدمًا في المناطق الآمنة، ولم يكن أمامها خيار سوى الوصول إلى جذر شجرة يابسة كان معلقًا على الهاوية، بارتفاع 50 مترًا”.

تضيف مسعدة: “تسلقت نجيبة لاقتلاعه. أمسكت الجذع وأعطت ظهرها إلى الهاوية وسحبته بقوة حتى انسلخ بها إلى أسفل الجبل”. أصيبت بجروح خطيرة، تهشم رأسها وأصيبت بأكسار في القدمين، أدخلت بسببها العناية المركزة لمدة شهرين، لكنها فارقت الحياة متأثرة بإصابتها.

أماكن الاحتطاب التي تذهب لها نساء القرى بعيدة جدًا عن القرية، وكذلك من مواقع الخدمات الصحية، وهو ما يفسر بعض حالات الوفاة، كما تعتقد فاطمة صادق التي فقدت شقيقتها نجاة في حالة مشابهة. تقول فاطمة لـ”النداء”: انزلقت قدم نجاة فتدحرجت إلى منتصف الجبل، وتعرضت لإصابة بالغة في الرأس والعمود الفقري. حاولت رفيقة نجاة طلب الإغاثة، لكن المنطقة نائية، فتأخر إسعافها، وعندما أحضرها الناس إلى القرية كانت قد ماتت.

تشير هذه الحوادث إلى أن النساء الريفيات في تعز يتعرضن لخطر كبير بسبب الجهل والفقر.

المرأة الريفية الطرف الأضعف الذي تغيب احتياجاته

تلقي المحامية هدى الصراري، رئيس مؤسسة دفاع للحقوق والحريات، باللوم على الحكومة والمنظمات الحقوقية والمدنية في هذه المشكلة. وتقول في حديثها لـ”النداء”: إن الجهات المعنية لا تقوم بواجبها ومسؤوليتها تجاه المجتمعات في المناطق الريفية، بما في ذلك عدم توفير الخدمات والاحتياجات الأساسية.

وتشير الصراري إلى أن عدم تسليط الضوء على الانتهاكات والتحديات التي تواجهها النساء الريفيات في توفير لقمة العيش، وتزايد عدد ضحايا السقوط من الجبال الشاهقة أثناء الاحتطاب، تعد قضية منسية حتى لدى النسويات الحقوقيات، وبلا مناصرة أو اهتمام. وتضيف: “لقد أغفل المجتمع المدني والحقوقي والحراك النسوي الواقع المرير للمرأة الريفية، وتجاهل احتياجاتهن ومطالبهن الأساسية على مدى طويل، ما أسهم في تفاقم المعاناة باستمرار”.

تقع على عاتق المرأة الريفية أغلب الأعمال اليومية في تأمين حياة أفراد الأسرة، بما في ذلك جلب الماء والطعام والزراعة والرعي وتربية الماشية. ومع ذلك، فإن عملها هذا لا يتم احتسابه في الناتج القومي، كما تفيد الصراري. مضيفة: تتحمل الدولة مسؤولية القصور في رصد قضايا المرأة الريفية، كونها مسؤولة عن إرادة ومطالب هذه الفئة المهمشة. كما أن انخفاض الصوت النسائي العامل في تبني قضايا المرأة الريفية، أسهم في هذا القصور.

أدى هذا القصور إلى انصرف توجه برنامج الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إلى أهداف بعيدة عن الاحتياجات الضرورية للمرأة الريفية. تؤكد الصراري أن على الحكومة والمنظمات الحقوقية والمدنية تحمل مسؤوليتها تجاه النساء الريفيات. وتشمل هذه المسؤوليات: توفير الخدمات الأساسية للمناطق الريفية، بما في ذلك الغاز والطهي والخدمات الصحية والتعليمية، وتوعية المجتمع بالتحديات التي تواجهها النساء الريفيات، ودعم المنظمات التي تعمل على تمكين النساء الريفيات.

 

أزمة غاز الطهي في تعز: معاناة صحية وبيئية

خلال سنوات الحرب، بات الحطب مصدرًا رئيسيًا للطهي في اليمن، حيث لا يستطيع الكثير من الناس تحمل تكاليف الغاز أو الكهرباء. ومع ارتفاع الطلب على الحطب، يتزايد خطر إزالة الغابات، ما دفع الأهالي في بعض المجتمعات المحلية إلى إطلاق مبادرات لتنظيم عمليات الاحتطاب. على سبيل المثال، حددت جمعية بني بكاري، في عدد من القرى التابعة للمنطقة، فترتين محددتين للاحتطاب خلال العام، واتفق الأهالي على مجموعة من الغرامات والعقوبات للمخالفين.

مع ذلك، لم تحدّ هذه الاتفاقات من أعداد الضحايا وسط النساء. تتزايد التهديدات والمخاطر على النساء والسكان الأكثر ضعفًا في كل المناطق اليمنية، فعلاوة على المخاطر التي تواجهها النساء خلال البحث عن الحطب، تعاني الأسر الفقيرة من أزمة غاز الطهي التي أدت إلى ارتفاع أسعاره بشكل كبير. ونتيجة لذلك، تضطر النساء والأطفال إلى استخدام بدائل غير آمنة للطهي، مثل الحطب والكرتون، أو حتى الحاويات البلاستيكية.

تؤدي هذه البدائل إلى العديد من المخاطر الصحية، بما في ذلك خطر التسمم بأحادي أكسيد الكربون أو الأبخرة السامة الأخرى. وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن تلوث الهواء الناجم عن الطهي على الفحم والحطب أثناء الحمل، ضار بنمو الجنين، وثبت أن استنشاق الهواء السام يؤثر على نمو دماغ الطفل.

من الناحية البيئية، أدى استخدام الحطب كبديل لغاز الطهي إلى اقتلاع الأشجار في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. حتى معظم المخابز تحوّلت إلى استخدام الحطب بدلًا من الغاز أو الكيروسين. وحذرت الهيئة العامة لحماية البيئة اليمنية من أضرار طويلة الأمد ناجمة عن قطع الأشجار بشكل غير قانوني نتيجة أزمة الوقود.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن اليمن فقد أكثر من 20 بالمائة من غاباته منذ عام 2015. ويؤدي فقدان الغابات إلى تفاقم تغير المناخ، وزيادة خطر حدوث انجراف التربة والفيضانات، والإضرار بالتنوع البيولوجي.

تؤشر الأزمة الإنسانية في اليمن إلى أن إزالة الغابات ستستمر في الارتفاع. يواجه الملايين من اليمنيين المجاعة، مما يدفعهم إلى البحث عن مصادر دخل بديلة، بما في ذلك الاحتطاب.

تحتاج السلطات اليمنية إلى اتخاذ إجراءات لمعالجة أزمة الاحتطاب. يمكن تحقيق ذلك من خلال توفير بدائل موثوقة للطهي والتدفئة، وتعزيز التوعية بمخاطر إزالة الغابات.