قراءة فاحصة في معاهدة "الطائف" وما تمخض عنها من تطورات

بوساطة "المجلس الإسلامي الأعلى"، ورغبة من الجانبين اليمني والسعودي، لوضع حد للحروب والمآسي، تم الاتفاق بين الإمام يحيى حميد الدين، ملك المملكة المتوكلية اليمنية، والملك عبدالعزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، على إبرام "معاهدة الطائف" لتعزيز أواصر الصداقة، والسلام بين البلدين الشقيقين. وبناء عليه، وقع المفوضان السيد عبدالله أحمد الوزير، عن الجانب اليمني، والأمير خالد بن عبدالعزيز، عن الجانب السعودي، المعاهدة، في 19 مايو 1934م.

وقد تضمنت المعاهدة إبقاء "نجران، وجيزان، وعسير" تحت السلطات السعودية، وعودة "الحديدة وحرض" إلى اليمن.
من الجدير بالذكر، أن "معاهدة الطائف" نصت في المادة 22، على أن تظل المعاهدة سارية المفعول عشرين سنة قمرية تامة، ويمكن تعديلها، وتجديدها خلال الستة الأشهر التي تسبق تاريخ مفعولها، فإن لم تجدد أو تعدل في ذلك التاريخ، تظل سارية المفعول إلى ما بعد ستة أشهر من إعلان الفريقين المتعاقدين رغبة في التعديل أو التجديد لفترة أخرى.
يتضح جليًا من الناحية القانونية:
1- أن نص الاتفاقية أو المعاهدة لم تكن "نهائية"، وأنها لم تعطِ "حقوقًا ثابتة ودائمة" للطرف السعودي السائد في المنطقة، حتى ولو لم يحددها، أو يعدلها الطرفان المتعاقدان.
2- أن اتفاقية "فيينا" لقانون المعاهدات تنص في المادة 52 ببطلان الاتفاقية أو المعاهدة التي يتم توقيعها بالإكراه (أو في حال الانهزام، كأن يفرض اتفاق غالب على مغلوب، ورضوخ المغلوب مكرهًا).
3- ونظرًا لما سبق أعلاه، كانت الحكومة السعودية تسعى بكل الوسائل، والإغراءات، من أجل توقيع اتفاق تقر فيه اليمن بأن "معاهدة الطائف" نهائية وشرعية، مع الاستعداد لتقديم مساعدات اقتصادية هائلة، ومشاريع، وأمور كثيرة مقابل ذلك.
في واقع الأمر، إن الحق التاريخي، والقانوني وفقًا للوثائق، والخرائط، والمستندات، يؤكد أيضًا أحقية اليمن لمناطق "عسير، جيزان، ونجران"، ولتوضيح ذلك، أود تأكيد الحق التاريخي، والقانوني من مصادر مختلفة على النحو التالي:
1- من ناحية جغرافية، وباتفاق المصادر والوثائق، إن إقليم اليمن يحده من الشمال إقليم الحجاز، واليمامة، ونجد، ومن الجنوب خليج عدن، وبحر العرب، ومن الشرق خليج عمان، ومن الغرب البحر الأحمر.
2- وصف المؤرخ "الأصمعي" حدود اليمن: "اليمن" وما اشتمل عليه حدودها بين (عمان) إلى (نجران) إلى (عدن) إلى (الشحر) حتى يجتاز (عمان) فينقطع من (بينونة)، و(بينونة) بين (عمان) و(البحرين)، وليست (بينونة) من اليمن، وقيل: حد اليمن من وراء (تثليث) وما سامتها إلى (صنعاء)، وما قاربها إلى (حضرموت) و(الشحر) و(عمان) إلى (عدن أبين) وما يلي ذلك من (التهائم والنجود)، واليمن تجمع ذلك كله.
3- ذكر "الحسن بن أحمد الهمداني" في كتابه "صفة جزيرة العرب"، وصاحب كتاب "الإكليل في أنساب القبائل اليمنية"، أن حدود اليمن من (وادي تثليث) و(وادي الدواسر) و(العبلاء) في الشمال، وشرقًا إلى (عمان) وجنوبًا إلى (عدن)، وألحق بها (الجزر المحاذية في البحر الأحمر).
4- يؤكد الخبير القانوني "زيد محمد الفرج"، الحق التاريخي، والقانوني لليمن في محافظات "نجران" و"جيزان" و"عسير" و"جزيرة فرسان" و"الوديعة" و"شرورة"، و"الربع الخالي في الجزء المتعلق باليمن"، تبلغ مساحة هذه المناطق مجتمعة نحو "أربعمائة ألف كيلومتر مربع"، إذا أخذنا في الاعتبار جانبي مساحة اليمن شمالًا، وجنوبًا. ولتأكيد ذلك يوضح الفرج أن "اليمن منذ الممالك قبل الإسلام مرورًا بالعصر الإسلامي حتى الحكم العثماني لولاية اليمن طبقًا للمصادر، والخرائط، والمستندات كافة، والتي تجمع لما أوجزه المعتمد البريطاني "هارولد جاكوب" في كتابه الصادر عام 1923م، إن اليمن تبدأ من موقع (الليث) بساحل البحر الأحمر عند خط العرض 20، وخط الطول 44، وهو حد ما بين (اليمن) و(الحجاز)، وان (اليمامة) هي حد ما بين (اليمن) و(نجد)".
هكذا تقول المستندات الموثوقة، فأرض "نجران"، و"جيزان"، و"عسير" بكافة نواحيها وجزرها، جزء من اليمن عبر التاريخ.
5- تنص وثيقة رسمية حول ترسيم الحدود بين السعودية، وحضرموت، ممثلة بالدولة الكثيرية، عام 1950م، برعاية بريطانيا، على الآتي: حدود حضرموت تصل إلى (عروق الشيبة)، مما يعني أن (خراخير) و(الوديعة) و(شرورة) جزء لا يتجزأ من (حضرموت) بموجب الوثيقة التي وقعت عليها (السعودية)، و(الدولة الكثيرية) و(سلطنة عمان)، و(بريطانيا)، واستنادًا إلى الخرائط الموقع عليها سعادة المندوب السامي البريطاني، الوالي والحاكم، لـ(حضرموت الدولة القعيطية الحضرمية)، و(الدولة الكثيرية) تحت حماية حكومة صاحبة الجلالة الملكة إليزابيث.

كما نصت هذه الوثيقة على التفاصيل الحدودية التالية:

شرقًا: (الس حبروت) الفاصل الحدودي (وادي حبروت).
شمالًا: (مسائيل الرملة) إلى (عروق الخراخير) وامتدادًا إلى (عروق الشيبة) ومن (عروق الشيبة) شرقًا إلى (رملة زعبلوت) الفاصل الحدودي (ركال الربع الخالي) شمالًا.
غربًا: (شفاق عمرات)، وتعتبر هذه الأرض، وحسب ما نصت عليه الوثيقة والاتفاقية بين الأطراف المذكورة في (الوثيقة)، "بأن هذه الأرض جزء لا يتجزأ من (حضرموت) متماثلة بقبائل البادية الساكنين على ترابها من (قبيلة الرواشد آل كثير) و(قبيلة المناهيل) وبعض من (قبائل البادية الحضرمية) المتنقلين في ترابها، وشقاق رمالها على ظهور الجمال شرقًا وشمالًا، ولا يحق لأي حكومة مجاورة أو مواطنين أجانب الدخول، أو السكن فيها حسب النظم والقوانين الدولية".
6- استولت السعودية بعد "معاهدة الطائف" على منطقة شاسعة، وهي المنطقة الممتدة من "نجران" و"جبل ثار" إلى "شرورة" التي تم الاستيلاء عليها -أي شرورة- عام 1960م، و"الوديعة والمناطق المجاورة لها" عام 1969م، و"منطقة صحراء الربع الخالي اليمنية الشاسعة" الممتدة من خط العرض 22، وخط الطول 46 و52 شرقًا، إن تلك الأرجاء الشاسعة تختزن ثروات نفطية هائلة تستغلها السعودية منذ عشرات السنين، بحكم الأمر الواقع.
وتمضي عشرون عامًا، وبسبب ظروف اليمن الداخلية حينذاك، تجددت المعاهدة تلقائيًا عام 1954م، وفي عام 1965م، صدر "بيان جمهوري" بعدم اعتراف المشير عبدالله السلال، أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، بـ"معاهدة الطائف"، وأعلن التمسك الكامل، والمطلق بملكية، وتبعية "عسير" و"نجران"، و"جيزان" للجمهورية العربية اليمنية أرضًا، وبشرًا، وتاريخًا، ومصيرًا.
وعلى هامش التطورات في المنطقة، التقى الزعيم جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، في عدة مناسبات، بهدف معالجة الأوضاع في اليمن والعلاقات الثنائية. ولأمور طارئة تقرر الانسحاب التدريجي للجيش المصري من اليمن، بخاصة بعد نكسة 5 يونيو 1967م، وأثناء زيارة الرئيس عبدالله السلال للعراق، أطيح به في انقلاب 5 نوفمبر 1967م، في مؤشر أن الدور المصري بدأ ينحسر في اليمن، قابله بروز الدور السعودي في شؤون اليمن الداخلية بجلاء، ثم قيام الصلح بين الجانبين الجمهوري، والملكي، تحت رعاية السعودية، واعترافها بالنظام الجمهوري عام 1970م، وبهذا الاعتراف دخلت البلاد في مرحلة جديدة.
في 17 مارس 1973م، وبعد مرور أقل من أربعين عامًا على "معاهدة الطائف"، تم إصدار البيان اليمني بتوقيع القاضي عبدالله الحجري، رئيس الوزراء، والأستاذ محمد أحمد نعمان، نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية، واعتبر بمقتضى هذا التوقيع أن الحدود اليمنية -السعودية بـ"معاهدة الطائف" "نهائية، ودائمة" -أي مرسمة بشكل نهائي- وهو ما يتناقض مع روح المعاهدة، ومع بيان الرئاسة اليمنية عام 1965م، وبالتالي، لم يحصل البيان على موافقة شعبية، وعليه، لم يمرر البيان، وبقت "معاهدة الطائف" بصفتها الأصلية كمعاهدة يتم تجديدها كل عشرين سنة دون تفريط، أو تنازل نهائي بحقوق اليمن التاريخي.

قامت ثورة 13 يونيو 1974م التصحيحية بقيادة الرئيس إبراهيم الحمدي الذي سعى جاهدًا أن ينقذ البلاد من التدخل الخارجي، ومواجهات التبعية للغير، وحاول أن يستثمر جهوده مع النخبة الوطنية من جميع الشرائح الاجتماعية، والعلمية، والثقافية، والعدلية، والشرطية، والعسكرية (بقدر الممكن) لنهضة اليمن، والعمل صوب تحقيق الوحدة اليمنية، وبناء اليمن كفاعل إقليمي، ودولي، يتخذ قراره الوطني كدولة ذات سيادة قائمة على موروث، وموارد، وممرات استراتيجية،

بمنأى عن التبعية. ومن هذا المنطلق، توصل الرئيس إبراهيم الحمدي مع رئيس الشطر الجنوبي سالم ربيع علي، إلى اتفاق لإقامة الوحدة اليمنية. وقبل ساعات من سفره للإعداد النهائي لإعلان قيام "دولة الوحدة اليمنية"، اغتالته يد الغدر، والخيانة، يوم 11 أكتوبر 1977م، وبمشاركة خارجية موثقة.
يقينًا، شهدت مرحلة حكمه القصيرة تقدمًا كبيرًا في شتى المجالات التنموية، وبوضع أول نهج اقتصادي للنهوض بالبلاد، كما شهد عهده علاقات خارجية مع الدول الشقيقة، والصديقة، وكان مقدامًا في انتزاع حقوق اليمن من الغير. واستحضرني ذلك ذكر زيارته المفاجئة إلى "الرياض"، عام 1975م، والتقائه الملك فيصل بن عبدالعزيز، دون سابق بروتوكولي. في بداية الاجتماع قال له الملك: ما هكذا تدار الأمور، وهناك عادة بروتوكول، وتنسيق دبلوماسي، أجاب الرئيس الحمدي: ليس بيننا وبين السعودية رسميات، ولا بروتوكول، نحن أرض واحدة، وشيء واحد، والعمق السعودي يبدأ من "صنعاء"، والعمق اليمني يبدأ من "الرياض"، في إشارة واضحة منه إلى ما يجري من تواجد، وتدخلات في الشؤون اليمنية الداخلية، وقد كان صريحًا بشأن صدور قرار سعودي بمنع تمليك اليمنيين محلات تجارية وغيره، وقال مخاطبًا الملك فيصل إن القرار يعتبر انتهاكًا لمعاهدة الطائف، وبالمقابل سيتم إلغاء المعاهدة (رغم أنه لا يعترف بمعاهدة الطائف، ومتمسك بملكية، وتبعية عسير، ونجران، وجيزان، مناطق يمنية بالكامل أرضًا، وتاريخًا، ومصيرًا)، وجاء الرد الرسمي السعودي بعد ساعات قليلة باستثناء اليمنيين، وتمضي الأيام ثقيلة بمطباتها.
وقبل قيام الوحدة اليمنية (المستحق التاريخي لليمنيين شمالًا، وجنوبًا، وبتضحيات سالت على إثرها شلالات من الدماء الزكية، وبصورة لم تكن متوقعة لعامل التوقيت، والمتغيرات الدولية، وباستعداد عابر، قامت الوحدة اليمنية)، حاول الجانب السعودي إقناع المسؤولين في "الجنوب" بفصل موضوع الحدود بين "الجنوب" و"السعودية" في نصوص "اتفاقية الوحدة"، بحيث يبقى هذا الشأن تحت سيطرة "الجنوب" لا الحكومة المركزية في الترتيبات الدستورية التي يجرى إعدادها لدولة الوحدة، وإقناع هؤلاء المسؤولين بتشكيل لجنة فنية بينهما للنظر في مشكلة الحدود، بل حاولت السعودية إقناع المسؤولين الجنوبيين بالتوصل بسرعة إلى ترسيم الحدود مع السعودية، بحيث يصبح أمرًا واقعًا أمام دولة الوحدة عندما يتم إعلانها، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث أعلنت الوحدة بين شطري اليمن، وتضمن أول (بيان) صادر في 20 يونيو 1990م، لأول رئيس وزراء لدولة الوحدة (الجمهورية اليمنية) د. حيدر أبو بكر العطاس، إعلانًا واضحًا وصريحًا، "إن الجمهورية اليمنية الجديدة الموحدة، على استعداد لحل قضايا الحدود كافة، برًا، وبحرًا، مع جيرانها، على أساس الحقوق التاريخية والقانون الدولي". طلب الجانب السعودي من الجانب اليمني ضرورة الاتفاق على ترسيم العلامات الحدودية التي وضعت بين البلدين بموجب "معاهدة الطائف"، أي أن السعودية تريد اعترافًا رسميًا من اليمن بترسيم الحدود بشكلها الحالي نهائيًا، بحيث تبقى كل من "نجران، وجيزان، وعسير" تابعة للسعودية، وفي وضع غير قابل للتراجع أو النقض، أما الجانب اليمني، فقد اعتبر من خلال اجتماعات اللجان الثنائية في الثلاث السنوات ما بعد الوحدة، أن "معاهدة الطائف" لعام 1934م ملغاة منذ سبتمبر 1992م، وهو يعارض تجديدها، والهدف اليمني هو عدم إعطاء السعودية اعترافًا نهائيًا، وشرعيًا بالحدود الواقعة بين البلدين، إلا أن الجانب السعودي تمسك بالمشروع الذي اقترحه عند بدء المفاوضات في سبتمبر 1992م، وهو الإبقاء على "معاهدة الطائف"، كما هي، إضافة إلى ترسيم حدود بحرية في البحر الأحمر غير منصوص عليها في المعاهدة، وقد قدم الجانب اليمني إلى الجانب السعودي خلال اجتماع اللجنة الثنائية في "تعز"، أغسطس 1993م، مقترحات تتضمن البدء بالتفاوض على خط الحدود الذي لم تتضمنه "معاهدة الطائف"، وظلت العقدة السعودية تراوح على حالها، وهي المتمثلة في الوصول إلى مياه "المحيط الهندي" عن طريق اختراق حدود اليمن إلى "بحر العرب"، وعدم المساس بـ"معاهدة الطائف"، وهو يعارض بشدة اتفاقية الحدود بين "اليمن وسلطنة عمان"، التي لم يكن مشاركًا فيها.
يقينًا، إن الأحداث حينذاك كانت متسارعة، فقد تلى "حرب الخليج" الأولى قيام "الوحدة اليمنية"، واتضح أن اليمن تزخر بمخزون هائل من النفط، وعليه، أثيرت المشكلة الحدودية من قبل السعودية من جديد إثر الاتفاق على ترسيم الحدود نهائيًا بين "اليمن" و"سلطنة عمان"، على أساس "إن (الرياض) تعتبر أن هذا الاتفاق يحرم السعودية منفذًا مباشرًا على البحر". وفي أواخر عام 1994م ومطلع 1995م، وبعد مواجهات حدودية، تم توقيع "مذكرة تفاهم" بين البلدين لتجديد "معاهدة الطائف"، وتقضي المذكرة بتطبيع العلاقات، وبدء مفاوضات ترسيم الحدود التي بدأت عام 1995م، ولم تؤدِّ إلى نتيجة، وشهدت المنطقة اشتباكات حدودية أخرى في نوفمبر 1997م، وفي تاريخ 17 يوليو 1998م، وجهت الحكومة اليمنية اتهامًا رسميًا للمملكة العربية السعودية بالاعتداءات المستمرة، واقتطاع الأراضي اليمنية، في إطار ما تسمى سياسة فرض الأمر الواقع، وممارسة الضغوط على اليمن.
وهكذا تكون القراءة شملت مجريات الأحداث بين اليمن والسعودية طيلة 66 عامًا.. يليها تقديم "قراءة في معاهدة جدة" الموقعة في 12 يونيو 2000م، بين الجمهورية اليمنية والمملكة العربية السعودية.