حكاية جميلة.. اسمها محمد أنعم خويلد

محمد أنعم خويلد
محمد أنعم خويلد (النداء)

ظلت عدن لسنوات طويلة جزءًا منا في منطقة الحجرية.

ونحن في قدس.. الكدرة، ظل نقيل الجواجب القطار الذي عرباته من حمير تنقلنا منها وإليها نعود.

على حافة النقيل يشرف دار الحاج سلام على صبن والمصلى، وفي الأماسي نظيفة السماء يمكن لك أن ترى أضواء السيارات في منصورة عدن.

كنت تسمع النهدة تتلو التنهيدة الحرى، وجلست بجانب أحد ممن عرف عدن وتربى عمره فيها.

ذات نهار جلست بين اثنين:

البحار العتيق محمد سلام خُويلد، وعلى يساري العم عبدالرزاق الصانع، كانا يتكلمان عن عدن وأيام فرنسا التي ذهب إليها خويلد.

فجأة صمتا، لاحظت الدموع تتسلق خدودهما... لن أنسى تلك اللحظة المكثفة، عرفت لحظتها لماذا سمى محمد عبدالولي واحدة من أروع قصصه: "شيء اسمه الحنين".. دريت لحظتها أية لحظة تتولاك حين تحن إلى المكان.

عدن لم تكن مكانًا فقط، كانت زمنًا ظل طويلًا يهدي سفن الحائرين إلى مراسيها، على شواطئ الحنين التي عندما تقرأ محمد أنعم غالب عنها لا تملك إلا أن تبكي وبشوق لا يدانيه شوق.

عدن حكاية لم تنتهِ، وقصص قصيرة توزعت هنا وهناك، أسماء لمعت، وأخرى اختفت بين أمواج السنين.

حكايات عن رجال صنعوا الحياة، وأية حياة..

الحاج سلام كان حكاية قائمة لوحدها، جذورها هناك في تلك الدار الشاهدة على سيرة طريق ظل يعبرها الحالمون بغد أفضل، أولئك الذين نزلوا إلى عدن بقمصانهم المسكونة بالقمل، العائدون بالشمزان النظيفة وفوط إندونيسيا "أبو تفاحتين".

الحاج نعمان، محمد سعيد، عقلان سعيد الغنامي، محمد نعمان علي "الورّاد"، من كانت هيبته تملأ الشيخ عثمان، إلى مجاهد أحمد عباس، وعبده جلود من كانا "يغلقان" حارة عندما يتعاركان مع الصومال.. اثنين "بتانات"[1] يغلقان مقهى، أحدهما يصفي حسابه بعصاه في الداخل، والآخر خارجها يستلم ما يرمى إليه، فينهي المهمة، كان "السواق" يومها ملك ملوك.

تلك الطريق بين عدن والمصلى شهدت الرجال الذين قاسوا وعانوا، ولكنهم لم يضعفوا، ولم يتراجعوا، أسماء كثيرة من منطقة الأحكوم، وحكايات رجولة لا تنتهي، لاتزال مرسومة على جدران دكاكين المصلى.

ومن تلك النقطة التي يهبط إليها من يأتون من قدس وبني حماد وبني يوسف وسامع، يلتقي مع القادمين من دبع وبني شيبة والأخمور والأيفوع، يهبطون عبر النقيل الآخر "بسيط"[2]، وفي المصلى يرتاحون في دكان ابن نعمان راجح، حتى يسمعوا "هون"[3] بابور أحمد نعمان "باولة"[4]، أو "عنترناش"[5] الحكيمي، وتراهم يركبون على "لند روفل"[6] ابن يوسف.

المصلى كانت عالمًا قائمًا بحاله، تسكن الحكاية الآن جدران ما تبقى من آثار زمنها الجميل، أما المصلى فقد اندثرت، كما اندثرت أشياء جميلة كثيرة... والطريق؟ ماتت، لم تعد الحمير صاعدات بالخير، هابطات بالأمل، طريق عرفت خلال ما يربو على 132 عامًا، آلام الناس وآمالهم وأحلامهم.. سمعت همس أرواحهم، رافقتهم في الصعود والهبوط.

كان حمار الشيخ أحد رموز تلك الطريق، لا يسمح لحمار آخر أن يسبقه ويكون في المقدمة، مثل تلك الغنمة المشهورة البيضاء حق عبده أنعم شقيق محمد الذي كان حكاية قائمة بحالها، تعرفها ولايزال كبار السن يرددونها في قريته "الجِواجِب" المشرفة على الأفق الذي ينتهي في البحر، وتستقبل كل صباح صعود الشمس من البحر إلى سماء الأعبوس والأعروق، وإلى الـ"كَدَرة" قدس، تصل مصافحة عيون من يذهبون إلى شرف النقيل، ينتظرونها تصعد رويدًا حتى تستقر على قمة جبل "مطران"، أو كما فاضل الربيعي "جبل تعز".

محمد أنعم خويلد - البحار العتيق
محمد أنعم خويلد - البحار العتيق (النداء)

كنا بشغف نظل نسمع عن محمد أنعم خويلد، نسمع بعضها من العم عبدالواسع إمام مسجد قريتنا الصغير، الذاهب العائد إلى ومن عدن.

كنا نظل نسترق السمع وهو يردد:

الله لو تشوفه لابس السروال حق الإنجليز، وجهه "يُشاصِي"[7]، ويواصل بانبهار:

محمد أنعم طباخ المندوب السامي حق الإنجليز..

يومها كان الطباخ والسائق ملوكًا يمشون على الأرض، يحسدهم الحاسدون.

يواصل العم عبدالواسع حديثه بانبهار بين صلاتي المغرب والعشاء، وكبار القرية يستندون على جدار المصلى المفتوح:

أما لو تشوفوا بيته الجبل بتتجننوا...

يظل الرجل بعد ذلك الحديث المتكرر كلما عاد العم عبدالواسع يداعب خيالنا نحن صغار السن.

أما النسوة اللائي يذهبن لزيارة زوجته يوم الجمعة، فيَعُدْن منبهرات بـ"الكُتلِي"[8] عندما "يلصي"[9] من الجدار، يشربن الشاي وهن غير مصدقات، عندما يعدن إلى القرية تراهن يتحدثن كما لو عن أساطير، يصفن شكل البيت والفراش وكل صغيرة وكبيرة بإفاضة لا تنتهي.

كان محمد أنعم أحد الموظفين الكبار عند الإنجليز، بل ربما صاحب الحظ الكبير أن يعمل في بيت كبيرهم.

ذات صباح، وكنت خارجًا لأنضم لرفاقي ذاهبين إلى اللعب أو إلى "المعلامة"[10]، وجدت أمامي رجلًا يلمع كل ما فيه... كوفية على الرأس خاطتها امرأة مبدعة بخيوط ملونة، وهو وضعها على رأسه بطريقة تدل على ذوق رفيع.

وجهه مبتسم، ودود، سألني:

ابن من أنت؟

قلت سريعًا وجلًا:

أنا ابن قاسم..

بسرعة احتضنني:

ابن شيخنا الكبير؟!

من كيس في يده أخرج كمية من "المُليّم والشِّكليت"[11] جعالة عدن، كاد لحظتها قلبي أن يتوقف من الفرح..

أين عمك عبدالوهاب؟

قلت:

فوق

سِيْر صيِّح له...

لم أسأله من أنت!

كان بالي عند ما في جيبي من جعالة.

قطعت المسافة من الباب إلى حيث عمتي، قلت لها همسًا:

الرَّجًال الذي يُدَوِّر عمي أعطاني مليم وشكليت كثير، ها خبيهن...

عمتي تضحك ويعلو صوتها:

الرجال يدورك، كلامها يرسل إلى أذن عمي الذي يحشر نصف جسده في النافذة الصغيرة:

من؟

محمد أنعم.

ينزل عمي هرولة على درج الدار المظلم..

تعانقا بحرارة.

قال عمي:

اطلع جيب مفتاح الديوان وثلاجة شاي..

في الديوان ظللت أمسح محمد أنعم من أخمص قدميه حتى رأسه..

النعمة بادية عليه.. شميز جميل نظيف، فوطة أبو تفاحة، من كان يلبسها ليس رجلًا عاديًا... بالمجمل كان رجلًا أنيقًا بلا حدود.

و"الباكورة"[12] في يده عندما غادر الديوان كانت غير ما يحمله الآخرون.

عاد عمي إلى الدار محملًا بهدايا محمد أنعم.

تكررت الصورة في السنوات التالية..

عرفت محمد أنعم، جيدًا، عرفت أنه كان يصل من عدن، يضع حقيبته، يلبس جديد الثياب، ويهبط إلى قريتنا باحثًا عن صديقه: عمي.

لم يكن ذلك الرجل أنيق النفس، يلبس جميل الفوط والشمزان، بل اكتشفت هذه المرة من خلال صورة حصلت عليها بطريقتي، أنه كان يلبس ملابس النصارى، فبدا بربطة العنق أنيقًا بلا حدود، وفي ذلك الزمن الأنيق.

توفي الرجل مبكرًا...

لم ينسَ أمر التعليم، فدفع بأولاده إلى المدارس.

مرة واحدة رأيت دموع عمي على خديه عندما أخبروه أن محمد أنعم خويلد مات..

حكاية لم تنتهِ، لاتزال تعمر خيالًا إلى اللحظة وإلى الأبد لرجل ملأ جيبي من جعالة عدن.

 

(9) يلصي، يضاء

(10) المعلامة حيث كان الفقيه يقوم بتدريس الأطفال

(11) المليم والشكليت نوع من أنواع الشوكولاتة

(12) الباكورة، عصا اليد

 

النداء

5 نوفمبر 2023

عبدالرحمن بجاش

 

[1] - رجال أقوياء

[2] - اسم الناقل

[3] - صوت منبه السيارة

[4] - باولة نسبة لعملة متداولة كانت قبل ثورة 1962.

[5] - عنترناش، سيارة نقل كبيرة "International"

[6] - سيارة لاند روفر

[7] - يشاصي، يلمع بقوة

[8] - الكتلي، البرّاد

[9] - يلصي، يضاء

[10] - المعلامة حيث كان الفقيه يقوم بتدريس الأطفال

[11] - المليم والشكليت نوع من أنواع الشوكولاتة

[12] - الباكورة، عصا اليد