تاجر البندقية مجددًا

حين كتب الشاعر الإنجليزي الأشهر مسرحية تاجر البندقية أو تاجر فينسيا، عام 1600، لم يذهب بعيدًا عما كتبه بعده المفكر الألماني برونو باور، بمائتي سنة ونيف، حول شخصية التاجر اليهودي شيلوك رب المال الشره المتعطش دومًا للدماء تسيل على أراضٍ يلهو بجغرافيتها.

شيلوك الرأسمالي حسب تسمياته المختلفة عبر العصور، يعيش داخل الجيتو الخاص به، جيتو يخنق العالم، يهد المعبد على الجميع إذا تطلب الأمر ذلك.
تاجر البندقية الأشهر في التاريخ شيلوك المتلذذ بقضم لحم الآخرين، ويطير فرحًا لرؤية الدماء أنهارًا تسيل، هو هو التاجر الرأسمالي المتصهين الذي يريد مع سبق الإصرار أن يبتدع إلهًا خاصًا به، يرى أن الدين إنما أُرسل خصيصًا لأجله، وليس لكل البشر. تلك روح شريرة تتملكه هي حالة عاشتها تحديدًا أوروبا ككيانات سياسية عاش الشيلوك اليهودي تحت ظلها خالقًا متعمدًا كيانًا خاصًا به... جيتو يحصنه بحصانة لاهوتية تجعل منه كائنًا فوق البشر، يمتلك حقًا منافيًا لما يعتقدون دينًا وسياسة وكيانات... دينه ومعتقده في كل الأحوال كان اليهودية المغلفة بالمال وقوة المال وحدها، ليتشكل العالم حسب هواه!
حين كتب شكسبير مسرحية تاجر البندقية إنما أراد أن يعري انعزالية وانتهازية ودموية قاطن الجيتو شيلوك، مدعيًا خصوصية له يراها تحلق فوق البشر، تحميها مظلة إلهية خاصة به... شعب الله المختار... هذه الشخصية المثيرة للجدل والمقززة معًا تناولها شكسبير بعبقرية يحسد عليها، وعبرها دلف إلى كوامن ما تخفيه هذه الشخصية المربكة من جملة تناقضات قاتلة، إذ هي شاذة انعزالية لا تقبل العيش المشترك، تنكر على الآخرين ما يقرره هو لنفسه غيبيًا من حقوق إلهية لا تمس، تباركها السموات عبر تجليات ألوهية خاصة به لا يشاركه أحد في طقوسها ومزاياها، تلك العناية الإلهية له وحده.
شكسبير بلغة الشاعر الإنسان، إنما كان بفنية عالية يكشف ويعري تناقضات هذا الكائن المتعطش للدم والمال، تاجر مصالحه خارج مصالح مجتمعه ومحيطه وعالمه، تمامًا كما عرى حالة العداء بين المسيحيين واليهود حينها، قبل تحول العلاقة إلى تحالف زواج كاثوليكي لا تنفصم عراها بين رأسمالية تنهب تقتل وتستعمر وتبحث عن أسواق وسرقة فرص وثروات الآخرين، وبين مهمة وسعى شيلوك لقطف ثمار المواسم عنوة وخلسة، تحت وازع ميكيافيلي "الغاية تبرر الوسيلة". هنا تكمن الفكرة الأساسية التي طرحتها المسرحية؛ تعرية لانتهازية شيلوك، وهو يلغي ويقتل ويبرر قضمه ومسالخه، وإمعانًا في تغربه عن مصالح الآخرين والمحيط المعايش له، مدعيًا كذبًا الاضطهاد عبر كونه يهوديًا له مكانة تعلو مكانة الجميع، هي شخصية شاذة تجمع بين الحقد والكراهية للآخر، والتعطش للدماء سواء بصورة ولهه وعشقه المزيف لدليلته عبر حب كاذب، هو لا يحب إلا المال، تمامًا كما يحب العزلة داخل جيتوهات كالحة خاصة به، ملاذًا وسلامًا له، تاركًا بخبثه وحقده وجهنميته، جهنم الحمراء للآخرين.
يميل للعزلة، وتقتله الرغبة للانتقام الأعمى، الانتقام لمجرد الانتقام، لا يتورع كما عرته المسرحية حين تجرد من إنسانيته وآدميته، طالبًا رطلًا من اللحم من جسد التاجر الإيطالي أنطونيو، ثمنًا لقرض عنده، هي هذه روح اليهودي الكالح الذي ظل تائهًا خارج قوانين المجتمعات التي قطنها، خالقًا لنفسه عالمًا من خيالاته وهذيانه.
هذه الحالة السوريالية الفجة التي تفضل عيش الجيتو بديلًا عن الاندماج مع الآخر ضمن كينونة مشترك إنساني، ذلك بالنسبة للصهيونية الكامنة في أعماق شيلوك أو اليهودي التائه، الرافض للعيش الإنساني المشترك، يرفض مفهوم دولة المواطنة، ينظر للعالم من ثقبه الأسود الضيق، تلك هي جدلية اليهودي التائه عن مفهوم إنسانية الإنسانية، هو مجرد وحش متجرد من القيم، إلا قيم المال بشراهتها، والسوق وصراعاته، وكلها مفاهيم قد حدت بالمفكر الألماني لتناولها بالنقد والتحليل، محللًا معضلة شيلوك واغترابه الدائم عن المحيط الذي يعيشه. هنا نشير إلى أن ماركس في نقده لمفاهيم وتحليلات باور، عاب عليه مجرد نقد مفهوم الدولة بطابعها المسيحي، ولم يحلل وينقد مفهوم الدولة كمفهوم طبقي في إطار من علاقات إنتاج صراعي. أنا هنا أشير تحديدًا لما تناوله وطرحه كتاب "في المسألة اليهودية" لكارل ماركس، المكتوب عام 1843، لينشر بعدها بعام، وفيه تناول بالتحليل والنقد كتاب باور "في المسألة اليهودية" من قبل المفكر الألماني، مفندًا وناقدًا حالة الاغتراب لليهودي عن مجتمعه الألماني، بل تمادى به الأمر، مطالبًا الشعب الألماني بتحرير اليهود من آثام الدولة الألمانية المسيحية ضمن مونولوج جيتوي قبيح منعزل متعالٍ ينعزل عن مفهوم المواطنة بحثًا ليهوديته عن عرش يعتليه لوحده، ثم يوجه بخبث بعدها اللكمات للأديان كافة، مقدسًا ديانته... هكذا انتقد باور اليهود كحالة انعزالية أنهم يطالبون بحرية خاصة بهم خارج حرية الشعب الألماني كله، يريدون التحرر من ربقة وسيطرة وهيمنة الدولة المسيحية، حتى لو وصل الأمر إلى إلغاء الدولة ودينها، فقط هو يذود عن فكرته الجهنمية، إذ هو نوع خاص من البشر يدفع ليعيش هو أولًا، والآخرون لهم الفناء والجحيم، كما يريد حاليًا للشعب الفلسطيني، وللأسف الشديد تعيش ألمانيا اليوم حالة اغتراب عن فكرها وتراثها الإنساني.
القيمة التاريخية لهذا الكتاب "في المسألة اليهودية"، أنه الوثيقة الجادة في تعريتها لأسلوب تعامل أوروبا كدولة ودين مع اليهود الذين كانوا ومايزالون يرفضون على الدوام دولة المواطنة وفكرة العيش المشترك بمفهومها الإنساني. للأسف الشديد الاضطهاد الذي شهده الشعب اليهودي في أوروبا وأسوأ تجلياته كانت الهولوكوست التي كانوا سببها وظلوا دومًا يدفّعون الغير ثمن انتهازيتهم، وثمن تزييفهم القول بأنهم حالة خاصة في التاريخ والمكان، لأنهم شعب الله المختار، وباتوا حاليًا يدفّعون الشعب الفلسطيني ثمن اضطهاد أوروبا لهم، وأوروبا تشاركهم هذا الجرم.
كتاب "في المسألة اليهودية" من أدق الوثائق التي تعري طابع التحالف القمعي بين الجذر الصهيوني للمسألة اليهودية، وتتابع مراحل تطور الرأسمالية عقب حلقاتها المتتابعة الاستعمارية كحلقات سيطرة واستعمار واستغلال بالمعنى الإنساني والطبقي.
إنه كتاب مهم للغاية يكشف ذلك تمامًا، كما يفضح ويعري هذا التكالب الغربي المزري الداعم لدولة الكيان وهي تبيد شعب فلسطين، وهم مع سبق الإصرار يلغون جرائمهم التي ارتكبوها، ويلغون عقدة ذنبهم على حساب غزة وشعب فلسطين، باعتبارهم أصحاب حق أصلاء، وليسوا دخلاء عبر هجرات وموجات للجيتوهات جلبتهم أوروبا إلى أرض فلسطين التاريخية، بها شعب يسكنها ويقطنها جردوه ورموه خارج بلادهم، وها هم اللحظة يباركون إبادته دعمًا لكيان متقدم أقاموه لخدمة مصالحهم.
هنا أتت اللحظة التاريخية لإيقاظ الوعي الأوروبي المغيب الفاقد كينونته الإنسانية... إنها دعوة ليفيق من سباته العميق تمامًا كما عاد وعاد العالم معه إبان استفحال أزمة رأسمالية العولمة منذ سنوات، ليعود العالم في لحظة استعادة الوعي لقراءة ومراجعة ما تضمنه كتاب "رأس المال" لكارل ماركس، باعتباره كتابًا كافيًا في عمقه وتحليله لجوهر الاستغلال الرأسمالي، والربط بين ما يبينه تحليل ماركس العميق لتناقضات قوانين الرأسمالية في مراحلها المختلفة استغلالًا للإنسان تمامًا كما عرى شكسبير جهنمية شيلوك وجشعه ونهمه الملازم له من حين كان حتى اللحظة.

أوروبا كانت مصيدة لليهودي العازف عن الاندماج مع قوانين مجتمعها، ووجدوا للأسف ضالتهم بتهجير يهود أوروبا إلى أراضي فلسطين، على أنقاض دولة فلسطين التي كانت جولدا مائير الألعن تعيش بها وتحمل جنسيتها قبل إقامة دولة الكيان الصهيوني.. وهي الأوكرانية الأصل والمنشأ.

التاريخ بحقائقه يعري هذا الهوس الأمريكي الأوروبي الدعم دعمًا مجنونًا لكيانهم المشيد على أجساد شعب فلسطين وحقوقه المشروعة.
ها هى غزة تغرق في الدماء كامل أرض فلسطين، والذين بالأمس طاردوا واضطهدوا اليهود في أوروبا، يدعمونهم حاضرًا بالمال والسلاح والإعلام الكاذب الفاسق عيانًا جهارًا أمام أنظار العالم ضد الشعب الفلسطيني الصامد والمقاوم.
قراءة كتاب "في المسألة اليهودية" لماركس، مهم في هذه الظروف كأهمية المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني الباحث عن دولته المصادرة وكامل حقوقه وأرضه وسيادته المصادرة، إذ هو كتاب مهم تمامًا كأهمية وثيقة مسرحية تاجر البندقية التي تبرز الشياطين الجهنمية الساكنة روح شيلوك المحدث سواء في صورة نتنياهو داخل فلسطين المحتلة، أو الراهب الأرعن بايدن القابع داخل البيت الأسود، وريشي سوناك هذا الناعق من داخل مزامير البحث عن موقع على أجساد شعب فلسطين. كان وعد بلفور الوعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، آتٍ من البقعة التي يدير فيها ريتشي سوناك مؤامراته على الشعب الفلسطيني.
وعلى نفس المنوال، نرى الناعق الألماني يزيف تاريخ الإبادات التي ارتكبتها ألمانيا الهتلرية تحديدًا، على حساب قضية شعب فلسطين... وماذا نقول لإيطاليا ولتاجر البندقية في صورة حكومتها اليمينية المتطرفة في دعمها الأعمى لدولة الكيان الصهيوني... نسأل إن كنتم تسمعون هل نسيتم ما أكله شيلوك من لحم تاجركم وابنكم أنطونيو! حين قايض دَينه بلحم من لحمكم! تمامًا كما يقايض عولمة رأس المال التي يتربع على عرشها، وكلكم كالدمى ترقصون على جثث ودماء الأبرياء في فلسطين.
مشكلتنا الراهنة مع تغول وحشين محشورين معًا في قالب كوميدي قاتل يعتمد سيناريو رأسمالية القتل والتبرير والكذب.
رأسمالية صهيونية اللون والطعم والرائحة، تحميها بوارج عولمة قاتلة تدك وتقتل، ويظل الجلاد يضحك على مرأى الدماء تسيل، والعالم يدين ويشجب لسبب أساس، لأن شيلوك التاجر الصهيوني أراد، والوغد الإمبريالي يمول، يفتح أمامه القيود، ويضع على أعناق من يعارض المزيد من العقوبات والحصار.
حان وقت الرحيل إلى عالم جديد، إلى عالم لا تربكه قراءات شيلوك المغمسة بالدماء.
واسالوا شكسبير لما كتب رائعته "تاجر البندقية"..!