«الشبو» مخدر الحرب والقاتل الأغلى في اليمن

مضبوطات من مادة الشبو المخدر
مضبوطات من مادة الشبو المخدر (النداء)

في زاوية غرفة مظلمة داخل حي فقير بمدينة عدن، جلست منى (اسم مستعار) تبكي. كانت طالبة جامعية طموحة، لكنها وقعت في حب "الشبو". الآن، تبيع جسدها مقابل جرامين من هذا المخدر.

شاهدت سمر (اسم مستعار) صديقتها منى وهي تدمر نفسها بسبب إدمان الشبو، وأنقذتها من محاولة انتحار. لكنها لم تتمكن من مساعدتها في التعافي من الإدمان. استسلمت سمر أيضًا للإغراء، وسرعان ما أصبحت مدمنة. بمرور الوقت، دفعها إدمانها إلى ارتكاب جرائم، بما في ذلك السرقة وبيع المخدرات، لتوفير ثمن الشبو. تم القبض عليها بتهمة ترويج المخدرات، وهي الآن تواجه السجن.

حاول أحدهم قتل زوجته بعد أن تعاطاه، فيما اندفع آخر، لاغتصاب إحدى قريباته، آخرون قرروا إيذاء أنفسهم أو غيرهم، بطرق بشعة

في إحدى الحالات، حاول أحدهم قتل زوجته بعد أن تعاطاه، فيما اندفع آخر، لاغتصاب إحدى قريباته، آخرون قرروا إيذاء أنفسهم أو غيرهم، بطرق بشعة، وفقًا لشهادات المدمنين أو ذويهم.

ما سبق نماذج بسيطة لمعاناة آلاف الضحايا الذين دمرهم هذا المخدر الخطير الذي يلتهم أحلام اليمنيين، ويضاعف معاناتهم.

استمع معدو التحقيق إلى عدد من الشباب الذين يروجون ويتعاطون مخدر الشبو والمتعافين منه، وكيف عاشوا ويعيشون تحت تأثير هذا القاتل. لقد تحدثوا عن الهلوسات والأفكار المسيطرة والعنف والجرائم. كما أجرى معدو التحقيق مقابلات مع عدد من المسؤولين الحكوميين والأمنيين والخبراء في مجال مكافحة المخدرات، بمن في ذلك الأطباء النفسيون، الذين أكدوا مضاعفاته الخطيرة، من بينها: فقدان الذاكرة والوظائف العقلية، والاكتئاب والقلق، والعنف والإجرام.

الشبو مخدر منشط قوي يُعرف أيضًا باسم "الكريستال ميث" أو الكراك أو الآيس، يتم تصنيعه من مواد كيميائية أبرزها "الميثامفيتامين". وهو من أخطر المخدرات في العالم، حيث يسبب الإدمان بسرعة، ويؤدي إلى العديد من المشاكل الصحية والنفسية. ويطلق عليه الأمريكيون اسم "أم المخدرات" أو "الطاعون الأبيض" أو "مخدر الشيطان".

حتى عام 2019، لم يكن هذا "القاتل الصامت" معروفًا لدى اليمنيين، وغير موجود في ضبطيات الجهات الأمنية. وفي السنوات الأخيرة، صدم اليمنيون بارتفاع معدلات تعاطيه بشكل مرعب وسط المجتمع.

لا توجد إحصائيات رسمية بعدد المتعاطين لمخدر الشبو في اليمن، إلا أن الأرقام التي خلص إليها معدو التحقيق، من خلال مسح السجون والمصحات، وتفريغ التقارير التي تم الحصول عليها من إدارات مكافحة المخدرات، تكشف عن زيادات مهولة في نسب انتشار الشبو وتعاطيه، وبخاصة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عامًا، ما يؤشر إلى كارثة مرعبة. نسب الانتشار ترتفع بشكل متسارع منذ العام 2021، وتأتي محافظتا المهرة وحضرموت في الصدارة، تليهما باختلاف النسب شبوة، عدن، صعدة وتعز، وينتشر الشبو أيضًا في صنعاء وبقية المحافظات اليمنية، بنسب أقل، وفقًا للمعلومات التي جمعها معدو التحقيق.

أدت الحرب المستمرة في اليمن منذ عام 2014، إلى انهيار الأمن والاستقرار، ما تسبب بانتشار الجريمة، وخلق بيئة مواتية لانتشار المخدرات، منها الحشيش والكبتاجون. وفي السنوات الأربع الأخيرة، ظهر مخدر الشبو كمنافس خارق في سرعة انتشاره وإدمانه، وهو محور تحقيقنا. وارتفعت الكميات المضبوطة منه بشكل كبير، من 150 جرامًا عام 2017 إلى أكثر من 550 كجم في الأشهر التسعة الأولى لعام 2023، وفي العام المنصرم 2022 فقط، وصل عدد ما تم ضبطه من مادة الشبو إلى نحو طن ونصف، وفقًا لإحصائيات جمعها معدو التحقيق من كافة الجهات المعنية بمكافحة المخدرات في البلاد.

"ينتشر الشبو في اليمن كالنار في الهشيم"، حسبما يؤكد مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بوزارة الداخلية العميد عبدالله لحمدي، في ظل ضعف كبير لمواجهته، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة والعنف.

أكثر من طنين ونصف من الشبو تم ضبطها بين عامي 2020 - 2023م، وما خفي أعظم.

وبينما بلغت الكمية المضبوطة من الشبو، بين عام 2020 ونهاية سبتمبر 2023، أكثر من طنين ونصف، في مئات العمليات الأمنية، حسبما توصل التحقيق، يلفت لحمدي إلى أن كمية المضبوطات لا تعكس النسبة الفعلية للكمية التي ينجح المهربون في توزيعها في البلاد وتهريبها إلى دول أخرى، جراء الفساد وإغراءات المهربين.

لم تعرف عائلات هؤلاء الضحايا ما الذي دمرهم، إلّا بعد فوات الأوان. ولم تكن لديها أيّة فكرة عن كونهم في نظر الحكومة مجرد أرقام ضمن مئات من اليمنيين الذين يدمرهم "الشبو"، المخدّر الأكثر فتكًا بمدمنيه. ما لم يكن بمقدور أي من العائلات معرفته هو أن خسائرهم كانت مرتبطة بتجارة المخدرات، واحدة من أكثر الجرائم الدولية، وكذلك بفساد أطراف الصراع، وفي مقدمتهم الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي، حسبما يوثق التحقيق.

تقول أم مروان، فضلت عدم ذكر اسمها، لأسباب اجتماعية وثقافية: "لم أصدق أن ابني الشاب الذي كان دائمًا يشع بالحياة، أصبح مدمنًا على الشبو. كان يتحول إلى شيطان عندما يتعاطى المخدرات، كانت عيناه تلمعان بعنف، وصوته يعلو في نوبات غضب هستيرية. في إحدى المرات، حاول قتلي. كنت خائفة منه، ولم أعرف ماذا أفعل". مرت أشهر وأمه تغرق في الديون لعلاجه من الإدمان.

تعاطي العنف والجريمة

في اليمن يصل سعر الجرام الواحد من الشبو إلى 20 دولارًا بالحد الأدنى. وهو ثمن باهظ جدًا، بالنسبة لبلد فقير يعيش أكثر من 90% من سكانه تحت خط الفقر. في حين قد يصل سعر الجرام الواحد في السعودية إلى أكثر من 500 دولار، ويتجاوز في مصر 100 دولار. بينما يباع في إيران والعراق بأقل من 15 دولارًا للجرام الواحد، إلّا أن السعر ليس واحدًا من الأسباب وراء انتشاره، بل نتيجة شدة إدمانه.




من الإغراء إلى الخداع إلى الترهيب، يوثق هذا التحقيق استخدام مروجي الشبو، وسائل وأساليب متعددة ومبتكرة للإيقاع بضحاياهم، فبينما تتحدث منى عن استدراجها لتجربة الشبو، حينما كانت مع أصدقائها الجدد الذين عرفتهم بالجامعة، لنسيان خلافها مع عائلتها، والاستمتاع باللحظة، فقد أغروا حمزة بأنه منشط جنسي جبار، وبلا أعراض، أمّا رياض فأخبروه بأن الشبو يساعده على السهر وإنجاز أعماله بسرعة وكفاءة، هناك آخرون تعرضوا للخداع حرفيًا، وقدم لهم الشبو على أنه مادة أخرى، كعصام الذي تعاطاه في الشيشة، ومجاهد في السجائر، وإياد الذي تعاطاه باعتباره حشيشًا.

يفتقر اليمن لمراكز علاج الادمان، واجمالي الاطباء المعالجين في الجمهورية لا يتجاوز 45 شخصا.

يختلف تأثير الشبو من شخص لآخر، لكن خطره عالٍ جدًا في كافة الحالات والمراحل، بل قد يتم إدمانه من مرة واحدة. وبحسب الدكتور حسن بن عقيل، وهو مدير مستشفى النهى للطب النفسي وعلاج الإدمان، المستشفى الوحيد لعلاج الإدمان في حضرموت والمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، فإن "الشبو مادة منشطة ذات تأثير قوي جدًا على الجهاز العصبي، وسرعة إدمانه شديدة، بمعنى أن المتعاطي يمكن أن يتحول إلى مدمن خلال مرات قليلة جدًا قد تصل إلى مرتين فقط من التعاطي". موضحًا أن خطورة الشبو على الجهاز العصبي تكمن في أن المتعاطي قد يبقى لأيام دون نوم، ويشعر بأنه في حالة من القوة والنشوة والسعادة المفرطة، ومن ثم تبدأ عليه أعراض أخرى كالأوهام والقلق، واستعداده للقيام بسلوكيات عدوانية أيًا كان نوعها.

كلفة معالجة الادمان للشخص الواحد تزيد عن الف دولار، وتستمر من 3 - 6 أشهر

ويكشف الدكتور بن عقيل، في حديثه لـ"النداء"، عن استقبال المستشفى حالات في أوضاع صحية ونفسية سيئة جدًا، وحالتهم العقلية متدهورة للغاية؛ مدمنين حاولوا الانتحار، وآخرين حاولوا قتل غيرهم، بمن في ذلك ذووهم، فضلًا عن السلوكيات العدوانية الأخرى كالسرقات لتوفير قيمة الشبو. وعلى الرغم من الكلفة العالية لبرنامج علاج الإدمان التي تصل إلى ألف دولار للشخص الواحد بالحد الأدنى، وتستمر من 3 إلى 6 أشهر، تتجشم عشرات الأسر عناء تأمين ذلك لعلاج ذويهم، فيما تقف غالبية الأسر عاجزة عن توفير هذه التكاليف، ما يجعل الأمور أكثر مأساوية وتهديدًا.




خالد (اسم مستعار)، وهو أحد المروجين والمتعاطين للشبو، يشير في حديثه لـ"النداء" إلى قصص مأساوية ومرعبة شهدها لمتعاطي الشبو من أصدقائه، أحدهم فقد شبكية العين بسببه، والآخر اتهم زوجته وشكك في نسب ابنه، وثالث حدث له تشوّه خلقي في وجهه وجسمه، وآخر أصبح مجنونًا فعلًا. ويؤكد، وهو الذي بدأ تعاطيه في السعودية قبل 11 عامًا، أن مخاطر الشبو على الشباب اليمني أكثر دمارًا نتيجة للحالة الاقتصادية، متسائلًا: من أين للشاب 20 دولارًا يوميًا لشراء المخدر؟ وهذا ما اضطر كثيرين يعرفهم أو عرفهم في السجن إلى سرقة كل ما يستطيعون الوصول إليه للحصول على ثمنه.

لا تتوقف كلفة الشبو على المتعاطي وحده، بل على العائلة والمجتمع، ويؤكد خالد أن "إدمانه سريع جدًا، والاشتياق إليه كبير، ومن يستخدمه مرة ومرتين، مستعد يسرق أو يبيع أثاث منزله أو يقوم بأي عمل مقابل الحصول على جرعة من الشبو".

تكشف أم مروان، أن والد ابنها طرده من المنزل، ولم يتقبل فكرة أن ابنه كان مجرد ضحية لأصدقاء السوء الذين أعطوه هذا المخدر دون أن يعرف. وتضيف: كان لا يريد أن يعرف جيراننا ما حدث، لكن الجرائم التي ارتكبها بعد ذلك فعلت ما هو أسوأ، وأصبحت سيرتنا على كل لسان.




سعاد عبدالله، صديقة منى وسمر، تشير إلى أن كلفته الاجتماعية على النساء والفتيات المتعاطيات أكبر وأخطر، بل جريمة لا تغتفر، حيث يمكن أن يحوّل المتعاطية إلى عاهرة أو مجرمة بسهولة أو انتحارية، خصوصا عندما لا تجد المساعدة على العلاج، من عائلتها والحكومة بدرجة أساسية. وتدلّل على ذلك بمصيري صديقتيها. وتضيف: من غير المعقول أن تتفرج الحكومة حتى الآن دون توفير مراكز متخصصة لعلاج الإدمان، هذا خطير جدًا، ويجب إعلان حالة الطوارئ.

خلال السنوات الماضية، رصد مركز عدن للتوعية بخطر المخدرات، عشرات الجرائم الوحشية والغريبة على محافظة عدن، نتيجة تعاطي مخدر الشبو، بما في ذلك "القتل العمد للمقربين، مثل: الأب، الأخ، الأم، الزوجة، والقتل الجماعي، جرائم اغتصاب للأطفال والفتيات الصغيرات، وكذلك اغتصاب أطفال من ذوي الإعاقة"، بحسب سعاد علوي، رئيسة المركز. موضحة في حديثها لـ"النداء" أن المتعاطين "يشعرون بالخوف من أي شيء؛ صوت أو ضوء أو حركة، ويعتبرون ذلك معاديًا لهم، ويتصرفون تجاهه بكل عنف، وترتكب جرائم لم نسمع بها، وبدون أدنى سبب".




في السنوات الأخيرة، تركت السلطات المختلفة عددًا من أحداث الجرائم الوحشية المشهودة والناشئة والغريبة، التي فجعت الرأي العام في مختلف أنحاء البلاد، للتكهنات. كثيرون ربطوا بين هذه الأحداث وغيرها من الأحداث الغريبة مؤخرًا، بمخدر الشبو، الذي ينتشر بشكل خطير في اليمن، كونه يدفع مدمنيه لارتكاب جرائم فظيعة وهم فاقدو الوعي والسيطرة على النفس.

في 2 أغسطس 2023، قام شاب بطعن زميلته في أحد المولات بعدن بالسكين بوحشية. وفي 15 أغسطس، أنهى أحد الأزواج حياته وحياة زوجته بعد تفجيرها وسط مدينة عدن، بقنبلة. وفي صنعاء، قام شاب بقتل والده وأخيه وخالته، دون أي سبب. وفي تعز، قتل شاب والده ووالدته وأخواته برشاش. ربط الناس بين هذه الأحداث وبين الشبو، لكن عند التحري، كشف مصدر أمني أن السلطات الأمنية لم تجرِ أي تحاليل طبية لمعرفة إن كانوا تحت تأثير وإدمان الشبو أم لا.

لا تتوفر لدى السلطات المعنية في اليمن أجهزة فحص لأغلب أنواع المخدرات، بما في ذلك الشبو، وفقًا لوثيقة صادرة عن الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، حصل عليها معدو التحقيق.

في مدينة عتق بمحافظة شبوة، وثق السكان، مطلع أغسطس الماضي، حادثة غريبة من نوعها لأحد مدمني الشبو مع شلته المتعاطين في منزله. حيث قام هؤلاء المدمنون بإيذاء زوجة المدمن وأطفاله. وتمكنت الزوجة من الاتصال بأخيها في محافظة مجاورة، والذي وصل صباح اليوم التالي لينقذها.

بوابة إلى العالم المظلم

مع اندلاع الصراع في اليمن عام 2014، شهدت تجارة المخدرات في البلاد ازدهارًا لافتًا، ومع وضع اليمن، عام 2015، تحت الفصل السابع للأمم المتحدة، الذي فرض حصارًا على البلاد بحجة مراقبة تهريب الأسلحة، أصبحت الحدود اليمنية البرية والبحرية، ممرات مفتوحة لتجارة المخدرات.

عُرفت محافظة المهرة، باعتبارها البوابة الشرقية لليمن، ومنذ سنوات صارت بوابة رئيسية لمهربي المخدرات، بما في ذلك مخدر الشبو القاتل. وخلال السنوات الماضية تم استعمال حدودها البحرية والبرية لتهريب أطنان المخدرات إلى داخل البلاد شهريًا، حسبما يؤكد سلطان (اسم مستعار)، أحد تجار الشبو، وصاحب مستودعات لتخزين المخدرات، في حديثه لمعدي التحقيق.

النسبة الأكبر من مادة الشبو تصل إلى اليمن عبر البحر، قادمة من باكستان وأفغانستان وإيران، حيث توظف شبكات وعصابة دولية لتجارة المخدرات، مهربين من جنسيات مختلفة تمتد من دول شرق آسيا المصنعة للشبو، وصولًا إلى السواحل اليمنية في البحر العربي، ويستقل تجار محليون قوارب من شواطئ محافظة المهرة حتى يصلوا إلى نقطة التسليم في البحر. وهي نفس الرواية التي أخبرنا بها سلطان ومروج وحتى متعاطون، والتي أكدها أيضًا مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات عبدالله لحمدي، موضحًا تمكن الأجهزة الأمنية ضبط مهربين من جنسيات متعددة، مثل: الإيرانية، والباكستانية.

وخلال العام 2022، وصل إجمالي قضايا المخدرات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، إلى 400 قضية، فيما بلغ عدد المتهمين الذين تم ضبطهم في نفس العام، 480 شخصًا، بينهم 60 يحملون جنسيات أجنبية، وفقًا لوثيقة وإحصائية رسمية حصل عليها معدو التحقيق.

ينقل أعضاء الشبكة أو الوكلاء المحليون تلك المخدرات من داخل البحر، على قوارب صغيرة، ويحملونها إلى مستودعات في المهرة، قريبًا من البحر، وبعيدًا عن الأنظار، لإخفاء أطنان من المخدرات المتنوعة، بما في ذلك "الحشيش والهيروين والكوكايين والشبو والكبتاجون... الخ"، وفق سلطان وعدد من المروجين المحليين.

في العام 2020، كان سلطان مجرد مؤجر. يكشف في حديثه لـ"النداء" أن رحلته بدأت بتأجير مخزنين يملكهما للمهربين لإخفاء المخدرات، طمعًا بمقابل مالي كبير، يتجاوز عشرة أضعاف إيجارها الفعلي. تسلم إيجار الدفعة الأولى نقدًا. وفي الثانية، حوّل المهربون سلطان إلى تاجر جملة فعلًا، "دون أن يدري" كما يزعم، حيث دفعوا له "ثلاثة كيلوجرامات من مادة الشبو لبيعها مقابل الإيجار"، وهو ما فعله.

وقبل وصول الدفعة الثالثة من المخدرات (تفصل بين كل دفعة وأخرى من شهر لثلاثة أشهر)، كان المروجون المحليون الذين أخذوا منه الكمية السابقة، يدفعون له أموالًا إضافية لتوفير ضعف الكمية التي يحصل عليها مقابل إيجار مخازنه. حاليًا، باتت الكمية التي يوفرها سلطان للتجار المروجين المحليين نحو 30 كيلوجرامًا من الشبو. كل هذه الكميات التي يوفرها سلطان تذهب للسوق المحلية، مؤكدًا أنه ليس الوحيد في السوق وفي المهرة، وأن عملاءه يأتون من حضرموت وشبوة وعدن.

ما يوزعه سلطان وعشرات التجار في المهرة وعدد من المحافظات، لا يمثل نسبة فعلية مقارنة بما يتم تهريبه لدول الجوار. وانطلاقًا من مخازن المخدرات في محافظة المهرة، يسلك المهربون الطرق الرئيسية عبر محافظات: حضرموت، شبوة، مأرب، الجوف، وصولًا إلى محافظة صعدة التي تربطها حدود طويلة مع المملكة العربية السعودية.

المحافظات التي يكثر فيها انتشار الشبو المخدر
المحافظات التي يكثر فيها انتشار الشبو المخدر (النداء)

يشير لحمدي إلى أن موقع اليمن الجغرافي بين المنتجين وبين المستهلكين لمخدر الشبو، جعلها وجهة رئيسية للمهربين. لسنوات استخدمت الأراضي اليمنية كمنطقة عبور للمخدرات إلى دول الخليج والقرن الإفريقي. ومنذ بداية الحرب أصبح الطلب المحلي عليها يتزايد يوميًا، وبشكل مرعب.

في يوليو 2023، أحالت السلطات الأمنية بمحافظة المهرة 16 متهمًا بقضايا المخدرات (بينهم 6 إيرانيين) إلى النيابة الجزائية المتخصصة بمحافظة حضرموت، على ذمة حيازة مواد مخدرة، بينها 147 كليو من مادة الشبو.

بين فبراير ومايو 2022، تم ضبط طن و161 كيلوجرامًا من مادة الشبو، على متن سفن صيد، بالقرب من المياه الإقليمية اليمنية، قبالة شواطئ المهرة، كانت في طريقها إلى اليمن. وفي عمليات منفصلة ومتتالية خلال العام 2022، ضبطت: البحرية الفرنسية 271 كيلوجرامًا من الشبو، كما ضبطت البحرية البريطانية 250 كيلوجرامًا من مادة الشبو، إلى جانب 150 كيلوجرامًا من مادة الهيروين، و665 كيلوجرامًا من مادة الحشيش، في حين ضبطت البحرية الأمريكية 640 كيلوجرامًا من مادة الشبو، كانت على متن سفينة يتكون طاقمها من تسعة أفراد يحملون الجنسية الإيرانية.

تجني عصابات المخدرات ملايين الدولارات من عمليات التهريب سنويًا. فبينما قدّرت البحرية الأمريكية قيمة الشبو الذي ضبطته خلال عملية واحدة بـ39 مليون دولار، تشير تقديرات رسمية للإدارة العامة لمكافحة المخدرات، إلى أن القيمة الإجمالية للمخدرات التي ضبطتها "القوات المختلطة متعددة الجنسية"، قبالة السواحل اليمنية (الخليج العربي وخليج عمان)، وكانت في طريقها إلى اليمن، خلال العام 2022، بلغت ما يزيد عن 192 مليون دولار. هذا الرقم يتجاوز قيمة ما تم ضبطه خلال أربع سنوات سابقة، ما يؤشر إلى تزايد مهول لتهريب المخدرات، من بينها الشبو، إلى اليمن، وتناميها من عام لآخر.

غياب التنسيق

رصد معدو التحقيق قصورًا كبيرًا لدى الإدارات المعنية بمكافحة المخدرات، وواجها صعوبات كثيرة خلال جمع الأرقام والإحصائيات الخاصة بمادة الشبو. هناك تسييس وتضارب في البيانات الرسمية حول تجارة وتهريب المخدرات وكمية المضبوطات، ما يعد واحدة من المشاكل الرئيسية لمكافحتها، في ظل انقسام وانعدام التنسيق، وتعدد الجهات الأمنية والعسكرية التي تعمل على ضبط المخدرات في مختلف المناطق.

وجد معدو التحقيق حالة من الفوضى والفساد واللامبالاة لدى الإدارات والجهات المعنية بمكافحة المخدرات في الجمهورية، في التعامل مع قضايا تهريب وترويج المخدرات: لا يوجد توثيق رقمي، وتفتقر إلى إحصائيات دقيقة وواضحة لضبطيات المخدرات. وباستثناء العام 2022، لم يسبق للإدارة العامة لمكافحة المخدرات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا، إصدار تقارير سنوية عن واقع المخدرات في اليمن، وكذلك الحال بالنسبة للجهات المعنية في سلطات الحوثيين.

يؤكد العميد لحمدي، أن انعدام الإمكانيات الفنية والمالية لدى إدارته وفروعها بالمحافظات، يضعف دورها في مكافحة التهريب والاتجار بالمخدرات، فضلًا عن الازدواجية بين عمل إدارات مكافحة المخدرات بالمحافظات وجهات أمنية وعسكرية أخرى.




مدير الادارة العامة لمكافحة المخدرات بالجمهورية: لا نستطيع السيطرة على كافة المساحة التي يجب تغطيتها، وامكانياتنا المادية والبشرية والتقنية معدومة

وفي حديثه لـ"النداء"، يكشف لحمدي عن عجز مرعب لدى الإدارة العامة لمكافحة المخدرات وفروعها، في ظل عدم استجابة وزارة الداخلية والحكومة ورئيس المجلس الرئاسي، لتوفير أدنى الوسائل والأدوات التي تمكنهم من الوقوف أمام هذه الحرب الضارية مع المخدرات. ويقول: "لا نملك ميزانية تشغيلية تتناسب مع عمل الإدارة العامة لمكافحة المخدرات وفروعها بالمحافظات، ونعاني من انعدام كادر مؤهل، وكل الموجودين نتيجة خبرات ميدانية، وليس لديهم تأهيل في نفس المجال، وليست لدينا قدرات تقنية للقيام بعملنا، ولا نستطيع السيطرة على كافة المساحة التي يجب تغطيتها".

تقر السلطات الأمنية بأن نسبة الشبو الذي يتم توزيعه للسوق المحلية أو تهريبه لدول الجوار، أكثر بعشرات أضعاف ما تضبطه السلطات الأمنية والعسكرية، وتفيد بأن تجار ومهربي المخدرات يستخدمون طرقًا ملتوية وحيلًا مبتكرة لإخفائه عن السلطات الأمنية، ووفقًا لعمليات الضبط داخل البلاد، التي اطلع عليها معدو التحقيق، فقد وُجد الشبو بين بضائع أخرى، مثل الملابس والأغذية والأدوية أو الأجهزة الإلكترونية، وداخل أسطوانات الغاز المنزلي، أو في الشاحنات، أو حتى في السجائر.

وثيقة: مافيا المخدرات اخترقت الاجهزة الامنية والعسكرية، وشحنات الشبو تمر مرور الكرام بين المحافظات

الأخطر من ذلك، قدرة تجار المخدرات على اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية المعنية بمكافحتها. حصل معدو التحقيق على وثيقة تكشف تورط مسؤولين أمنيين وعسكريين في تهريب وترويج المخدرات. تؤكد الوثيقة المرفوعة من مكتب مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في الجمهورية، ضمن تقرير داخلي: "اختراق عصابات ومافيا المخدرات للأجهزة الأمنية والعسكرية المختلفة".

واجه معدو التحقيق مدير الإدارة بذلك، فأكد تلقي بعض الشخصيات الأمنية والعسكرية "رشاوى وإغراءات مالية كبيرة جدًا تصل إلى ملايين"، من قبل تجار المخدرات، لضمان مرور المخدرات إلى المحافظات. واستطرد قائلًا: "بعض هذه الشحنات تمر مرور الكرام".

مافيا المخدرات استدرجت النساء والاطفال لترويج وتعاطي الشبو

وإلى جانب ذلك، يعتمد مهربو الشبو على خلايا سرية تحميهم من الكشف، وتروج لهم في مختلف المحافظات، حيث تم توظيف واستغلال الشباب والنساء والأطفال.

يقول خالد، وهو مروج ومدمن للشبو: يستخدمون النساء في جلب الشبو من المهرة إلى المكلا وسيئون وبقية مناطق المحافظة المترامية الأطراف. ويضيف: هناك رؤوس كبيرة تقف خلف توفر الشبو في حضرموت بكثرة، "تستطيع أن تحصل على الشبو خلال خمس دقائق داخل المكلا".

 

مخالفات قانونية

التقى معدو التحقيق بمتعاطين للشبو، خرجوا من السجن بعد نحو شهرين من ضبطهم بتهمة التعاطي، وهو أمر يخالف المادة (38) من القانون اليمني لمكافحة الاتجار والاستعمال غير المشروعين للمخدرات والمؤثرات العقلية، والتي تنص على: "يعاقب بالسجن لمدة خمس سنوات كل من حاز أو اشترى مواد مخدرة".

سأل معدو التحقيق مصدر أمني في النيابة الجزائية بمدينة المكلا محافظة حضرموت (طلب عدم ذكر اسمه)، عن سبب عدم تطبيق العقوبات على المتعاطين وفقًا للقانون، فقال إن هناك "عرفًا" لدى إدارة المكافحة والنيابات، بأن يتم الاكتفاء بحبس المتعاطي مدة شهرين فقط كعقوبة تأديبية، في حال كان التعاطي لأول مرة، بينما يتم حبسه ٥ سنوات إذا تم ضبطه بتهمة التعاطي مرة أخرى.

الاجهزة الامنية تخالف قانون العقوبات وتكتفي بسجن المتعاطي شهرين بدلا عن خمسة أعوام

تبرير المصدر الأمني يكشف عن مخالفات قانونية صريحة، وتساهل مع المتعاطين، الذين لا يخشون العقوبة التي باتت غير رادعة بالنسبة لهم، خصوصًا أولئك الذين يتعاطون لأول مرة، وفقًا للعرف الأمني الذي بدا كما لو أنه يقدم مزايا وتسهيلات للمدمنين الجدد.

يتضمن القانون اليمني 57 مادة متعلقة بمكافحة الاتجار، وتتلخص العقوبات في المواد بين (33) و(40)، تبدأ بعقوبة الإعدام لكل من صدر أو جلب مواد مخدرة بقصد الاتجار والترويج، وكل من أنتج أو استخرج أو فصل أو صنع مواد مخدرة، وكان ذلك بقصد الاتجار.

فيما يعاقب بالإعدام أو السجن لمدة 25 عامًا كل من تملك أو حاز أو نقل أو باع أو قدم مادة مخدرة بقصد الاتجار فيها.

"السجن ليس إصلاحًا: تخرج منه ولديك قابلية أكبر... تدخل متعاطيًا، تخرج مروّجًا"، هذا ما يعتقده خالد الذي اعتقلته السلطات الأمنية بحضرموت ثلاث مرات، في الأولى قضى شهرين وخرج أكثر اشتياقًا له. وفي المرة الثانية حكم بعامين، وعندما التقاه موفد "النداء" في سجنه الثالث، كان يمضي عامه الأول من العقوبة المحكوم بها خمس سنوات.

يصل ترويج الشبو إلى داخل السجون في حضرموت: "هناك أشخاص دخلوا السجن على ذمة قضايا سرقة أو جنائية، وخرجوا منها مدمنين للشبو"، وفقًا لخالد ومتعاطين وسجناء آخرين.




خلال السنوات الماضية، كانت السجون أبرز الحلول التي استخدمتها جهات مكافحة المخدرات، حيث تشير الإحصائيات إلى ضبط آلاف المروجين والمهربين والمتعاطين، ونتيجة لارتفاع أعدادهم وتأخر النيابات في النظر بقضاياهم وإحالتهم إلى السجون المركزية، توقفت إدارات مكافحة المخدرات أحيانًا عن ضبط المزيد من المتعاطين، حتى يجدوا أماكن ومتسعًا لاحتجازهم، وفقًا لتقرير إدارة المخدرات.

يرتبط ارتفاع كميات المخدرات المضبوطة بارتفاع عدد القضايا المتصلة بالمخدرات، إذ ارتفع عددها من 109 قضايا عام 2015، إلى أكثر من 1450 قضية في 2023. مع ذلك لا يعكس عدد القضايا الارتفاع الفعلي للمدمنين أو معدلات الجريمة المتصلة بالمخدرات.

 

علاج مكلف

مع انهيار النظام الصحي في البلاد جراء الحرب المستمرة، تعرضت مؤسسات الرعاية الصحة النفسية لضربة قاضية، إذ انعدمت المراكز العامة المتخصصة لعلاج الإدمان في اليمن، وأصبح هناك مركزان فقط متخصصان لعلاج الإدمان داخل مستشفيين أهليين في صنعاء وتريم حضرموت.

هذا الانعدام في المراكز المختصة يفاقم من معاناة المدمنين وذويهم، الذين يواجهون صعوبات كبيرة في الحصول على العلاج، بخاصة في ظل ارتفاع تكاليفه.

وعدا شحة الإمكانيات، والنقص الحاد في التمويل، هناك فجوة كبيرة في أطباء الصحة النفسية المعنيين بعلاج الإدمان، الذين لا يتجاوز عددهم 45 طبيبًا (منهم 36 في صنعاء، و9 لباقي المحافظات)، وفقًا لإحصائيات صادرة عن منظمة الصحة العالمية التي تقول أيضًا إن هناك "طبيبًا نفسيًا واحدًا لكل 700 ألف فرد في اليمن".

يضطر المدمنون على الشبو في اليمن إلى تحمل معاناة كبيرة، بسبب عدم وجود مراكز حكومية متخصصة لعلاج الإدمان. وغالبًا ما يضطر المدمنون إلى السفر إلى محافظات أخرى للحصول على العلاج، أو اللجوء إلى مراكز غير متخصصة لا تقدم خدمات مناسبة.

يكشف الدكتور بن عقيل، عن استقبال مستشفى النهى للطب النفسي وعلاج الإدمان، الأول والوحيد في حضرموت، نحو 7150 شخصًا، في ظرف 5 أشهر، منذ افتتاح المستشفى في أبريل - أكتوبر 2023. ويؤكد أن الإقبال الشديد على المركز من قبل المدمنين، يكشف عن حجم انتشار مخدر الشبو في اليمن، وبالذات في حضرموت.

ويشير إلى أن متوسط ما يستقبل مستشفاه خمس حالات إدمان يوميًا، وهذا ما يعتبره مؤشرًا خطيرًا لانتشار تعاطي الشبو في حضرموت. تشمل الحالات فئة الشباب الذكور، وهم الأغلبية، علاوة على النساء والأطفال. مؤكدًا أن هذه الأرقام لا تعكس الحقيقة كاملة، إذ إن "وراء كل حالة ظاهرة وموثقة هنالك 10 حالات خفية على الأقل"، ويقول: إن الحالات المعلنة عن حجم الانتشار والتعاطي ليست سوى مؤشر لأرقام مخيفة خفية، بالنظر إلى الإمكانيات الضئيلة لدى الأجهزة الأمنية والحالة العامة للبلد ومساحاتها الشاسعة.

تقول أم مروان: استنفدت كل ما أملك من أجل علاج ابني، وسافرت به إلى محافظة أخرى للعلاج، لكن دون جدوى. لقد توفي ابني بسبب الإدمان، وأنا أعيش الآن في حالة من الحزن والندم".

شارك في إعداد هذا التحقيق:

رائد خالد من حضرموت

عبدالكريم عامر من صنعاء