ريكس بازار (1)

الله يهديكم يا أهل اذي البلاد محسنكم.. بس احترمونا قليل كمنو أنا أحترمكم.. وحبونا زيما أنا أحبكم.. ولو حتى بيت الأقل، بيت الأقل.. قليل.. هكذا يتحدث عبدالله اليهودي، بعدنية خالصة وكلاسيكية كماه.. تمرغ عبدالله، وهو آخر يهودي بقي في عدن.. كريتر بالذات.. بعد رحيل كل اليهود.. عرضت عليه مغريات كثيرة.. وقدمت له حوافز ليخرج مع من خرجوا في مراحل الخروج المتعددة منذ النكبة.. وحتى رحلات بساط الريح لترحيل اليهود.. قال: أنا معرفش غير اذي البلاد.. ولدتو فيبه.. وشاموت فيبه.. وأسلم.. لكن الناس لم يسموه مسلماني كما يفعلون مع سواه..

الجالية اليهودية في عدن في خمسينات القرن الماضي (سوث24)
الجالية اليهودية في عدن في خمسينات القرن الماضي (سوث24)

عبدالله اليهودي.. التصق به الاسم من المهد إلى اللحد. تمرغ في النعيم الذي مر علينا.. ومررنا به حتى الثمالة.. كان يمسك أعمال محل اليهودي وعمارته الواقع ضمن الجيتو اليهودي الممتد من شارع الملك سليمان وإلى تخوم الزعفران "ريكس بازار= ملك الأصواف"، وحينما رفض الخروج من عدن، سلمه مالك المحل والعمارة المفاتيح ليشتغل فيهما، وبهما.. والحساب يدور كما قال له.
شاهد عبدالله اليهودي أحوالنا في عدن كلها.. منذ تبعيتنا الإدارية للهند وإعلاننا مستعمرة تابعة للتاج.. وكفاحنا من أجل الاستقلال.. وشارك في أحلامنا وآمالنا وخيبات أملنا.. عرفته في السنة الأولى من عقد السبعينيات أنا وشلة نادينا.. نادي الفنانين: محمد عبدالمنان ناجي، وعبدالقادر السمان، ومحمود إربد، ومحمد مدي، وعلي فتح، ونجيب دبعي، والآخرين.. كنا نتجمع قبل حصولنا على مقر في مقهاية علي غانم بكريتر، في المسافر خانة، بجانب مسجد العراقي الصغير المحاذي للمقهاية، نتجمع بعد ظهر كل يوم هناك، لنلعب البطة (الكوتشينة) عند فضل العاقل الذي يدير المقهاية باقتدار، مع عامله الأثير العوميسي: هيا.. الليل.. ورش.. ورش.. يا رجال قاهي الساعة عشر.. كان العوميسي هذا من الوافدين على عدن في زمن غابر من زبيد، في الشمال.. وكان مشهورًا بتلعيب الثعابين بيديه، يدور بها على حوافي عدن، ويلقط رزقه.. إلى أن استقر به المقام مع فضل في مقهاية علي غانم.. علي غانم هذا نفسه كان من الرواد.. يلقى أصحابه فيها ويلعبون الدومينو.
وفي العصاري يهل علينا عبدالله اليهودي، في كامل أناقة العدني الكلاسيكي، فوطة تتدلى إلى عراقيبه، حتى تكاد تلامس تراب الأرض، فوطة من أشهر الماركات.. وشميز دبل تو.. أو فان هيوزن.. دائمًا فاتحة اللون: لأنه أنا محبش العتمة، كان يقول.. أما عنوان عدنيته الأصيلة فكانت الكوفية الزنجباري الأصلي التي كان يعتمرها وكأنه بابا الفاتيكان.. ومع هذا كله كان يحمل على يديه جمشة بزوز من الأقمشة التي تكدست في بيت ريكس بازار، ملك الأصواف! وعلى الماشي يطلب الله بالبيع لأي زبون طارف.. لو معروف معه يهب له ما يشاء من البز بالآجل، والحساب يدور كما كان سيده صاحب ريكس يقول.. قصير القامة إلى درجة يبطل فيها مقولة إن القصار لئام.. يمشي كأنه يتكعدل لقصره، باسم المحيا غالبًا إلا لو واجه ما يكدر صفوه.. وأحيانًا كان يتكدر.. وهو جاحظ العينين لا يظهر جحوضهما بارزًا إلا عندما يتكدر ويغضب.. ينظر في ساعته الرومر السويسرية، ويلمس عليها، ويقول: ياالله قده الساعة خمس؟!
هيا.. كيه يا عوقلي (هكذا يسميني، ولا أحاول تصحيحه) نفسوا لي قليل بالعب معكم دورين وإلا ثلاثة.. تصدق يا عوقلي، ولا ترتاح نفسي إلا لمّن ألعب معكم وأخسر معكم.. ياابه كيه.. إيش هي الدنيا إلا لقمة طيبة.. ولبسة نظيفة.. ونومة هنية، وعليك يا باري عليك.. وزعوا لي ورق.. وزعوا.. ثم يسأل: فينه البابيو؟ ماأشوفوش هنا اليوم. كنه عاده ماجاش؟ والبابيو هذا لا تخطئه العين في حضوره.. ولا ينساه الخاطر إذا غاب.. يجيء بكامل الدريس حق الشغل في أمانة الميناء.. كله أبيض في أبيض.. حتى البرنيطة بيضاء.. البابيو يعشق المقهاية عشقًا خاصًا، لدرجة أنه يطلب وجبة الغداء من بيته خلف المسافر خانة.. ولا يأكل إلا عندنا.. وساعات ساعات يعزم علينا لو وجبته سخية.. ويمر الوقت.. هيا كيف تشوف يا عوقلي.. رمبصوا بي رابع مرة.. خلصت الفلوس.. باتسلفنا يا عوقلي؟ قلت له لا.. لإن السلف في القمار.. شقابة..
قال: هيا ناهي.. وطرح ساعته الرومر فوق الميز.. وزكن.. بقوله شارجع ذلحين راعوا..
واتجه ناحية علي غانم مالك المقهاية حيث يجلس في ركنه المفضل مع أصحابه في لعبة الدومينو.. وقف عبدالله قدامه وبادر:
يا عم علي الله يرضى عليك.. خلصت فلوسي.. العرصات طمرونا.. هب لي معك قليل زايد ناقص...! قام علي غانم وقال: ما أعزك يا عبدالله.. تامر.. بس أنت كل يوم يبان يطفروك؟! اضبط نفسك قليل. أجابه عبدالله: مزاجي كذا يا عم علي.. مااتكيفش إلا لما يطفرونا.. يالله.. عليك يا باري عليك.
رجع هاشًا باشًا، ونظر إلى اللاعب الذي قدامه.. وقال: يبان محد يخسر بالمقهاية اذي غير أنا وأنت يااو حضرم؟ وتواصل اللعب.. وأبو حضرم هذا هو مقداد باقدامة، كما قدموا لنا اسمه.. كان يملك مطعم الطاؤوس الشهير اللي كان بالزعفران.. وباعه للحداد، وما عاد بقالوش غير البطة ومقهاية علي غانم ليتفرغ لها..
خلع عبدالله اليهودي ساعته الرومر، وأخذ يدق بها على الميز: ذلحين دي مال أبوها.. يبان وقفت.. إلا إلا.. والله إنه وقفت، وأنا ماناش حق صلح.. وبلح.. وملح.. يلعن أبوها.. رفع يده وطوح بالساعة بأقصى قوته، إلى أن استقرت فوق إسفلت الطريق!
وعاده كلامنا ماخلصش مع عبدالله.. فعليك يا باري عليك.