الرعيل الأول من المثقفين وانقلاب 1948م (4-4)

مثقفو 1948م بين الإصلاح والثورة وفشل الانقلاب:

إن مفهوم الإصلاح والثورة لا يمكن فصلهما عن السياق السياسي الاجتماعي التاريخي، في كل مرحلة معينة وفي كل موقف، أي لا يمكن التعامل مع مفهوم الإصلاح، أو الثورة سياسيًا بصورة مجردة، بل عبر محاولة قراءتهما في سياقه السياسي الاجتماعي التاريخي، أي التعامل والتعاطي معهما في حدودهما الزمانية والمكانية، أي شرطهما الموضوعي التاريخي.

فالإصلاحية في ظرف سياسي اجتماعي تاريخي معين قد تعني محاولة لقطع الطريق أمام ثورة مقبلة، أو عرقلة مسيرة وشروط وضع ثوري ناجز وإفشال تبلوره وإنضاجه وتحققه التاريخي، أو عبر إجهاض ثورة في دهاليز عملية سياسية إصلاحية مفتعلة، وهذا ما لم يتوافر في حركة الإصلاح الدستورية، وما لم يكنه انقلاب 1948م كحركة انقلابية سياسية إصلاحية تهدف إلى نشر فكر الاستنارة العقلية ودسترة الحياة السياسية تحديدًا، أو تجديد بنية نظام الحكم وشكل علاقاته الاستبدادية المتحجرة التي بدورها عكست نفسها على إمكانيات إحداث تطور ولو نسبي للقوى المنتجة والحياة المادية المعيشية والفكرية والسياسية للناس.
إن الفكر العلمي في الممارسة السياسية والاجتماعية لا يلغي ولا ينفي بصورة عدمية الإصلاحات التي قد تأتي في سياقها التاريخي، وهي تحمل صفة تقدمية ولكنه في الوقت نفسه لا يحملها ما لا تحتمل بإضفاء ما ليس فيها عليها.
عمومًا، ما يهمنا هنا هو تجاوز عقلية هيمنة المفاهيم الذاتية الشكلية التي نراها تقيم حواجز، وفواصل بين أشياء وظواهر الحياة والفكر والسياسة والمجتمع، كما هو حادث عند البعض بتصور قيام حالة من القطيعة المطلقة مثلًا بين الحركة والانقلاب، والثورة أو بين الإصلاح والثورة، لا يتصور معها البعض أن انقلابًا في ظروف تاريخية معينة ممكن أن يتحول إلى ثورة شعبية عاصفة كما حدث مع انقلاب 26 سبتمبر 62م، وهو ما حصل قبلها مع ثورة 23 يوليو 1952م. كما أن الثورة ذاتها تحت ظروف معينة، يمكن أن تتراجع وتنكسر كما جرى كذلك مع ثورة 26 سبتمبر بعد انقلاب نوفمبر 67م، علينا بالضبط إدراك العلاقة بين المفاهيم والمصطلحات في سياقها الواقعي التاريخي، وفي شروطها المادية الموضوعية الملموسة. فلفظة الإصلاح والثورة في ظروف معينة ـبل في كثير من الأحيانـ قد تعني شيئًا واحدًا، كما أن هناك العديد من الإصلاحات جاءت على شكل ثورة من فوق كما يحلو للبعض تسميتها؛ المهم عدم إقامة الأسوار الصينية بين المفاهيم والقضايا، فالإصلاحات أو الحركات السياسية الإصلاحية ممكن "أن ينظر إليها في ارتباطها بآفاق الثورة؛ وتبين التجربة التاريخية كلها، أن الإصلاحات نتاج ثانوي لنضال الجماهير الثوري، فحتى عندما لا تأتي الإصلاحات نتيجة مباشرة للتحركات الثورية الجماهيرية، فإن الطبقات السائدة، تقدم عليها تحت رغبة تحقيق مطالب الجماهير الشعبية، وذلك للحيلولة دون الانفجار الثوري"(1)، وهو ما لم يكن متوافرًا في الشروط التاريخية لانقلاب 1948م. وأنا هنا بطريقة غير مباشرة، أرد على بعض القراءات النقدية في موقفها النقدي السلبي، من انقلاب 1948م، بل حتى من النقد السلبي لثورة 26 سبتمبر 1962م، في تصويرها مجرد انقلاب عسكري فوقي كما هو عند البعض.
ومن هنا نرى من خلال قراءتنا لواقع التاريخ السياسي المعاصر للمجتمع، وللواقع اليمني، خلال الفترة التاريخية موضوع البحث، أن الأوضاع السياسية والاجتماعية لم تكن مهيأة للتغيير الجذري، السياسي الاجتماعي، أو الانفجار الثوري الذي يأتي بالضرورة تتويجًا لمقدمات ذاتية، وموضوعية وتاريخية، وتحت ضغط المطالب الشعبية، حتى نرى في حركة الأحرار اليمنيين الانقلابية، حصان طروادة، أو نرى في الانقلاب حاجزًا أو مانعًا سد الآفاق أمام ثورة مقبلة، ناهيك عن أن نظام الحكم ذا الطبيعة الاستبدادية الشرقية "الخراجية الإمامية" المغلق على ذاته، والذي تلعب فيه العوامل الأيديولوجية دورًا كبيرًا ومؤثرًا -حسب تعبير د. سمير أمينـ على مسار تطور الدولة والمجتمع. لقد وقف النظام الإمامي، أمام كافة أشكال الإصلاح التي جاءت عن طريق الدعوة السياسية الإصلاحية، والتفكير الديني التجديدي المحدود، وعن طريق المدح بالقصائد الشعرية وكافة أشكال النصح المباشرة وغير المباشرة، وهو ما كان يعني سد الآفاق أمام أي إصلاح ولو في الحدود الدنيا المطلوبة لاستمرار حركة المجتمع والنظام السياسي دون عنف.

نخلص إلى القول إن انقلاب 1948م عبارة عن حركة سياسية إصلاحية رمت إلى تحديث النظام السياسي، وتطوير بنية الدولة والمجتمع، وإن اتخذ شكل تمظهرها السياسي أو تعبيرها عن نفسها في شكل الاغتيال الفردي أو طريقة انقلاب القصور، كما يرى الضباط الأحرار، وغيرهم، وأرى أن الأسباب التي أدت أو قادت إلى فشل انقلاب 1948م إنما تكمن في الآتي:

أولًا: هي الطبيعة السياسية الطبقية الايديولوجية للقوى المحركة للانقلاب، وتعارضاتها الداخلية؟
ثانيًا: انعدام الصلة بالجماهير ـوتحديدًا مع أبناء المناطق القبلية المحيطة بالعاصمة صنعاءـ مما سهل عملية ضرب الأحرار وتصفيتهم، حيث تمثلت مشكلة الأحرار عمومًا منذ البدء وإلى خاتمة مطافهم في أنهم لم يعتمدوا على الشعب، ولم يثقوا بقوة الجماهير في الإصلاح والتغيير، ليس لأنهم لا يريدون الثقة بالجماهير، ولا يتوافقون مع مصالحها، وإنما لأن الشروط الموضوعية التاريخية لتحقيق مثل تلك العلاقة، والصلة لم تكن قائمة للأحرار، ولا كذلك بالنسبة لحركة الجماهير ووعيها، أي في قدرتها على إدراك مصالحها الذاتية. يكفي هنا الإشارة إلى موقف الجماهير القبلية الفلاحية الرعوية من الأحرار حين فشل الانقلاب، ومن هنا يتضح تفسير كيف ظل الأحرار طيلة فترة نشاطهم بين عدن، والقاهرة بدون سند شعبي، إذ ينحصر كل همهم في القضاء على الاستبداد وتحقيق الحكم الدستوري الشوروي بأية طريقة وبأية وسيلة كانت. وظلت قضية الأحرار في حدودهم، وتتحرك في إطارهم الذاتي، وكأنها مسألة شخصية مرتبطة بوجود الإمام، وليس بنظام حكم سياسي اقتصادي اجتماعي حتى بعد فشل انقلاب 1948م، وهذا ما عرضهم بعد ذلك خلال مسيرتهم لهزات سياسية، وتنظيمية أوقعتهم في تناقضات وتقلبات سياسية شلت قدرتهم على الفعل، حصر معها مستقبل اليمن، تقدمه ودستوريته، في تغيير رأس الحكم، وبدون صلة مباشرة بالناس، ومن هنا كانت تقلباتهم وتأرجحاتهم اللاحقة بين ممالأة الاستعمار الخجولة عند البعض -أؤكد هنا على التبعيض- وبين تحديد موقف صريح، أو محاولة اللعب بحبال الاتجاهات الانفصالية في صيغة مشروع الحكم الذاتي، بعيدًا عن حق تقرير المصير للجنوب المرتبط بالكومنويلث، كما حدث مع أمين عام الاتحاد اليمني في 1957م، وهي مرحلة لاحقة في تطور "حركة الأحرار"، لم تدرك معها -لأسباب عديدة- حركة المعارضة السياسية معنى الخطر الاستعماري ومعنى الوحدة اليمنية كمدخل لمستقبل اليمن، مع التأكيد على رفض أية محاولة لوصم حركة الأحرار على إطلاقها بالعمالة للاستعمار البريطاني، لأنني أعتقد أن "كل غمز موجه لحركة الأحرار أو التشكيك في علاقاتها بالاستعمار البريطاني، ضرب من كتابة التاريخ بمنطق المؤامرة والقصص البوليسية"(2).
ثالثًا: ومن الأسباب كذلك انعدام التنظيم الدقيق وافتقار قادة الانقلاب حسن المبادرة، والتحرك البطيء سياسيًا وعسكريًا، في مواجهة الأخطار التي بدأت تهدد استمرار الانقلاب، إلى جانب عدم وجود حقيقي لنشاطهم الجماهيري أو حتى السياسي العام في الداخل على المستوى الدعائي، والتحريضي ومن هنا نأتي إلى تفسير أحدهم قبل ثمانية وخمسين عامًا أن الأحرار -حسب تعبير أحدهم- لم يحاولوا "أن يفجروا الثورة داخل أرضها الحقيقية وفي منبعها الأصيل.. ومن هنا فشلت الثورة"(3). والقول السابق على صدقيته الشكلية، أو النظرية المجردة، إلا أنه في الواقع يعكس أزمة القراءة الخارجية البعيدة عن حقائق الواقع، في فهم وضع حركة الأحرار الذاتي في علاقتها بالواقع الإمامي المتخلف والمغلق، وفي علاقتها الحركة بالسلطة الثيوقراطية الاستبدادية الإمامية، وفي أزمة علاقتها بذاتها كحركة، وعدم إدراك الحالة الواقعية والخاصة للقوى الممثلة للحركة، هي فقط ضد الإمامة المتوكلية الحميدية، كنظام، وليس نقيضها الأيديولوجي/ السياسي الجذري، أي في صورة إدراك المهمات الفكرية والسياسية التاريخية المحددة الموكلة للحركة، وليس تحميل الحركة وقواها الذاتية ما لا تحتمل، من المهمات والأدوار، ومع الإقرار حول التذبذب أو التخاذل الذي صاحب الخطوات العملية للانقلاب أو غياب الانسجام أو التفاهم العميق بين الأطراف المشكلة لقوة الانقلاب، على أن القول بأنهم لم يكونوا من طراز ثوري فريد هو إسقاط للراهن الأيديولوجي والمفاهيمي، على التاريخي، أي على الواقع التاريخي، لأن رؤية الأحرار -في تقديري- ودستورهم بمنطق ذلك الحين كان عملًا ثوريًا من طراز نوعي تجاوز رؤية المرحلة كلها، حتى بمقياس اليوم، حيث مانزال نداوم الحضور عند باب رؤية "الميثاق الوطني المقدس"، هذا بعد أربعين عامًا.
رابعًا: فهم الطرف الآخر -الإمام أحمد- للخارطة الاجتماعية القبلية والنفسية بصورة دقيقة وعميقة كما يذهب إلى ذلك محقًا د. أحمد الصايدي في كتابه "حركة المعارضة" التي تفضل الانضواء إلى الطرف الأقوى في الصراع، الأمر الذي لعب دورًا هامًا في تقرير مصير الانقلاب، وكذا استخدام الإشاعة في تصوير الأحرار الدستوريين كمارقين في ظل غياب الدعاية السياسية والتحريض المضاد لنشاط الإمامة وسرعة حركتها في مواجهة الانقلاب وإفشاله، أظهر الأحرار كأنهم يعملون على "اختصار القرآن"، وأنهم مغتصبو عرش وقتلة أبيه الشهيد، الطاعن في السن، عمل خلالها الإمام أحمد على توظيف دلالة "الشهيد"، والقتل من النواحي الدينية والسيكولوجية في التأثير على الوعي الاعتيادي للناس، الذي لا يستبعد معه استحضار في اللاوعي -عند قطاعات اجتماعية معينة- قضية قتل الإمام علي والحسين و"كربلاء"، في ظل تزييف الوعي الاجتماعي وغياب الوعي السياسي الجماهيري في نطاق المجتمع -الشمال سابقًا- المغلق على نفسه لقرونٍ طويلة.
خامسًا: تدني الوعي السياسي بكل أشكاله لدى الجماهير، الأمر الذي يعني عدم اندماجها واشتراكها في الحياة السياسية، فضلًا عن الدعم الخارجي للإمام أحمد من السعودية، وهو ما يشير إليه القاضي عبدالله الشماحي في كتابه "اليمن الإنسان والحضارة"، بالتفصيل، تلك -كما نعتقد- هي أسباب فشل الانقلاب، وهي من حيث الأساس تعود إلى مضمون حركة الأحرار السياسي الفكري الاجتماعي، حيث لم يستطع الأحرار فهم وإدراك جوهر التناقضات السياسية الاجتماعية، وفي الحقيقة أنه لم يكن بإمكانهم في تلك الظروف الإمساك بخيط ذلك الأفق، بل إن قسمًا منهم -الأحرار- لا يريد أن يفهم الحركة في هذا السياق ويرفضه.

آثار فشل الانقلاب:

ومع أن انقلاب 1948م كان مآله الفشل، إلا أنه كانت له آثار على الحياة والوعي السياسي في البلاد، وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن أثر فشل الانقلاب على الحياة السياسية العامة في البلاد وعلى سيكولوجية الجماهير لم يأخذ شكلًا، أو تعبيرًا سلبيًا أو إيجابيًا مطلقًا، بل يمكن القول إن أثره سار باتجاهين متعارضين على نفسية الناس وعلى قوى الحركة تحديدًا.
ومن المهم هنا أن نشير -كما يرى أوليغ جيراسيموف- أنه على الرغم من فشل الانقلاب يجب اعتباره مرحلة هامة في تطور فكر الرعيل الأول من المثقفين وموقفهم، وبالتالي في تطور حركة المعارضة في اليمن، حيث استطاع الأحرار اليمنيون المشاركة في الأحداث السياسية في البلاد، كما أن فشل الحركة الذي كان نتيجته موت الإمام يحيى بن محمد، ظل الله في الأرض، والحاكم بأمره، الذي كان استطاع أن يخلق من نفسه هالة فوق أرضية، وقوة فوق القوة البشرية الإنسانية، موظفًا لذلك كل أشكال الميثولوجيا وأسطورة "وعي الحاكمية"، تحديدًا، مستعينًا في ذلك بالإرث الديني والقبلي والطائفي -أي وحدة الدولة والقبيلة والدين والمذهب- في صورة "ثنائية الإمامة والقبيلة"، بهذا المعنى فإن الانقلاب قد أحدث ثغرة وهزة فكرية وروحية وسيكولوجية عميقة في وعي الناس. إن موت الإمام رغم فشل الانقلاب، قد أحدث شرخًا غائرًا في البناء الفوقي -اللاهوتي- شبه الإقطاعي -الإمامي- وزعزع وخلخل الكثير من المفاهيم والتصورات الغيبية -نسبيًا- حول الإمامة وفكرها شديد الحضور في وعي ونفسية الإنسان اليمني، في المناطق المحيطة بالعاصمة صنعاء، كوعي ديني ومذهبي وحتى طائفي، له عمق وجود في البنية الذهنية والسيكولوجية الشعبية في هذه المناطق.
فكيف يموت ظل الله في الأرض الحاكم بأمره؟ وبخاصة إذا ما أدركنا أن هذا الوعي والسيكولوجية قد تشكلا خلال قرون طويلة أضحيا معها كالحقائق الخالدة، شبه الإيمانية، وهذا بالطبع لا يعني أن انقلاب 1948م أحدث نقلة فكرية وسيكولوجية ومزاجية جديدة، نوعية في حركة الجماهير ووعيها.. لكن مما لا شك فيه أن الانقلاب أحدث خلخلة ورجة عنيفة فكرية ونفسية في حياة الناس، وإن لم يؤتِ هذا الأثر ثماره سريعًا، كون أثر تلك التحولات في الذهن والوعي والنفسية يستغرق فترة زمنية طويلة، حتى يجتمع ويختمر ويتشكل في صورة وعي ومزاج ونفسية جديدة، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف حالة من الصحوة أو النقلة السياسية الفكرية. كما أنه وعلى الرغم من فشل الانقلاب فإنه قد أيقظ لدى الشعب الشعور بالقوة، وأن في استطاعته أن يقرر مصيره ويختار حكامه بعد أن سقطت أسطورة الحاكم -الإله- أو بالحق الإلهي، كما لعب الانقلاب رغم الفترة الزمنية القصيرة دورًا هامًا في تحريك الحياة في المياه الراكدة في البلاد، وهيأ المناخ المناسب للعمل السياسي -نسبيًا- ضد الأسرة الحاكمة بعيدًا عن ضغوطات البنية الأيديولوجية السياسية السلطوية الإمامية، وتأثيرات وعي الحاكمية السياسية الذي نجده يمثل اليوم واحدًا من أهم مكونات فكر الجماعات السياسية الدينية المتأسلمة، كما أن الانقلاب عمق -رغم رأي البعض المعاكس- الخلافات بين الأمراء من جهة وبين الأسرة الحميدية الحاكمة، "قضية ولي العهد"، ومن جهة أخرى بين الأحرار أنفسهم في سياق حركتهم اللاحقة.
كما زرع الانقلاب بالفعل بذور الاحتجاج السياسي، ونستطيع القول: إن حركة الأحرار "قد أيقظت الحس السياسي العام وأججت روح العداء لحكم الإمامين يحيى وأحمد حميد الدين، ودفعت قطاعات كثيرة إلى ميدان التفكير في أوضاع مملكة الأئمة المغلقة، إلى الإسهام في التصدي لها وهذا ما لاشك فيه"(4).
أما الاتجاه أو الأثر الآخر لفشل الانقلاب فيمكن تحديده في ما قاله الأستاذ الشهيد محمد أحمد نعمان: "لقد فشلت حركة الأحرار، وكل فشل يحمل أثره النفسي على الأمة التي لم تستطع أن تفيق إلا بعد عدة سنوات"(5). حقًا إن فشل أية حركة سياسية يخلق حتمًا حالة من الاضطراب والقلق النفسي والإحباط، لأن الفشل بدلالته الخاصة الفردية أو العامة يعني النكسة الذاتية المؤقتة أو تلك التي قد تأخذ انعكاساتها زمنًا قد يطول نسبيًا، مما قد يعني لدى البعض الارتداد الكلي عن مضمون الفعل التقدمي أو الإصلاحي في سياق الحركة التاريخية لصيرورة الفعل الإنساني، يظل معها ذلك الانكسار والاضطراب والمزاج البائس قائمًا حتى تستكمل حالة الاختمار لتشكل في ما بعد وعيًا ومزاجًا ونفسية جديدة، وهي فترة قد تطول أو تقصر حسب الظروف الخاصة أو العامة لهذه الحركة، طبيعتها الطبقية الفكرية، قواها المحركة، خصائصها الذاتية التاريخية، فكلما كانت الحركة ومواقفها تتمثل مصالح الناس ومستقبل البلاد وتقدمها التاريخي، كان لأثر الفشل أو الانتصار وقعه الخاص والمحدود على وعي ونفسية الناس.
فالانتصار المجسد لأماني الجماهير ومصالحها ومستقبلها يسهم في رفع الوعي لديها، ويرتقي بوعيها ونفسيتها درجة أعلى، ومن جانب آخر، فإن الهزيمة والانتكاسة عمومًا تخلق حالة من الانكسار النفسي والاضطراب، تضفي مساحة عامة من الحزن نجد انعكاساتها على بنية الوعي السياسي وعلى الأدب والثقافة والفن، وهذا ما تجلى بدرجة أو بأخرى على واقع حركة الأحرار أنفسهم، حياتهم ونشاطاتهم، بحيث توقف بعد فشل الانقلاب نشاط الأحرار حتى عام 1952م وهي مرحلة صمت وانكفاء، أو بحث ومراجعة وتأمل.
وبكل ثقة يجدرُ بنا القول إن حركة 1948م هي أول من أشار إلى ضرورة الدولة المركزية والملكية الدستورية في ظل الإمامة، أي في التاريخ السياسي للإمامة، فـ"الميثاق الوطني المقدس" للأحرار اليمنيين -كما هو واضح- يعكس رؤيتهم ونظرتهم السياسية لمستقبل البلاد، حيث يعكس الميثاق رؤية سياسية إصلاحية واضحة، متماسكة على الصعيد النظري لما يريدون، وهو بالضبط مشروعهم السياسي الذي عجزوا عن تحقيقه تاريخيًا خلال فترات نشاطهم السياسي في المراحل المختلفة، بل نعجز اليوم عن تطويره وإغنائه. و"الميثاق" جاء يعكس مشروع رؤية سياسية متقدمة تاريخيًا كان من الممكن إذا توفرت الشروط الذاتية والسياسية التاريخية لإمكانية تحققها التاريخي، أن تقود البلاد إلى طريق آخر، بقي معها "الميثاق الوطني المقدس" مشروعًا سياسيًا فوقيًا أو كما يسميه البعض "مشروعًا ثوريًا" من فوق، تحول مع الأيام بالنسبة للأحرار إلى حلم مطلوب تحققه الواقعي.
ومع ذلك وحتى في هذه الحدود، فإن الميثاق الوطني وقمة فعله السياسي ممثلًا في انقلاب 1948م، يعتبران النافذة الوحيدة التي حاول المستنيرون اليمنيون (الرعيل الأول من المثقفين)، الإطلال من خلالها على العصر، وفتح ثغرة عميقة في الجدار الأيديولوجي السياسي السميك، في بنية النظام شبه الإقطاعي/ الإمامي.
فالميثاق الوطني إلى جانب طرحه لقضية الشورى وشكل الحكم أو التنظيم السياسي للدولة والمجتمع، وتقديم مؤسسات جديدة تنافس الإمام سلطاته التاريخية المقدسة.. مثل مجلس الشورى، ومجلس الوزراء، فإنه قد أكد على الحريات العامة والشخصية، وأكد على فكرة، مصطلح المواطن في مقابل مصطلح "الرعية" والرعوي الذي مانزال نعاني من انعكاساته السلبية حتى اللحظة.

حركة 1948م والميثاق الوطني المقدس هما أول محاولة سياسية وفكرية للإصلاح في المنطقة العربية كلها، تطرح تصورًا سياسيًا لإعادة صياغة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للناس.

أكدت معها على ضرورة الشروع بالإصلاحات السياسية الاجتماعية العامة، وهو ما شهدته البلاد -لاحقًا- في صورة بعض الإجراءات المحدودة هنا وهناك، التي شرع الإمام أحمد في القيام بإجرائها، لامتصاص السخط الشعبي والسياسي العام وليس عن قناعة بضرورة الاصلاح.
ما يجب إدراكه أن أحرار 1948م حاولوا إحداث تعديلات في البناء السياسي لنظام الحكم، وهي بالنسبة للحكم شبه الإقطاعي الإمامي الثيوقراطي، وبالنسبة لوعي المجتمع حينها، أمر يرتفع إلى مصاف التهور والجنون بل والمروق والكفر.
كل ذلك، ودون شك، هي دعوات وأفكار سياسية متقدمة تاريخيًا تمثل الإنجاز الجوهري للدور الذي لعبه الرعيل الأول من المثقفين اليمنيين تحت صيغة الأحرار الدستوريين، مع إدراكنا أن حظها في التحقق التاريخي -في التطبيق- أقل ما يمكن أن يقال عنها إنما تعكس وتحمل أحلام الأحرار، ووجع الخيبة.. فهي أفكار جديدة على الوعي السياسي العام بدأت آثارها الإيجابية تظهر في كتيب "مطالب الشعب" في 1956م للأستاذ أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري، وهي خطوة فكرية وسياسية متقدمة على مستوى الفكر، والتفكير السياسي اليمني، حتى اللحظة الراهنة.
إن الرعيل الأول من المثقفين اليمنيين هم بحق رغم الأفق السياسي الأيديولوجي التاريخي المحدود بحركة الفعل الإصلاحي المشروط بالوضع التاريخي الإمامي؛ هم من كانوا يحملون مشعل التنوير السياسي والعقلي والأفكار السياسية الجديدة التي بشرت حقًا بميلاد حركة المعارضة السياسية المنظمة في البلاد، وهيأت لميلاد الحركة الوطنية الديمقراطية لاحقًا.
ولا يمكن دراسة حركة الأحرار خارج إطارها الزمكاني، وعندما أشرت إلى رفض المحاولات التي تسعى إلى تحميل الحركة ما يتجاوز إمكانياتها التاريخية، فإني بالمقابل أرفض المحاولات التي تحاول نعتها أو وصمها بأنها في مجملها حركة عملية للاستعمار من خلال عقلية لا يتعدى منطقها الداخلي عقلية البحث البوليسي المخابراتي، أو من خلال وصفها الخارجي، بأنها أداة من أدوات الإخوان المسلمين، ومع أن كلًا من الوصفين اللذين يحاول البعض إلصاقهما بالحركة لا يستبعد أن يأتي في سياق ذكر ارتباط هذا الرمز أو ذاك أو بعض العناصر من رموز حركة الأحرار بهما -أقصد الاستعمار والإخوان المسلمين- إلا أنه من الصعب، بل من غير العلمي والواقعي والتاريخي، إسقاط مثل هذه النعوت والأوصاف بإطلاقها على مجمل حركة الأحرار اليمنيين، وهو أمر في غاية الجدية علينا دراسته وبحثه بصورة علمية موضوعية وفي السياق التاريخي لتطور مسيرة حركة الأحرار اليمنيين في تعرجاتها وتقلباتها ما بعد فشل انقلاب 1948م(6).
وتبقى حركة الأحرار المستنيرين هي البروفة السياسية الواقعية العقلانية الأولى في حياتنا المعاصرة، في ذلك الحين، وهي في تقديري ماتزال بحاجة إلى مزيد من القراءات البحثية الموضوعية النقدية.

الهوامش:
1. فيدور بولا لاتسكي، كتاب "المادية التاريخية"، دار التقدم، موسكو، 1980م، ص259.
2. د. أبو بكر السقاف، مقال "ذهنية الاستبداد أو واحدية الثورة"، الحلقة الثانية، صحيفة "الثوري"، العدد رقم 1324، صنعاء، 9/12/1993م.
3. عبدالله عبدالرزاق باذيب، "كتابات مختارة"، الجزء الأول، دار الفارابي، 1978م، ص104.
4. د. محمد علي الشهاري، كتاب "مساجلات حول حركة الأحرار اليمنيين"، 1980م، دار الفارابي، ص 22.
5. محمد أحمد نعمان، "كيف نفهم القضية"، مطبعة الجماهير، عدن، ص 11. يمكنني اعتبار إجابات الأحرار في السجن على أسئلة الأستاذ الشهيد محمد أحمد نعمان، في كتيبه "من وراء الأسوار"، هي البدايات الأولى المبكرة على حضور منطق ذلك التفكير الجديد في قلب الفكر السياسي للأحرار اليمنيين، والذي قطعًا كان من المقدمات الأولى للتبشير بخطاب الإصلاح والتغيير الثوري، وبالجمهورية، الذي كانت ثورة 26 سبتمبر 1962، خاتمته الفكرية والسياسية والثورية.
6. حيث بعدها بفترة زمنية -أي بعد الانقلاب- ظهرت انقسامات الحركة السياسية والتنظيمية، وبخاصة بعد صعود دور الحركة الوطنية الديمقراطية المعاصرة التي كانت الإعلان السياسي الاجتماعي الطبقي لأفول أو بالأصح ضعف نجم الأحرار وتحللهم وإفلاسهم حتى ظهورها السياسي ملتصقة بجسم الثورة السبتمبرية الخارجي، وبعدها على رأس القيادة مستغلين "المثالية الثورية"، لدى القيادة الأساسية للثورة -الضباط الأحرار- وغياب الرؤية السياسية البرنامجية لمستقبل الثورة، باتجاه تقليص شحنتها الثورية وتبهيت مضمونها السياسي، الاجتماعي الفكري، الثوري، حتى إفراغها من بعديها الاجتماعي والسياسي والشعبي الديمقراطي لاحقًا ممثلًا في انقلاب 5 نوفمبر 1967م الذي حدد في حينه مسارًا آخر لمعنى الثورة السبتمبرية مازلنا نشهد ونعيش انعكاساته السلبية حتى اللحظة الراهنة.