أمان يا نازل الوادي: تصرف اللحن بين كرامته وهوان كلماته

الفنان علي بن علي الآنسي

لعل اللازمة الغنائية الأشهر في اليمن (أمان يا نازل الوادي أمان)، هي الجملة الشعرية الأعف ظاهراً والأجمل بين كل الأبيات المسفة في الأغنية الشعبية التي طار بها لحنها الرائع طيراناً خلال النصف الأول من القرن الفائت وما بعده، فراجت على ألسنة الناس رواجاً واسعاً حتى تجاوزت نطاق خبانها وواديها ولوائها المبدع كله إلى عموم البلاد اليمنية وبعض ما جاورها.

وأيَّاً كان الدور الذي أسهمت به، في ذلك الرواج، خفة كلمات الأغنية وتناولها ما لا ينبغي الخوض فيه، فإن حلاوة لحنها وعبقريته الشعبية قد طغت بما لها من التطريب على ما فيها من التجاوز طغياناً فتن الأسماع عن مراعاة بعض ما توجبه الاعتبارات العامة، اتصالاً بواقعة ذهبت ضحيتها مجدلية يمنية لم تجد مسيحاً يخلصها من مصيرها الفادح مهيِّئاً لجعلها قديسةً، سوى بعد عقود من قتلها عقب التعزير، ناهيك عن التشهير الطويل باسمها.

وما كان ذلك إلا حين قيض الله لها فذاً من مثقفي اليمن وحكمائه هو العلامة والشاعر الغنائي الكبير مطهر الإرياني الذي عمد -مستنداً إلى لحن الأغنية الأصيل نفسه، ومدفوعاً بعوامل من النبل الفني والاجتماعي معاً- إلى نظم أبيات لائقة بمستوى ذلك اللحن جودةً ورقياً؛ وإن ألمع هو نفسه منتقداً إياها بأنها جاءت أقل شعبيةً من المرام، ومن الأبيات الأصلية بالطبع.

لكن الأغنية بنسختها الإريانية/الآنسية قد أنجزت بالتأكيد الغاية المزدوجة منها اجتماعياً وفنياً؛ إذ صرفت الأسماع من جانبٍ عن الأغنية السابقة وما في كلماتها من الابتذال بالحلول محلها انتشاراً وذيوعا. كما أهدتها، من الجانب الآخر، ميلاداً جديداً رفد الغناء اليمني وأدبه العريق برائعة من روائعه حفظت للحن قيمته الرفيعة وكرامته المتمثلة بصورته الجميلة المنزهة من أية شائبة؛ دون أن تبتعد به عن نطاق أصالته الشعبية بالطبع إلا بقدر محدود جداً وفي الإطار الحميني المحبب لأسماع الخاصة والعامة في مجتمعنا اليمني كله على امتداد جغرافيته الطبيعية، ومجالها الثقافي العربي.




وللأمانة، فقد نظرت في أبيات الأغنية الأولى كما نظر فيها الأستاذ مطهر ربما، لكن بقدر أشد كثيراً من الحيرة بسبب التباين الكبير بين وزنها الشعري ولحنها المعروف من الثانية؛ فهو تباين ينعدم معه بظني التوافق الكافي لتركيب أحدهما على الآخر. ولم يبدد عني تلك الحيرة والالتباس إلا سماعها بصوت المغني القدير شلومو موقعة، اليهودي اليمني الأصل. فبأدائه الشعبي المطرب شرح الأمر ببساطةٍ بالغة، مؤكداً لي كذلك أهمية الدور الذي ينعكس به اللحن على الشعر المغنَّى وتأثيره فيه خلقاً أو تطويراً إيقاعياً خلاقاً وفق ما نحاول توضيحه عبر تناول بعض أبيات هذه الأغنية عروضياً بنسختيها المذكورتين. فهي تقدم -بهما معاً، وبأولاهما تحديداً- النموذج العملي الدال على ذلك التأثير.




هاك أحد أبيات الأغنية كما قرأتها بنسختها الدودحية الأولى متبوعاً باللازمة بين هلالين لأنها تغنى بعد انتهاء كل بيت دون أن تُحتسب من أجزائه الأساسية:

يا دودحية، ويا غُصن القنا.. قد دردحوا بش على وادي بنا (أمان يا نازل الوادي أمان)

وهو لم يرد في الأغنية التي سمعتها؛ لكنه ورد في غيرها بالطبع. كما أنه حامل (غصن القنا) الشهير الذي أبقته منظومة مطهر، مع اللازمة واللحن الأصليين، من بين كل مفردات الأغنية القديمة بنسخها المختلفة. أما أبياتها الستة الركيكة التي أمكنني سماعها مغنَّاةً، فمن أقلها تهكماً وتعريضاً:

والدودحية، توصي لا عدن.. يدوا لش الْعطر والباقي كفنْ

يا دودحية، وقومي اتعطَّري.. قد صاحبش سارِ صنعا يشتري

وكما ترى، فكل بيت فيها يتألف من شطرين بنفس القافية المتغيرة من بيت لآخر، تليهما اللازمة بوزنها المحدد (مستفعلن فاعلن مستفعلان) الذي يضبط كل شطر من أبياتها بوزن شطر من بحر البسيط المجزوء. فالبيت الواحد لا يزيد كاملاً بشطريه عن ست تفاعيل بواقع ثلاثٍ في كل شطر:

يا دودحيْ/ يَةْ وقو/ مي اتعطَّري// قد صاحبش/ سارِ صن/ عا يشتري

مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن// مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن

أما لحن الأغنية، فبنيته أوسع كثيراً، بأقسامه السبعة التي تتطلب بيتاً سباعي الأشطر (مسبوعاً) ليوافقها، وليس ثنائياً من شطرين، فقط. ذلك ما أدركه مطهر عند تصديه لنظم ما يجاري بنية اللحن؛ فأنتج منظومةً يتواءم كل بيت فيها بعدد أشطره مع أقسام لحنها الأساسية.

ومن اللافت أنه ربما تعذر عليه غالباً جعل البيت سباعياً تماماً دون الإخلال بتماسك المعنى الذي يكتمل بالشطرة السادسة؛ فتخلص من ذلك باحتيال خلاق يحسب له عبر ابتكاره شطرةً برزخيةً تأتي سابعةً فتكمل البيت كما ينبغي بنيوياً وتعبيرياً من ناحيةٍ، وتسبق اللازمة التي تقفل البيت بعد انتهائه، ممهدةً لها من ناحيةٍ أخرى، وتتصل بها فنياً وإيحائياً؛ فكانت تلك هي لازمة مطهر الخاصة ولمسته المضافة إلى قوام إنجازه الرائع بجملته.

وبتناول بيت منظومته الأول الذي نورده في ثلاثة أسطر هنا:

خطر غصن ال/قنا// وارد على الما نزل وادي بنا// ومر جنبي

وباجفانه/ رنا// نحوي وصوب سهامه واعتنى// وصاب قلبي

أنا يا بو/ يَ نا//

نجد كلاً من السطرين الأولين ثلاثي الشطرات المتنوعة الوزن فمجموعها ست يكتمل بها المعنى العام للبيت، يعقبهما السطر الثالث بشطرة سابعة وحيدة تكمل مقتضيات البيت النظمية فنياً وإبداعياً بلازمته المبتكرة (أنا يا بوي انا)، لتختم مكونات بيته الأساسية، بحيث تنطبق بها بنيته على بنية اللحن وتحفظه من أي ترهل معنوي، متوافقة في دلالتها مع عامة الشطرات قبلها، وفي إيحائها وتكرارها مع لازمة الأغنية بعدها (أمان يا نازل الوادي أمان!). أما غناؤها بعد اللازمة الأساسية فلعله ضمن لمسته تلك أو مما أضفاه الأستاذ علي الآنسي من إسهام في اللحن بلمساته الخاصة عليه في أغنيته.

وتتوزع قوافي البيت على شطراته السبع بحيث تتناغم أولاها مع الثانية والرابعة والخامسة بقافية موحدة تتغير من بيت لآخر؛ وتتفق الثالثة والسادسة بقافية أخرى، متغيرة في بقية الأبيات. أما السابعة فتتفق في البيت الأول فقط مع الشطرات الأربع المحددة، وتخالفها في الأبيات اللاحقة. فهي تتكرر بقافيتها الثابتة آخر كل بيت قبل اللازمة الأصلية وبعدها مرجِّعةً الجرس الموسيقي للبيت الأول فتعيده للسمع رنيناً مطرباً بانتظام يخدم الوحدة النغمية العامة للمنظومة.

أما البناء العروضي، فتتنوع به البنية الوزنية للبيت بحيث ينتظم شطراته الأولى والرابعة والسابعة وزن واحد مقتطع من الوافر أو الهزج (مفاعيلن مفا). وبينما تنفرد الشطرتان الثانية والخامسة ببحر واضح تتفقان به مع اللازمة الأساسية على وزن مجزوء البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن)؛ نجد الشطرتين الثالثة والسادسة، الأخيرتين في السطرين الأولين، تتفقان وزناً بتفعيلة واحدة مرفلة (مستفعلاتن) أو متبوعة بسبب خفيف فقط من أخرى (مستفعلن فا)، فتتراوح في حالة ملتبسة بين الرجز والبسيط.

وعليه فمن بين الأوزان الثلاثة المختلفة ينفرد مجزوء البسيط بالوضوح في الثانية والخامسة فقط من شطرات البيت جميعاً؛ بينما يلتبس عروض باقي شطراته الخمس ويستدعي قراءة مختلفة لكلٍّ من سطريه الأولين لا تعتمد على تقسيم اللحن والقافية له إلى شطرات ثلاث؛ بل على تجاهلهما وإعادة ذلك التقسيم اجتهاداً وفق ما يلي:

خطر غصن القنا وارد على الما// نزل وادي بنا ومر جنبي

وباجفانه رنا نحوي وصوب// سهامه واعتنى وصاب قلبي

مفاعيلن مفاعيلن فعولن// مفاعيلن مفاعيلن فعولن

أنا يا بو/ يَ نا// (= مفاعيلن/ مفا).

بهذا التقسيم إلى شطرين في كلا السطرين الأولين يتشكل لدينا بيتان على بحر الوافر، تليهما شطرة مقتطعة منه. فالوافر هو البحر هنا؛ لكن الغناء أعاد تشطيره في نحو ثلاثة أبحر متنوعة تشي لنا بالكيفية التي تعمل بها البنية الإيقاعية للحن في تفكيك البحر الشعري الواحد وتعديده.

وبالعودة إلى الأغنية القديمة التي ابتعدنا عنها استطراداً، نخلص إلى قراءة أخرى تتضح عبر إعادة النظر في وزن بيتها الأول مكتوباً أولاً، ثم وفقاً لسماعه مغنَّى فيها؛ وهو:

والدودحيْ/ يَةْ توصْ/صي لا عدن

يدَّوا لشِ الْ/عطرِ والْ/باقي كفن

فهو بيت من مجزوء البسيط ذو شطرين فقط، وزن أولهما (مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن)، وهو ذاته وزن شطره الآخر؛ أي أنه يقصر كثيراً عن امتداد لحنه المعروف وتنوع جمله.

فكيف تصرف اللحن أو الملحن حيال هذا القصور، حتى تسنَّى لبيت ثنائي الشطر محدود الامتداد كهذا أن يُؤدِّيه المغني باتساع دورٍ لحني كامل ذي سبعة أقسمة متفاوتة في الأغنية؟!

ذلك ما حرتُ فيه معتقداً استحالته بسطحية ناشئة عن الجهل بالألحان ودهائها؛ فالتبس الأمر عليَّ حتى جلاه لي أداء المغني وهو يعمد إلى حيلة مبدعة اهتدى إليها الغناء الشعبي اليمني منذ ابتكر لحنه العريق هذا، أو منذ نشأت لديه الحاجة إلى استعمال اللحن لأداء ما يختلف عنه كليةً في ميزانه الإيقاعي من القول.

فلِكي ينضبط الكلام مع ميزان اللحن تناول وزن شطري البيت بتقسيمه في كلٍّ منهما إلى قسمين على هذا النحو (مستفعلن فا//علن مستفعلن)، فأنتج شطرتين جديدتين هما (مستفعلن فا) و(علن مستفعلن) من الأول، ومثلهما من الثاني. وبذلك حصل على أربع شطرات جديدة تؤلف مع شطري البيت الأساسيين ست شطرات، توفر له -بمجرد إعادته غناء إحداها مرةً واحدة- بيتاً سباعيَّ الأشطر حسب ما يقتضيه اللحن.

وبغناء مجمل ما أضحى لديه من الأشطار الأصلية والمستولدة بنسقها المنتظم الملائم يمكنه أداء اللحن بأجزائه السبعة أداءً في غاية السلامة والإطراب، بصرف النظر عن مضمون الكلام ومستواه؛ وفقاً للخطوات السبع التالية والأداء اللحني المحدد لكل منها:

1-البدء بغناء القسم الثاني من الشطر الأول (علن مستفعلن). 2-غناء الشطر الأول كاملاً (مستفعلن فاعلن مستفعلن). 3- غناء القسم الأول من الشطر نفسه (مستفعلن فا). 4- إعادة غناء القسم الثاني من الشطر الأول مرةً أخرى (علن مستفعلن). 5- البدء بغناء الشطر الثاني كاملاً (مستفعلن فاعلن مستفعلن). 6- غناء القسم الأول من الشطر نفسه فقط (مستفعلن فا). وأخيراً، 7- غناء القسم الثاني منه فقط (علن مستفعلن).

وهكذا يكون قد أدى شطرات بيته السبع التي استحدث خمساً منها، وفق هذا النسق المتوالي:

علن مستفعلن// مستفعلن فاعلن مستفعلن// مستفعلن فا*

علن مستفعلن// مستفعلن فاعلن مستفعلن// مستفعلن فا

علن مستفعلن//... تليها اللازمة.

فهو بذلك قد أكمل الموازنة مع أقسام اللحن السبعة بشطرات الكلام السبع التي ابتكر استنباط أكثرها من مجرد شطري بيت ركيك؛ ثم أقفلها باللازمة المتكررة كما ينبغي.

وبتطبيق تلك الحيلة على بيت الأغنية المذكور لمزيد من الإيضاح، نجده قد قسم شطريه أولاً على هذا النحو: (والدودحيَّةْ)، (توصِّي لا عدن)؛ و (يدوا لش الْعطْ)، (ر والْباقي كفن). ثم بإجراء الخطوات السبع المحددة سابقاً، يكون من بيتٍ أحادي الوزن ثنائي الشطر قد خلق بيتاً سباعي الشطرات مختلفاً أوزانه، يعادله وزناً بيت مطهر، وبالقسط؛ كما يلي:

توصّي لا عدن// والدودحيّة، توصي لا عدن// والدودحيّة

توصّي لا عدن// يدوا لش العطر والباقي كفن// يدوا لش العط

رِ والباقي كفنْ//

تليه بالطبع الجملة التي استهللنا بها تناولنا العروضي هنا لهذه الرائعة الغنائية اليمنية، وهي لازمتها الشهيرة (أمان يا نازل الوادي أمان) والتي لو لم يكن لدى اللحن ما يغنيه من الكلام سواها، لأنفذ فيها حكمه ذاته، فأدَّاها هكذا:

زلَ الوادي أمان// أمان يا نازل الوادي أمان// أمانِ يا نا

زلَ الوادي أمان/... إلى آخرها.

*نلمع في هذا السياق إلى أننا إذا نظرنا في وزن السطر الأول من البيت الذي أنتجته حيلة اللحن، وهو (علن مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فا)، وقمنا بنقل الوتد المجموع (علن) من أوله إلى آخره، نحصل على وزن بحر السريع المستعمل: (مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن). فكأنه قام بتحريك وتد آخر تفاعيل السريع (فاعلن) إلى ما قبل أولاها (مستفعلن)، متفنِّناً بتقسيم شطريه إلى ثلاثة؛ فولَّد منه هذا الوزن: (علن مستفعلن// مستفعلن فاعلن مستفعلن// مستفعلن فا)، الذي يحيلنا كذلك إلى وزن الوافر (علن مستف/ علن مستف/ علن فا).