أبو بكر السقاف: سْقَفُ مفهوم لا أُسْقُف كتاب مقدس

مع "نيتشه" أصبح الشخوص أو الشخصيات عَبَّارَة للمفاهيم، بما فيهم نيتشه الذي ينبه قارئ كتبه، أن يقرأه لا أن يقدسه "لست مقدسًا" - يكتب نيتشه في كتاب العلم المرح - وعلى لسان" زرادشت" الناهية، ينبه "نيتشه" القارئ، قراءة خطابه دون إيمان "لا تتبعني"، أما في كتاب "هذا هو الإنسان"، فهو يحذر القارئ لأن يحتاط عند قراءته "أنا شيء وكتابتي شيء آخر"، فالقراءة كما الكتابة متجاوزا لغايتيهما.

شَخْصٌ مَجَسْ

 

وهنا "السقاف": مَجَسُ محايث؛ وهذا واضح في كتابه "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي"، فهو يناقش جاري الواقع محايثًا التاريخي على تأريخه، وكذلك تفعل مقالاته المنشورة في الصحافة، والمتعددة القضايا والأبعاد؛ فهي تُعَاين مواضيع أحداث القضايا بنقد محايث مضاد.
تتميز طبيعة كتابة "السقاف"، أنها قادمة من حقل فلسفي متعدد، وهذا ما يميزها من مثيلاتها المتناولة لنفس القضايا تقريبًا؛ فهو يستخدم المفهوم استخدام مباشر، رافعًا المكتوب رفعًا فلسفيًا؛ محاولًا جعل الآني في دائرة المفهوم الفلسفي؛ أي رافعًا الأني إلى معاينة المفهوم، جاعلًا من الواقع مَعينًا للفكر.
ومع ذلك لا يخلو خطابه في النهاية، من مَسْحَةِ إيديولوجية الأفكار التحررية الوطنية العربية والإنسانية، فمعظم كتابته المنشورة، تأتي في سياق مشروع الذات العربية الحديثة، حيث رافقت كتابته مشروع ذات تحديثي؛ لكنها لم تنساق بسذاجة، مع حلم مشروع الأيديولوجية العربية المعاصرة، بل صاحبته بفكر ناقد.
ومع ذلك، عَمِل خطابه النقدي العام تقابلًا من قبل الاستخدام السياسي؛ حيث أستخدمه السياسي والمثقف العضوي ضد الخصوم السياسيين والأيديولوجيين المقابلين. كذلك تعامل الساسة المعارضون لنظام الحاكم مع خطابه النقدي العام على أنه مُشرَّع لحالة سياسية أو على أنه موالٍ لجماعة سياسية دون أخرى، أما سلطة الحاكم فقد اعتقلته مرة، وأوكلت أجهزتها الأمنية إلى ضربه مرة أخرى.
بكلمات أخرى، لقد تعرض خطابه إلى سوء فهم من قبل الساسة والمثقف السياسي والعضوي ومثقف السلطة والأجهزة الأمنية.
وهذا بَيَّن في استخدام اسمه في "حكومة البيض" اثناء حرب 1994، وفي قول سياسي رمزي "لدينا مفكرينا" من طرف قوى سياسية "جماعوية" تتعامل مع "الجنوب" كهوية لا كأفق آخر للمواطنة.
كما اُسْتِثمر نقده لجماعات الإسلام السياسي السني، من طرف مثقفي وجماعات الإسلام السياسي الزيدي الشيعي.
هذا لا يعني أنه ليس لأبي بكر السقاف مواقف سياسية، ولكن المهم هو كيف نقرأ "السقاف" ومواقفه كي لا يسقط خطابه ويغدو فقط مجرد خطاب ديماغوجي؟.
لَعَلَ اللاتفاعل مع مطلق خطابه، هو المُمَكِن لقراءة إشراق "المثقف الحر" عنده، فهو يكتب من على مَشَارِف المفهوم الفلسفي، والذي من عليه يكتب موقفه السياسي، فالموقف هو تكرار النظر إلى "ماذا" المُعَاد أبدًا للاختلاف.

السقاف "مدعو لأن"

 

ومن معنى اسمه الأخير "السقاف" نستطيع قراءة كتابة خطاب توقيعه، فهو بانِ سقوف منازل الناس، الذين يدعوه لأن يبني لهم أسقف منازلهم؛ فهو في حرفته بانٍ سقف مفهوم "قسم الفلسفة" داخل أولى جامعة حديثة لأنحاء اليمن ( جامعة صنعاء)، والذي من على سقف قسمها (الفلسفة) لا تسطيع الجامعة أن ترى حقولها الخاصة وحسب، بل تستطيع أن ترى حقول أنحاء اليمن.
"السقاف" أيضًا هو بانِ سقف المفهوم الكلاسيكي للدرس الفلسفي في قاعة درس الجامعة (قراءة نصوص الفلاسفة عند تدريسها) فهو يُعَلِّم الفلسفة، من خلال دراسة نصوصها.
إنه لا يدفع بالمتعلم إلى موضوع الدرس الفلسفي فقط، بل يدفع به إلى أفق النص، أي إلى أفق حرية النص الفلسفي؛ كي يصبح الدرس عبور لمتفلسف، لديه قدرة على أن يتفلسف ويحيا، وفي نفسه تعدد حيوات مختلفة؛ وهو عمق فكر متفلسفينا العرب المسلمين، والذي يدفع به "السقاف" نحو أفق العالم المعاصر.
لا غرابة من الخوف من الفلسفة في ثقافتنا عمومًا، ومن متفلسف حر كما "السقاف"، لديه قدرة على اختيار بناء سقف منزل نفسه؛ حيث أهمية تعلم الفلسفة يكمن في أنها تعطي قَدْر من حرية للفرد الكامن داخل الإنسان لأن يختار نفسه.
لذا يتجه المثقف أو المناضل أو السياسي نحو سقف "السقاف"، بل حتى الإنسان العادي الغير مزود بمعرفة المثقف والسياسي يتجه نحوه، وهذا الأخير (الإنسان العادي) هو من يساعد على قراءة كتابة "السقاف" دون اكتراث بمطلق خطابه؛ لأنه يسمع رنين الكلمة.
تدفع حياة "السقاف" بسقف المفهوم إلى اقصاه، مغامراً بالفكر في الشأن اليومي، ليجد نفسه مورطًا فيما لا شأن له، أي فيما يهم الناس (السياسة) لا ما يهم الفكر، دون أن ينحط بالفكرة إلى أيديولوجية أو إلى تبرير للسياسة، وإنما على العكس، يجعل من الفكرة لامحدودة؛ فعندما يكتب حول "الجنوب" فهو يكتب على سقف منزل المواطنة، وكذلك عندما يكتب حول فكرة حقوق الإنسان أو حقوق الشعوب أو حقوق المرأة، فهو يصاحب روح أصالة فكرة الحق الحديثة، لا تصورها الأيديولوجي؛ أي يكتب على سقف إمكانيات مفاهيمها.
وعندما يقاوم الذات الغربية المتغطرسة، فهو يقاوم الذات الاستعمارية التي لا ترى الآخر، بروح الفكر المعاصر؛ فأصالة الفكرة الإنسانية المعاصرة، ليست موقوفة على أحادية "إنسانية الغرب"؛ بل موجودة داخل أي إنسانية؛ لذا يدفع "السقاف" بالتحديث نحو الداخل، وليس نحو الخارج، مُستلهمًا فكر إنسانيته وكذلك فكر إنسانيات أخرى كالهند واليونان.
الفيلسوف كما "السقاف" مدعو لأن يصاحب الآلام والآمال الكبرى لأناس مجتمعه وإنسانيته، لكن الفيلسوف ليس داعية لدين أو لأيديولوجية، ولا يعمل مشرعًا سياسيا، لا للدولة ولا لجماعة ولا لأحد، وهذا ما لا تراه ولا ترعاه الثقافة السياسية العربية بعد.