موظفو اليمن.. بين الأمس واليوم في وجه الجوع

عندما بعث الملك عبدالعزيز ولده إلى عواصم العالم بحثًا عن قروض لتسديد الرواتب

موظفو اليمن بين الأمس واليوم في وجه الجوع - علي الضبيبي
موظفو اليمن بين الأمس واليوم في وجه الجوع - علي الضبيبي

في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، بعث الملك عبدالعزيز آل سعود، نجله الأمير فيصل، إلى عواصم العالم، بحثًا عن أي قروض عاجلة يدفع بها مرتبات الناس.

كان ابن سعود خارجًا لتوه من حرب أهلية طاحنة، قضى خلالها على تمردات "الإخوان" وما عُرف بحركة فيصل الدويش. وكانت موجة جفاف شديدة ضربت -على مدى سنتين- كل أرجاء الجزيرة العربية، بالتزامن مع عاصفة اضطرابات اقتصادية عالمية كبرى: الكساد العظيم.

توقفت حركة تصدير المواشي والجلود والتمور والبن والسمن وسائر المنتجات الاعتيادية لسكان شبه الجزيرة، كما أن أعداد الحجاج تضاءلت إلى مستوى كارثي، وباتت الخزائن خالية. كان الموظفون العموميون والجنود الذين لم يتسلموا رواتبهم منذ شهور طويلة، أخذوا يبتزون الأهالي، ثم إن المعونات الممنوحة لبعض شيوخ القبائل، توقفت، وبدأت المجاعة تتفشى.

كانت اليمن ضمن هذا المناخ الجاف، لكن إمام صنعاء لم يتخذ أي تدابير لإغاثة مواطنيه/ رعاياه (لاتزال قصص الجوع/ المجاعة ماثلة في الأذهان إلى اليوم، نقلًا عن الآباء والأجداد الذين عاصروها قبل تسعين عامًا).

تقف اليمن اليوم على بعد خطوة واحدة من المجاعة الشاملة، رغم حلول موسم الأمطار، وتوقف الحرب. ما الذي يجري؟!

أكثر من مليون ومائتي موظف حكومي انقطعت رواتبهم منذ ست سنوات. من المسؤول عن توقف الرواتب في اليمن؟!

وفي بلد تتنازعه حكومتان، وتتقاطع فيه الطرق والمنافذ، وتتعاضد مصالح أمراء الحروب، لماذا يبقى موظفو الدولة هم الوحيدين: حظوظهم عاثرة؟

قبل أسابيع هاجم زعيم كتلة المؤتمر الشعبي العام البرلمانية في صنعاء، حكومة الإنقاذ التي تخضع لتوجيهات أنصار الله (الحوثيين)، واتهمها بالعجز والفشل بسبب عدم الوفاء بالتزاماتها الدستورية في دفع الرواتب. ورفض عزام صلاح، في جلسة البرلمان، أية حجج من شأنها التبرير لهذا القصور الذي وقعت فيه الحكومة -المشاركين فيها- مثل: الحرب والعدوان وغياب عائدات النفط.

وقال: "كنا ندفع المرتبات قبل أن نعرف النفط"!

وعلت في الآونة الأخيرة أصوات الناس بمختلف جهاتهم ومواقعهم التأثيرية: سياسيون وبرلمانيون وصحفيون ونشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي، بحثًا عن رواتب، بمن في ذلك رئيس المؤتمر الشعبي العام؛ الحليف الرئيسي لحركة أنصار الله (الحوثيين) في الحكومة، الشيخ صادق أبو راس، واتهم الحكومة بالفشل، وقال إن من حق الموظف أن يبحث عن راتبه، وأن من واجب الحكومة أن تمنحه "شيكًا بنكيًا بذلك".

على الناحية المقابلة، لا يتحدث المسؤولون في حكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، عن هذا الموضوع بشكل واضح. فالحكومات الشرعية الثلاث المتعاقبة تعيش في وضع معزول عن دنيا الناس وضغط الجماهير واستحقاقاتهم.

ورغم أن الخطاب السائد في المرحلة الراهنة، الذي ثبتته حكومة معين عبدالملك كأيقونة لمواجهة أي أسئلة محتملة في هذا الشأن، هو: توقف تصدير النفط بفعل التهديدات الحوثية لموانئ التصدير ولسفن النقل القادمة إليها(!)، إلا أن سؤالًا بالمرصاد لمواجهة هذه الردود غير الذكية، مضمونه: وعندما كانت الحكومة منافذ بيع وتصدير الطاقة يمضي بشكل طبيعي، لماذا لم تدفع حكومات الشرعية رواتب موظفيها؟!

الوضع اليمني في جزء من ملامحه قبل تسعة عقود، يقترب في معانيه الفلسفية من الحالة الراهنة التي تعيش اليمن اليوم على ضفتيها: الحكومة الشرعية وحكومة صنعاء، حيث إن كلًا منهما لا تعترف بفكرة الموظف العمومي من أساسها.. وهكذا كان أمير المؤمنين قبل تسعين عامًا: يحيى حميد الدين.

بالنسبة لسلطان نجد والحجاز -الذي لم يكن سمى مملكته بعد- فقد كانت تحتدم بداخله مشاعر ضارية لمواجهة الأزمة.

وبخلاف الإمام يحيى حميد الدين، كان ابن سعود يدفع مرتبات رغم أن عائدته من الزكوات كانت أقل من تلك التي يتسلمها إمام اليمن من رعيته سنويًا.

نفذ الأمير فيصل أوامر أبيه، وسافر عبر البحر إلى أوروبا، بحثًا عن مليون جنيه إسترليني (قرضة)، أو عن أية سلع تجارية وبضائع وأغذية كديون مؤجلة.

بدأ الأمير من إيطاليا، ورغم الاستقبال الفخم الذي استقبل به الملك فيكتور عمانويل، الأمير فيصل، إلا أن الأمور لم تكن بيد الملك: كان القول الفصل بيد موسوليني الذي دعا الضيف العربي الشاب إلى حضور فعالية استعراضية نفذها شباب "الفاشية" لمدة ثلاث ساعات، وهم يمرون من أمام المنصة على شكل كتائب وسرايا منتظمة (نحو 50 ألف شاب).

كان الأمير فيصل في مهمة وحيدة لا سواها: الحصول على قروض أو جلب بضائع وأغذية عاجلة إلى بلاده.

كانت المهمة نبيلة، لكنها غير مواتية، لأن العواصم الأوروبية كانت تغلي ضمن حالة استقطاب حاد ومكثف.

ذهب فيصل بن عبدالعزيز إلى باريس، ومنها إلى لندن، ثم إلى برلين، وصولًا إلى بولندا، ولم يجد مبتغاه: القروض.

حصل من إيطاليا فقط على عدد من الطائرات الحربية، وعلى منح دراسية تمنحها روما لشبان سعوديين للتدريب على الطيران والدراسة، ولم يعطِ فيصل نظير ذلك أي التزامات سياسية كما تشير الوقائع لاحقًا.

وفي وارسو لم يحصل على قروض نقدية. والذي استطاع الحصول عليه الأمير فيصل، هو عدد من الرشاشات الحديثة والذخيرة وسيارات عسكرية مدرعة، على أن تدفع ثمنها الرياض لاحقًا ضمن مراحل، وعلى دفعات ميسرة.

لم يحصل على النقود، فقرر فيصل السفر عبر القطار من وارسو إلى موسكو، مستغيثًا بالاتحاد السوفيتي وبزعيم الكرملين: جوزيف ستالين.

يقول المؤرخ الروسي ألكسي فاسيليف: "لقد تملكت الأمير فيصل مشاعر متضاربة، وهو على القطار، فمن جهة لم ينسَ أن الاتحاد السوفيتي بالذات هو أول من اعترف بوالده ملكًا على الحجاز، وكانت هناك بعض التناقضات في التجارة، إلا أن الكيروسين الجيد حظي بطلب جيد في الحجاز، لكن الإلحاد عقيدة شيوعية رسمية لا يمكن أن تروق فيصل بالمطلق، لكن المطلوب آنذاك هو: الحصول على قروض من موسكو، وكان والده البراغماتي على استعداد للتعاون مع أي كان بشرط تخفيف الأزمة المالية في البلاد، وكان فيصل يتبع خطى أبيه".

بالنسبة للسوفيت، كانت تلك أول زيارة من نوعها يقوم بها مسؤول عربي كبير، فاستقبلوه بما يليق.

طرح فيصل بن عبدالعزيز في موسكو مسألة القرض النقدي "أو على الأقل إرسال كميات من البضائع مع تأجيل الدفع، إلا أن الاتحاد السوفيتي كان مشغولًا بالتصنيع قبيل المجاعة المرعبة التي حلت بأوكرانيا وكازاخستان والمناطق الجنوبية من روسيا ذاتها"، وفقًا لأليسكي فاسيليف.

لم يكن للاتحاد السوفيتي من مصلحة فعلية في جزيرة العرب، كما أن أشراف الحجاز (الذين سيطر ابن سعود على إمارتهم) لم يسددوا أثمان الكيروسين السوفيتي بعد. لذلك قفل الوفد السعودي عائدًا عبر ميناء أوديسا، وعلى طريقه من تركيا التقى فيصل كمال أتاتورك، ثم عبر الأراضي الإيرانية، ومنها إلى الكويت، وصولًا إلى الرياض، في رحلة ضمن مساعٍ إنقاذية بحثًا عن قروض، استغرقت 6 أشهر دون أن يأتي بالشيء الذي كان يأمله الملك.

وطيلة النصف الأول من عقد الثلاثينيات، والملك عبدالعزيز يبحث عن قروض لتسديد رواتب جنوده وموظفيه.

بالنسبة لفيصل، فقد عاد بأمور كثيرة غير النقود التي لم يحصل عليها: عاد بفكرة التحول إلى مملكة، بعد أن أدهشته استعراضات الجيوش وتقاليد الإدارة وطقوس الاستقبال الرسمية للدول، وبدأ بإنشاء المدارس للبنين والبنات في جدة لأول مرة، ودفع بأولاده وبناته إليها.

بالنسبة للأسلحة والذخائر والأطقم العسكرية التي حصل عليها من بولندا وإيطاليا، فقد نفعته لاحقًا، وحسمت لصالحه المعركة حرب 1934، رغم أن إيطاليا كانت رسميًا حليفة للإمام يحيى.

ومن ثمار تلك الحرب ومفاوضاتها -من وجهة النظر السياسية والعسكرية بالنسبة لقارئ التاريخ- حصل الملك عبدالعزيز على تعويضات مالية كبيرة من إمام اليمن، دفعت عدًا ونقدًا، ثم دفع بموجبها الملك عبدالعزيز رواتب موظفيه وجنوده.

لم يهدأ الملك، بل ظل يتضور حاجة بحثًا عن إيرادات ثابتة لتأمين وضع الخزينة الضامن لصيرورة دفع الرواتب.

قال الملك لعدد من الشركات البريطانية إنه على استعداد لمنح امتياز لمن يعطيه مليون جنيه إسترليني.

سنة 1931 التقى الملك عبدالعزيز رجل الأعمال الأمريكي تشارلز كرين، الذي ورث عن أبيه 70 مليون دولار، وأقرضه مبلغًا زهيدًا، لكن الرجل الملقب بـ"الخير" في الولايات المتحدة، والذي تحظى نصائحه لدى الرؤساء الأمريكيين بقبول، لم يتحمس لتلك العروض، لكنه عاد إلى بلاده، وأرسل لابن سعود مساعدات غذائية وهدية بسيطة: عبارة عن مضخة لفقراء جدة للحصول على مياه عذبة.

في ما بعد كتب تشارلز كرين للرئيس روزفيلت، يقول بالحرف الواحد: "ابن سعود أعظم رجل ظهر في جزيرة العرب منذ زمن النبي محمد". لقد انغرست تلك الجملة كنصيحة في ذهن الرئيس الأمريكي، حتى تقابل مع الملك عبدالعزيز في عرض البحر، بعد سنوات، على ظهر السفينة "كوينسي".

كان الرئيس روزفيلت عائدًا من اجتماعات يالطا التي عقدت بين الثلاثة الكبار: روزفيلت وستالين وتشرشل. ثم ذهب للقاء زعيم رابع: عبدالعزيز أل سعود، فوق مياه البحيرات المرة.

كان تشارلز كرين شخصية عالمية تحظى باحترام على نطاق واسع، بما في ذلك لدى الرئيس جوزيف ستالين نفسه، الذي كان صديقًا لكارين والرئيس روزفيلت معًا.

كان الروس والعرب على السواء يحترمون تشارلز كرين لأنه "عارض منح بريطانيا وفرنسا حق الانتداب من قبل الأمم المتحدة"!

لم يتحمس تشارلز كرين لعروض الملك بشان استعداده منح امتيازات لأية شركة للتنقيب عن النفط لقاء مليون جنيه إسترليني، لكن مبعوثه الجيولوجي الذي أرسله كرين بالمضخة، واسمه كارل نوتشيل، انشق عن كرين، وأخذ يسعى لجلب الشركات، ليصبح في ما بعد من كبار أثرياء العالم.

أبحر ابن سعود في دنيا النفط عبر هذا الوسيط وغيره، ومن يومها تدفقت الأموال إلى خزائن الملك، ولم تنقطع الرواتب التي كانت شغله الشاغل إلى اليوم.

يجب ألا تنصرف دلالات هذه المقدمة إلى سياق قد يفهم منه اعتبارات خاطئة مؤداها: امتداح الملك/ المملكة، بقدر ما هي محاولة لوضع مقاربات تبسيطية للمسارات الطبيعية للدولة -أية دولة- وما يقابلها.

وفي ظل حكومتين إحداهما في صنعاء والأخرى في المنافي، هناك أكثر من مليون ومائتي موظف عمومي يتضورون جوعًا على الضفتين.