اليمن والسعودية.. الحرب والسلام (1-2)

قد يبدو ما أقوله غريبًا، وهو أن خلافنا وصراعنا مع النظام السعودي/ العائلي، الذي تأسس وتشكل بدعم من الدولة الاستعمارية البريطانية في العام 1932م، هو صراع وجودي مصيري، هو صراع، كما يقول الصديق اللواء علي محمد هاشم، "حول وجود اليمن، وقيام دولة أيًا كان لونها" (اللواء علي محمد هاشم، "مسيرة الحركة الوطنية.."، ص139).

 

أفهم أن المصالح تتصالح، لأنها تقوم على تبادل المصالح بين الدول، وأفهم أكثر أن المصالح المتبادلة هي أساس للعلاقات بين الأطراف المختلفة: دول وأحزاب، وحتى أفراد.. وأدرك أكثر معنى القول: أن لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح متبادلة، على أن السعودية في علاقتها مع اليمن واليمنيين، دمرت هذا المعنى، وكسرت هذه القاعدة، لتؤكد "عدوانها الدائم على اليمن" في كل ما تفعله باليمن واليمنيين، منذ أكثر من ٩٠ سنة، كل يوم يمر علينا في علاقتنا بالسعودية، يؤكد أن المصالح السعودية هي التي تتأكد وتتكرس على حساب مصالح اليمن واليمنيبن، حتى صار هناك فريق سعودي مكلف برئاسة عبدالهادي آل مالح -كما يقال- يشرف على المجلس القيادي الرئاسي، والحكومة!

يشتغل في الإعمار في السعودية من العمالة اليمنية، أكثر من مليوني إنسان يمني، وجودهم فيها مهدد، وحقوقهم مهدورة.. وإذا تساءلت عن حجم المصالح التجارية والاقتصادية بين اليمن والسعودية، ستجدها أرقامًا مخجلة، هي حالة من ثنائية التبعية، والعدوانية السعودية الموجهة ضد اليمن، وهو ما يجري منذ عقود طويلة.. هي حالة من العدوانية تنامت منذ ظهور الدولة السعودية بدعم بريطاني في العام ١٩٣٢م.

نحن نعرف صراع "اليمنية" و"القيسية" التاريخي، ونعرف تحوراته اللاحقة في صورة "العدنانية" و"القحطانية"، بالمعاني والمفاهيم، وبالدلالات التاريخية التي كانتها، وعبرت عن نفسها من خلالها، حتى تطوراتها الجارية اليوم. علمًا أن "العدنانية" بدلالتها التاريخية المبكرة، لم تكن تعني "الهاشمية" في تبدلاتها التي أخذتها بعد ذلك، أي البعد الأيديولوجي والعرقي لمعنى ومفهوم "الهاشمية"، بل كانت تحمل دلالات سياسية وطنية عامة بمعاني ومفاهيم ذلك التاريخ: اليمن، في مقابل "نجد" و"الحجاز" التي لم تتأسس تاريخيًا على شكل دولة فعلية.. هي "النبوة المحمدية" التي نقلت "قريش" من "رحلة الشتاء والصيف"، ومن "البداوة"، إلى مكان آخر، وحتى في قلب هذه الرسالة الإسلامية العظيمة، كان اليمنيون هم من الرجال البارزين في نشر هذه الرسالة العظيمة، ورموزها في الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى أقاصي العالم، وهو ما تحاول السعودية/ العائلة (الدولة/ الناشئة)، أدلجته/ وتسييسه، وإعطاءه الأبعاد السياسية العدوانية المعاصرة، كما هو في عقلها السياسي العدواني تجاه اليمن، من بداية عدوانها وحربها على اليمن منذ بُعيد قيامها، 1932م، في صورة حرب 1934م الاحتلالية التي لم تتوقف حتى اللحظة.

إن على اليمنيين اليوم الدراسة والبحث عن أسباب هذه الكراهية، وذلك العداء السعودي تجاه اليمن واليمنيين، وكيفية مواجهته ومقاومته، الذي نراه في أبشع تجلياته السياسية والعسكرية التي بدأت -كما سبقت الإشارة- مع حرب عدوانها على الأراضي اليمنية في عسير وجيزان ونجران، في العام 1934م، حتى توقيع معاهدة "الطائف" لمدة عشرين سنة، قابلة للتجديد، والمعاهدة في مواد نصوصها المختلفة تعترف بأن الأراضي: عسير وجيزان ونجران، هي أراضٍ يمنية تاريخية، وهو ما تقوله الوثائق والمصادر المرجعية التاريخية من قبل الميلاد، حتى الفترة الإسلامية وإلى اليوم.. والأيام دول.

 

إن عدوان السعودية على اليمن من بداية دعمها للإدريسي وتمويله عسكريًا وماليًا، وبدعم بريطاني، حتى احتلالها لعسير بفرضها منطق القوة، وسلطة الأمر الواقع، في واقع تخاذل الإمام يحيى عن الدفاع عن الأراضي اليمنية، وبعدها احتلال جيزان ونجران في فترة لاحقة، وصولًا للأراضي اليمنية الواسعة والغنية بالثروات في الربع الخالي وغيرها، وصولًا إلى ما يجري اليوم في المناطق اليمنية شمالًا وجنوبًا.

لقد تم عدوانها على ثورة 26 سبتمبر 1962م، باسم "استعادة عرش الأئمة/ الشرعي"، ولم يكن ذلك آخر حروبها على اليمن، فعدوانها على اليمن أرضًا وشعبًا، بما فيه الاعتداء على الحجاج اليمنيين وقتلهم ونهبهم مع الأوائل المبكرة للمشروع السياسي والعسكري والديني "الوهابي" السعودي، كل ذلك يكشف أننا أمام حالة كراهية وعدوانية كما هي علينا، كدولة، وشعب.

إن علينا كيمنيين: سياسيين وباحثين، ومهتمين بالتاريخ السياسي، الوقوف أمام هذه العدوانية التي تحولت إلى ظاهرة اختصرتها الكتابة الفكرية، والسياسية الوطنية اليمنية المعاصرة، بمفهوم أو مصطلح "العدو التاريخي"، واختار لها عملاء السعودية وكتبة "اللجنة الخاصة" لاحقًا، مصطلح "الشقيقة الكبرى"! الذي بقي محصورًا في بيانات ما تبقى من جماعة 5 نوفمبر 1967م، وتحديدًا من بعد توقيع اتفاقية العار، المسماة "مصالحة جدة"! بعد أن تحول مصطلح "العدو التاريخي"، إلى فكرة، وإلى مفهوم، وإلى رؤية فكرية وسياسية وطنية في نظرة اليمنيين للسعودية، حتى تحول مصطلح "العدو التاريخي"، إلى بصمة  سياسية، ووطنية مقاومة في قلب صراعنا مع وضد العدوان السعودي الذي لم يتوقف على اليمن، وهو المصطلح الذي توهم البعض أنه قد تراجع واختفى من مسرح الكتابة السياسية والبحثية.

في حوار جاد مع صديق ومناضل كبير (رحمه الله)، قبل أكثر من عقدين من الزمن، اعترض على استخدامي مصطلح "العدو التاريخي"، لأن مصطلح "العدو التاريخي" الذي كان يشير ويدل على السعودية، لم يعد له وجود، وبالنتيجة فقد معناه كمصطلح، وأتذكر أنني اعترضت، وبشدة، على هذا القول ضمنًا في بعض مقالاتي السياسية، مؤكدًا أن هذا المصطلح مايزال يكتسب اليوم معناه وأهميته ومعاصرته أكثر مما كان في العقود الستة الماضية.

وجاء العدوان الأخير تحت مسمى "استعادة الشرعية"، وتحديدًا بعد تحول التدخل العسكري الذي كان يفترض أن يكون محدودًا، ولمهمة محددة، وتحت الإرادة السياسية اليمنية، ليتحول تدريجيًا إلى احتلال كامل الأركان والأوصاف، وما يحصل منذ ثماني سنوات متواصلة، هو تأكيد إضافي على جدية وصدقية مصطلح "العدو التاريخي"، أضيف إليه أعداء جُدد: الإمارات وإيران، بعد أن استكملت السعودية مصادرة ما تبقى من شرعية للدولة اليمنية، التي استقدمت لاستعادة دولتها، كما توهم البعض، فإذا بها لا تحل بديلًا عنها، بل تعين ديكورات سياسية تقوم بتجسيد وتمثيل صورة احتلالها للبلاد، وهو الاحتلال الذي يفقأ العين، ولا تراه عيون بعض الكتبة "الوطنيين "، اليمنيين الذين ينصبّ نقدهم على الاحتلال الحوثي للأجزاء الواسعة من شمال البلاد، والذي لم يكن ليكون وليتم بصورته القائمة الحالية، بدون الدعم السعودي والإماراتي والإيراني -بصور مختلفة ولأسباب مختلفة- بعد أن تحول الداخل السياسي والوطني اليمني، سلطة وأحزابًا، "وطنية" و"تقدمية"، إلى مجرد وكلاء للخارج: السعودي والإيراني والإماراتي، لأن في فمهم ماء، فكان صمتهم القاتل هو الجواب الذي يشرعن استمرارية الاحتلال.

إن القراءة الجبانة/ الخائفة، والقراءة التجزيئية لما يحصل في البلاد، هما من أسباب الأزمة السياسية والوطنية الراهنة، التي لا يمكنها أن تقودنا إلى الإمساك بالخيوط والمداخل السياسية والعملية الأولى الموصلة للحل، ولذلك تدور جميع المبادرات السياسية من البعض "التقدميين"، في الداخل، حول حديث سياسي مجرد عن "السلام" وإيقاف الحرب! دون أن يقول لنا ذلك الخطاب "السلاموي"، شيئًا محددًا عن مفهومه للسلام، ولا شيئًا واضحًا عن: من هو السبب الذي قاد بموقفه وسياساته إلى تفجير الحرب واستمرارها؟ ومن هي الأطراف الخارجية المشاركة في هذه الحرب؟! والأهم: ما هو موقفنا السياسي والعملي منها؟

يقدمون مبادراتهم السياسية باعتبارهم أطرافًا سياسية يمنية، وعيونهم وأفكارهم معلقة ومشدودة إلى ماذا يريد منا الخارج أن نقول ونكتب، مبادرات تقول كل شيء مفهومي وكلامي ونظري حول السلام، ولكنها لا تقول شيئًا واقعيًا ومحددًا ومفهومًا حول السلام المنشود والمرتجى! كلام مجرد، حول السلام وإيقاف الحرب، دون أن يقولوا لنا كلمة واحدة حول مضمون ومفهوم هذا السلام، وكيف ندخل إليه، ونحققه.. كيف؟ وبمن؟ لنتمكن من إيقاف الحرب، ولا نقرأ في أحاديثهم ومبادراتهم السياسوية عن: من هو الطرف الذي يعرقل إنجاز عملية السلام في الواقع، من خلال رحلة الحوارات المأزومة المختلفة حول السلام وإيقاف الحرب طيلة السنوات السبع الماضية، وضمن رؤية سياسية واضحة.

إذ نجد أنفسنا أمام خطاب سلاموي يذكرني بذات خطاب مؤتمرات (عمران، سبتمبر 1963م)، و(الطائف، أغسطس 1965م)، وخطاب (مؤتمر خمر، مايو 1965)، الذي عقده مشائخ القبيلة، والدين السياسي، تحت عنوان "حزب الله"، وشعار "السلام"، و"إيقاف الحرب".. كانوا يتحدثون عن السلام كأنه أيقونة سياسية وطنية، أو نص مقدس، وعقولهم ووجدانهم وممارساتهم مع استمرار الحرب، والاتجار بالحرب على البلاد كما هو مع بعضهم، أو أن بعضهم بسبب ضبابية الرؤية، يقف مع الاصطفاف الخطأ، أو بسبب أخطاء بعض قيادات الوجود العربي المصري الذي جعل البعض يرفع شعار "الذاتية اليمنية" في المكان وفي الوقت الخطأ، الذي قادهم إلى استبدال الصديق المصري الداعم للثورة اليمنية، بالعدو السعودي والرجعي الذي ناصب الثورة والجمهورية العداء من أول ساعات فجر قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، والدليل هو ذهاب بعضهم إلى الطائف "عقر" العدو التاريخي"، للتخلي عن النظام الجمهوري، وبدعم سياسي سعودي! وكله تحت مشجب شعار "السلام وإيقاف الحرب"! وكل ما حصدناه هو العار والشنار والهزيمة السياسية والوطنية في صورة ما يسمى "اتفاقية المصالحة"!

 

إن معظم دعاة السلام اليوم، ولا أقول جميعهم، لديهم خيوط وصل مادية تصلهم بـ"اللجنة الخاصة السعودية"، وبمصادر التمويل السعودية، والإماراتية المختلفة، الشرعية وغير الرسمية، وبعضهم لديه صلة وصل ودعم دولي/ أممي، دون إنكار أن هناك حملة للسلام، ودعاة له خارج نطاق هذه المصالح المادية الصغيرة، ولكنهم أقلية غير فاعلة ولا مؤثرة، وبدون سند سياسي وتنظيمي، ولا حاضنة اجتماعية فاعلة ومنظمة.

أقول ذلك لأنني أعرف أن هناك من يشتغلون على "السلام" كقضية سياسية ومادية مصلحية يتلقون بمقابل ذلك مبالغ مالية"مرتبات" و "سفريات للخارج لا تتوقف"، وباسم السلام، وهم قيادات أحزاب، وبعضهم يتلقى بـ"اليورو" من منظمة "ألمانية" تتبع الخارجية الألمانية "بيرجهوف" -ومن غيرها- وعبر المندوبين الخاصين بها في اليمن.. قطعًا هم أقلية، ولكن صوتهم السياسي والإعلامي عالي النبرة، مثل ضجيج أصوات البراميل الفارغة.

إن شعار "السلام"، إذا لم يكن مضبوطًا ومؤسسًا على إيقاع فكرة وقضية الحرية والعدالة والمواطنة وحقوق الإنسان، فلا معنى له.

لقد تحول شعار "السلام"، كما يقول أبناء تعز، إلى "خصالة ابن علوان"، أي قضية حق يراد بها ألف باطل. لقد اشتغلت السعودية "العدو التاريخي" على النتائج السلبية والكارثية لهزيمة يونيو (حزيران) 1967م، وعلى المناخ الأيديولوجي والسياسي الرجعي "اليميني" الذي هيمن وساد على كل المنطقة العربية، بما فيها صناعة نكسة 5 نوفمبر 1967م، لرفع شعار "السلام" في اليمن، وسعت السعودية من خلال ذلك المناخ السياسي والأيديولوجي الرجعي، لانتزاع مكسب خطير باسم "السلام"، كما يقول عمر الجاوي، يقضي "بإحلال السلام في اليمن، وبتشكيل الحكومة ذات قاعدة عريضة من الأطراف المعنية" (عمر الجاوي، "حصار صنعاء"، ص5).

إنه الشعار السلاموي الذي تبنته قمة الخرطوم، 1967م، وحاولوا فرضه بالقوة على حكومة السلال، ورفضه الشعب اليمني في تظاهرة 3 أكتوبر 1967م. وكله باسم السلام: من مؤتمر "خمر" المشائخي والسياسي الديني الرجعي، إلى "الطائف"، حتى "الجند" و"سبأ"، وصولًا إلى اليوم كما هو حالنا مع بعض المبادرات السلاموية الإقليمية والدولية، بعد أن تحولت دول العدوان إلى وسطاء باسم السلام في اليمن! ألم يحاولوا فرض "الدولة اليمنية الإسلامية" باسم "السلام" في مؤتمر الطائف!

إن من يجيد لغة السلام، ويعرف طريقه لنقد المذهبية والطائفية  والقبلية والمناطقية، والأهم أن يعرف تصويب سهام نقده لـ"الهاشمية السياسية"، القائمة بالفعل على الأرض، وليس في سماء القول المجرد، حتى لا يراها بعض دعاة "السلام الخائب"، وإذا كانوا لا يرون كل هذا العبث العنصري والسلالي "التمييز العرقي"، فالمشكلة ليست في غياب بوصلة الرؤية، بل في انعدام البصر والبصيرة، الذي قد يدلنا إلى ما هو أبعد من ذلك، من المصالح الصغيرة!

لا يمكن لأي إنسان سوي، لديه ما تبقى من ضمير وطني، ومن حسن أخلاقي، ومن كرامة إنسانية، أن يقبل باستمرار حرب تحولت ليس فحسب إلى تجارة لصالح رموزها النافذة في قمة السلطة، بل وفي خارجها؛ أقصد الأطراف التي ليس من مصلحتها إيقاف الحرب، لأن إيقاف الحرب والدخول إلى السلام السياسي والوطني الواقعي، يعني زوالهم كقوى سياسية واجتماعية وعسكرية، وبداية دخولنا إلى استعادة الدولة المدنية الديمقراطية المركزية الحديثة "دولة فيدرالية" أو "دولة كونفدرالية"، أو صيغة دولتين، على قاعدة "تقرير المصير وفقًا للإرادة الشعبية والدستورية الحرة"، وليس تنفيذًا لرغبات ومصالح الخارج  لتقسيم اليمن، لأن البداية في استعادة الدولة، لا يمكن أن تتم بدون جيش وطني، بعقيدة قتالية وطنية.

 

يتبع...