التسييس يخفي مواطنة "العبد الحر"

عابني أحدهم أني لا أكتب حول ما آل إليه التعليم -رغم أني معلم- من تردي المنتج التعليمي، وسوء الحياة المعيشية لأساتذة الجامعة، ومعلمي التعليم العام في هذا البلد، فكان رد فعلي على كلامه، أني أَقَرَرتُ له بعيبي هذا (اللامبالاة)، إلا أني في نفس الوقت -كي لا أخيب أمله- أبنت له أن "تردي منتج التعليم"، هو حصيلة سياسات تعليمية خاصة وعامة، أما سوء الحياة المعيشية لأساتذة الجامعة والمعلمين، فهي حالة بائسة لواقعة سياسية بائسة، والكتابة حولها تفوق الوجدان، ومواقع الصحافة والإعلام تضج بالأخبار، وأقلام الصحفيين، لا تَمِل ولا تَهْدأ كتابةً حول الأوضاع المعيشية البائسة لفئة أساتذة الجامعة ومعلمي التعليم العام، فما ستضيفه كتابتي الضجيج السياسي؟! إلا قذفه بالشتم والسب.

ثم إني "مواطن يائس"، لكن لست مغفلًا لأقع في التسييس المُطَال مُدَامه، لتأسيس طال دَمه الآخر، هذا التسييس الذي نَخَل -ولايزال- جسد التعليم في هذا المجتمع، وأفرغ بُغْيته، وكما ترى، لقد فقد أساتذة الجامعات والمعلمون، ليس فقط معاشهم، بل حريتهم، وإذا مَضيت مع "دابة التسييس" التي أتت بك إِليّ، فما الفرق ساعتها، بيننا وبين البهائم..

لكن صاحبي طلب توضيحًا لجملة "التسييس المُدَام للتعليم"، فابتسمت قائلًا: "إنك غافل، بل دَابة.. اعذرني عن هذا الوصف.".

وكي أتدارك مبالغة وصفي للرجل، قلت له: "لن أبخل عليك بالتوضيح"، وأخذت أولًا أوضح له الفرق بين السياسة والتسييس؛ في أن جوهر السياسة "بولس" في المدينة اليونانية هو الحرية، والتعليم في مدينة يونانية معناه إنتاج أفراد أحرار، ليسوا بغافلين القانون -حد السلطة السياسية- بل الأفراد الأحرار مُنفذو قوة القانون، لا قوة السلطة؛ لذلك ارتاب أفلاطون من سياسة مُحَاكميه، لكنه لم يرتاب من إنفاذ القانون.

أما السياسة في الملة الإسلامية، فتعني التسريح أي "رعاية الوجود"، والتسييس مقترن بها، في معنى "التسخير" للحيوان عامة، وللحيوان الموجود داخل الإنسان أيضًا، وهنا يجري التعامل مع الحيوان الذي داخلنا على أنه شيء مُسَخَّر، وهذا الحيوان الذي داخلنا هو "اللاوعي الحر" لمفهوم "العبد" لدى "ثقافة الملة"، وليس لمفهوم المواطن اليوناني.

وفي "ثقافة الملة" يصبح هدف التعليم في المجتمع هو إنتاج "العبد الصالح" لا "العبد الحر"، أي ما يشبه "المولى"، على وجه التقريب، المُسَخر للخدمة، ويجري ذلك وفق "شريعة الملة"، التي معناها الطريق، أي طريق للوعي.

هنا "شريعة الملة" تأتي كقاطع "للاوعي الحر"، لا بمعنى حد للسلطة، كما القانون، والشريعة تتماهى مع السلطان (السياسة) ومع "العبد الصالح"، لا "العبد الحر"، ونادرًا ما فكر المشرعون في عهد الإسلام الوسيط، في مفهوم "العبد الحر"، وغالبًا تماهوا مع فكرة العبد المسخر للطاعة.. وهذا معناه أن "شريعة الملة" مخاتلة؛ لا يستتب لها قرار؛ وهذا ما أدركه السلطان، فزاوج بينه وبين الشريعة، فأصبحت "مِلَة غَلَبة".

في نهاية المطاف، تومئ "شريعة الملة" لـ"العبد" لأن ينزاح نحو السلطة والحصول عليها بأي ثمن، فالمحرك للسلطة هنا، هو حقد جامع بين "شريعة الملة" و"العبد المظلوم"، حينها السلطة (سياسية ودينية) مخول لانتقام موجه ضد الخصوم السياسيين، وضد "ملة أخرى" داخل الملة الكبرى: الإسلام.

وفي هذه الظروف التاريخية في دار الإسلام، ظهر المتصوف كمؤمن حر، وبدأ ينبثق مفهوم "العبد الحر" والتفكير فيه.

المشكل اليوم، أن "عنف السلطة" (سياسية أو دينية) اكتسب عنفًا حديثًا، أي عنفًا مطلقًا (عنفًا إيديولوجيًا)، أي "عنفًا عدميًا"، ولم يعد "عنف ملة" (تدافعًا حيويًا)، فقد تحول الله من أفق للإنسان، إلى مطلق سياسي (حزب سياسي)، وإلى شيء (هوية)، والله لا يماثله شيء.

وعليه، ينبغي إعادة النظر في مفهوم "العبد"، وقراءة سياقه، لتحريره من فقه الشريعة "الحُكمي"، ومن مطلق "الأيديولوجية العربية الحديثة"، علمانية كانت أو دينية، وذلك في مواصلة التفكير في مفهوم "العبد الحر" في أفقنا؛ لإدخاله مواطنًا داخل مواطنة العصر لا خارجه.. فالتفكير في "مواطنة العبد الحر"، لا يفك أزمة مواطنة العرب المسلمين الحديثة وحسب، بل لعله يسهم في فك أزمة مواطنة ذات غربية حديثة، كما فعل فكر ابن رشد، عندما ساعد وأسهم فكره في تأسيس مواطنة النهضة الأوروبية الحديثة، فالفكر بلا وطن، وَرُبَّ مَنْسي هو فتح على مواطنة إنسانية أخرى للعالم، مختلفة ودون هيمنة.

وهنا يأتي "التعليم الحر" كمنفذ إلى مصادر النفس؛ فهل تعليمنا الحديث، بمؤسساته التعليمية الحالية، يساعدنا على فهم أنفسنا؟.

أتى تأسيس المؤسسات التعليمية الحديثة في المجتمع اليمني، في سياق صراع سياسي وأيديولوجي محموم على السلطة وعلى الحقيقة، وكذلك في ظل ثقافة "ملة مستبدة"؛ في هذا التشابك بين ثقافة "استبداد الملة" وبين الاستبداد السياسي والأيديولوجي، جرى تسييس التعليم في هذا المجتمع، من قبل جميع الجماعات السياسية، في الحكم كانت أم في المعارضة؛ فالجميع في عباية جوهر واحد.

وزامن التعليم ومؤسساته الحديثة في اليمن، ولايزال، ظروفًا دولية وعالمية، جعلته ضحية صفقات سياسية عمودية (وفق ما ترتئيه مصالح السياسة السلطانية العليا) وأفقية (توزيع سلطات صغرى بين الجماعات السياسية المختلفة من جانب، وبين المصالح الأيديولوجية الاقتصادية الاجتماعية من جانب ثانٍ)، مما أضر بالتعليم؛ جر المدرسة والجامعة جرًا سياسيًا؛ جُعِلا ساحة للاستقطاب السياسي والأيديولوجي والأمني، بدلًا من الإبقاء عليهما كما هما، بُغْية مكان شبه معزول، مُمَكِّن للوعي بالمجتمع، حيث الجامعة هي مكان نستطيع من خلاله وعي المجتمع.

لقد تعامل حكام الخليج (خاصة السعودية وقطر ومؤخرًا الإمارات، ومعهم إيران) مع اليمن على أنها "أفغانستان معكوسة".

وفقط للتذكير كشاهد، على الصفقات السياسية، الواضحة والمسيسة للتعليم في اليمن، والملائمة مع سياسات هذه الدول:

- صفقة إنشاء المعاهد العلمية مع السعودية، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، والتي أصبحت في ما بعد نظامًا موازيًا للتعليم العام.

- صفقة إنشاء جامعة "الإيمان الإسلامية" مع قطر بعد حرب صيف 1994م

- صفقة تواطؤ إنشاء المعاهد السلفية في صعدة ومعبر في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ثم نشرها مع بداية الألفية الثانية (دعماً إماراتيًا) في الحديدة وعدن، وبقية المحافظات.

أما الصفقات السياسية مع إيران، فهي تقديم سياسة عملية تتماشى مع مبدأ التقية، في إفراغ المدرسة والجامعة (بخاصة جامعة صنعاء) من بعدها الاجتماعي المتنوع، وجعلها بؤرة طائفية.

وفي الوقت الذي يجري فيه تدمير البنية الفنية العلمانية للمدرسة والجامعة، ومحو أثرها، يتم صبغها بصبغة إسلامية على منوال مؤسسات "أيديولوجية إسلامية ثورية"، وفي المقابل يتم الاستثمار في إنشاء مدارس وجامعات خاصة أيضًا.".

الأخطر أن "الإسلام الحالي"، أيًا كان، المدعوم من دول الخليج وإيران، يتعامل مع الدين أو المجتمع أو الإنسان على أنه شيء، سهل تشكيله، وسهل استخدامه كأداة، بحجة المحافظة على "الإسلام".

و (الإسلام السياسي) بالفعل أداة نفوذ إقليمي دولي للمحافظة على نفوذ الدول، لكنه وهو يقوم بهذا الدور لا يدمر مؤسسات الدولة والمجتمع وحسب، بل يدمر روح الإنسان (الدين): الملجأ الأخير للإنسان.

فقط نتنبه، أن الحاكم العربي في الدولة العربية الحديثة المعاصرة، أو الحاكم الإيراني (في الدولة الإيرانية الحديثة المعاصرة)، هو "حاكم هووي"، حيث قام نظام حكم دول هذه المجتمعات على هوية عرقية ودينية واحدة.

وسياسيًا -في اليمن- يتبادلان الأدوار مع "الإسلام السياسي الهووي"، ولو في سياق دولي، فهما في خدمة إطالة أعمار متبادلة، ل"نظام هووي " و"إسلام هووي" عاجز عن تحمل "مواطنة حرة". إنهما فقط منخرطان في سياسة أمنية للحفاظ على الذات من الآخر.

لكننا في النهاية، وفي المجمل - وهذا الأهم - أمام مشكلات وأزمات ذات عربية إسلامية حديثة، تأتي في سياقات وصراعات تاريخية مختلفة، ليس لها علاقة بتاريخ دولة الملة الإسلام.

باختصار، السلطة السياسة تخفي القانون، وسلطة الشريعة تخفي طريق "العبد الحر"، وسلطة الأيديولوجيا تخفي المجتمع.