ثورة ٢٣ يوليو وواجب اليمنيين في الاحتفال بها

من الصعب اختصار العلاقات اليمنية - المصرية في مقال لقدمها ولتشعبها وللمصالح المشتركة الكبرى بين الشعبين.كانت مصر منذ أربعينات القرن الماضي قبلة تعليمية لليمنيين وقبل ذلك كان البن اليمني هو الوحيد الذي يستهلكه المصريون وفي حي الحسين أنشئت وكالة بازرعة التي كانت تورد البن،المعروف اليوم في العالم كله بـ" بن المخا"، إلى مصر .

 

الأسرة نفسها تقاسمت اليوم بين الجنسيتين اليمنية والمصرية وهذا من شواهد قدم ومتانة هذه العلاقات. هذه العلاقات تطورت بعد قيام ثورة ١٩٦٢ في الشمال رغم أن فترة الخمسينات شهدت قفزات أبرزها التوقيع على ميثاق جدة الثلاثي عام ١٩٥٦ بين اليمن ومصر والسعودية وبعثات تعليمية مدنية وعسكرية مصرية محدودة إلى اليمن المتوكلي وإصغاء ولي العهد البدر لنصائح عبد الناصر للانفتاح على الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه وعلى الصين الشعبية التي كانت شبه معزولة عالميا، والجهد الدبلوماسي اليمني ' المصري المشترك في الجامعة العربية وفي الأمم المتحدة وحركة عدم الانحياز لإنهاء الاستعمار البريطاني للجنوب اليمني المحتل.

ماسبق توج بقبول اليمن في اتحاد مصر وسوريا عام ١٩٥٨ ،الذي سمي ب" الجمهورية العربية المتحدة" و تحت مسمى، اتحاد الدول العربية نتيجة "استخارة" من الإمام أحمد رأى فيها أن نجم عبد الناصر يسطع وانتهت بقصيدة انتقد فيها الإمام الاشتراكية في مصر التي اعتبرها ضد الإسلام وهي على العكس من صميمه. شجع انفصال سوريا في ٢٨ سبتمبر ١٩٦١ الإمام على نظم قصيدته في ديسمبر ولأول مرة يو ظف الإمام شعره للتعبير عن موقف سياسي رغم توقعه بأن النتيجة ستكون في غير صالحه وأن مصر قد توظف إعلامها الذي كان يخشاه طول عهده ضد نظامه.ومن نافلة القول أن علاقات اليمن بمصر علاقات ضاربة في القدم وقد ساعد على نموها أن اليمن كانت طوال تاريخها دولة، بل الدولة الوحيدة في الجزيرة العربية. وفي رأي البروفسور الراحل فرد هاليدي أن اليمن كانت واحدة من أقدم دول المنطقة وقد عدد هاليدي أربعا منها هي : اليمن ومصر والعراق وفارس.

زاد افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٨ من أهمية البحر الأحمر وباب المندب و من التعاملات التجارية بين البلدين. أما عن السمات الحضارية المشتركة بين الحضارتين اليمنية والفرعونية فمنها فن التحنيط.
لقد تعاون البلدان اقتصاديا وعسكريا لصد الحملات الاستعمار ية الغربية كالعدوان البرتغالي في القرن السادس عشر على عدن واحتلال البرتغال لبعض الجزر اليمنية لفترة قصيرة توطئة لهجوم ذو هدف صليبي معلن كانت البرتغال تعد العدة له لتدمير الحرمين الشريفين وقد احتلت ميناء جدة لفترة قصيرة وانسحبت منها وتخلت عن الهدف. وأثناء احتلال نابليون لمصر جهزت اليمن عونا عسكريا لمصر وحالت دون وصول عتاد عسكري فرنسي إلى مصر من المحيط الهندي عبر المنافذ البحرية اليمنية.

 

دور مصر الحديث في اليمن :

 الزعيم الراحل :جمال عبد الناصر
الزعيم الراحل :جمال عبد الناصر

في العصر الحديث يتذكر اليمنيون بامتنان دور مصر المفصلي في دعم ثورتهم عام ١٩٦٢ التي أنهت نظاما مغرقا في الرجعية وأسهمت في بناءجمهوريتهم من الصفر. في التنمية على سبيل المثال وليس الحصر، عرفت اليمن عام ١٩٦٣ أول شهادة إعدادية في تاريخها كله وبمنهج دراسي حديث وأول شهادة ثانوية عامة عام ١٩٦٦ بمنهج مصري وعلى أيدي أساتذة مصريين كنا كطلاب في مدينة تعز نذهب على الأقدام لاستقبالهم في المطار. وتقديرا منهم لمستوانا التعليمي المتدني أعانونا بدروس مجانية لسد الفجوة التعليمية بيننا وبين زملائنا في مدارس مصر نظرا لخلفيتنا التعليمية غير المواكبة لمستوياتهم.إن مصر التي استعذبت بعض الأطراف العربية والاستعمارية، التي استماتت للقضاء على جمهوريتنا تسمية دورها في اليمن ب" الاحتلال " وهي التي بنت وعلى نفقتها أول ثلاث مدارس ثانوية في صنعاء وتعز والحديدة والتي كانت تدفع مرتبات مدرسيها في اليمن ولكل مصري له علاقة بالعملية التعليمية. الاحتلال ينهب ولايمنح. والحقيقة الغائبة هي أن هزيمة عبد الناصر في اليمن كانت هي المطلب الآخر وقد قال مسؤلان سعوديان كبيران للصحفي المصري عبده مباشر في ديسمبر ١٩٦٥ " أنهما على استعداد لإنفاق آخر هللة في خزينتهما لإسقاط عبد الناصر..لنتذكر هنا أن هذا قيل بعد اغسطس ٦٥ الذي تم فيه توقيع اتفاقية جدة بين عبد الناصر وفيصل لتحقيق السلام في اليمن. وفي التنمية الإدارية ذكر الأديب الكبير نجيب محفوظ وهو يتحاور في صنعاء عام ١٩٦٤ مع أحد خبراء مصر لإ نشاء نظام مالي كأساس لحياتها الاقتصادية " إذاً أنتم أول من بشر بالروتين في أرض اليمن". وأضاف محفوظ أن أحدالخبراء قال له " لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة ولم يختف منها الشعر لكن المشكلة الحقيقية هي متى يغزوها العلم". وبدون مبالغة لقد غزاها العلم والتحديث على أيدي المصريين.

هذا عن الشمال فماذا عن الجنوب؟. كان إسهام مصر في دعم ثورة ١٤اكتوبر١٩٦٣ في الجنوب اليمني المحتل هو الأساس وبزّ فعلا دور الشمال نفسه وكان ولايزال نقطة مضيئة أخرى في العلاقات اليمنية - المصرية. لقد قدمت مصر ما لم تقدمه دولة أخرى من عون لتحرير الجنوب من الاستعمار البريطاني حتى حقق الجنوب استقلاله عام ١٩٦٧ بقيادة الجبهة القومية وأصبح البحر الأحمر من قناة السويس حتى باب المندب بحرا عربيا. وبدون الاستقلال لم يكن بالإمكان غلق مضيق باب المندب في وجه السفن الإسرائيلية في حرب اكتوبر المجيدة عام ١٩٧٣ من قبل اليمن الجنوبية وكان ذلك إسهاما مهما في تحقيق النصر، وفي نفس الوقت رد جميل مستحق لمصر التي يؤمن اليمنيون بأن أمنهم وأمنها مترابطين.

 

عاصفة الدمار الشامل:

في الحرب الكارثية التي بدأت بعاصفة الحزم عام ٢٠١٥ ولم تختتم فصولها السوداء بعد، كانت مصر عضوا صوريا فيما سمي ب" التحالف العربي" وقد قبلت دورها فيه مجاملة للسعودية. أبان الراحل مكرم محمد أحمد في مقال له في الأهرام في 24/12/2016 هذا الموقف بقوله " ارتضت مصر لنفسها دورا في التحالف [السعودي] ،هكذا، ضد الحوثيين رغم أنها لم تستشر ولم تأخذ علما بوجودها ضمن قوات التحالف إلا بعد إعلان الرياض عن تشكيل هذا التحالف وأهدافه. فعلت ذلك مصر عن طيب خاطر حرصا على مصالح السعودية وحفاظا على مكانتها".

لم تشارك مصر في أي عدوان جوي أو بري على اليمن لحرصها على الحفاظ على الثورتين اليمنيتين التي بذلت مصر من أجلهما الغالي والنفيس. ومنذ بداية حرب "عاصفة الحزم" الكارثية على اليمن وعلى السعودية معا كررت مصر على أعلى المستويات دعواتها سرا وجهرا لليمنيين أولا بأن ينهوا حروبهم بالتفاوض وبالحوار حرصا على وطنهم ومصالحهم لأن طريق الحل العسكري مسدود وأن الحل السلمي بالحوار هو وحده الذي سيجعل نهاية الحرب ممكنة.مصر الحريصة على عافية دولتها وقيام مؤسساتها بدورها الوطني والوظيفي في مناخ سلمي خال من العنف والإرهاب تريد أن لاتكون اليمن في وضع غير مستقر وبيئة ينشط فيها الإرهاب الذي يؤثر على أوضاعها الأمنية. إن لموقف مصر أسبابه ومنها حرصها على استمرار ثورتي سبتمبر واكتوبر كمنجزين كان لدعمها لهما دورا كبيرا في نجاحهما و على عدم تدمير مقدرات اليمنيين التي دمرت على نطاق جغرافي واسع وأحيانا تدميرا متعمدا وعلى أن يحيا اليمنيون حياة طبيعية كغيرهم من الشعوب ولا يتدخل الغير في شؤنهم الداخلية.

وكنتيجة للحرب تستضيف مصر حاليا أكثر من مليون ونصف المليون يمني اختاروا أن يقيموا في مصرهم التي يدخلونها بسلام آمنين. ولهذا الاختيار دلالته البارزة فهو محصلة لعواطف إيجابية نحو مصر وتعبير عن عمق العلاقات بين البلدين و عن اطمئنان يمني بالعيش الطبيعية بين إخوانهم المصريين الذين لايميزون ولا يتعالون وفي مصر ستتاح لأولادهم ولبناتهم فرص مواصلة الدراسة في كافة المستويات. تحية وفاء من القلب لثورة ٢٣ يوليو ولقائدها جمال عبد الناصر ولكل جندي وطأت أقدامه اليمن وللشعب المصري الشقيق.