١٧ يوليو ١٩٧٨ اليمني الحائر بين رصاصة وكرسي وأكذوبة كفن

كان تاريخ ١٧ يوليو ١٩٧٨؛ اليوم الذي اعتلى فيه علي عبد الله صالح عرش الجمهورية في اليمن، كارثيًا بالحسابات الوطنية، وتتويجًا محسوبًا لإخفاء ملف اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي وشقيقه عبدالله وعلي قناف زهرة والشمسي، ولتعطشه الشديد للجاه وللثروة وللسلطة. عبر صالح في أغسطس عام ١٩٩٠ عن هذا بقوله إنه سيحكم اليمن لخمسين عامًا. بمعنى أنه وضع الوحدة ووثائقها والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة تحت نعليه.

صالح والأحمر( الإرشيف)
صالح والأحمر( الإرشيف)

من ناحية أخرى، لم يكن هناك من هو أفضل من صالح للإخفاء الرسمي لحقيقة الاغتيالات المذكورة التي كانت على كل لسان وعلى لسان فلاحة أمية في قرية من قرى بعدان، ومن سمع رصاصات الاغتيالين من الذين حضروا مأدبة الدم والغدر، ومن الخوف بال أحدهم على الكرسي، ولكن الكل عمل مع المجرمَين الرئيسيين وكأن شيئًا لم يكن.
بُعيد اغتيال الغشمي في ٢٤ يونيو ١٩٧٨، فرض صالح نفسه كرئيس بانتقاله الخاطف من تعز إلى صنعاء، واحتلاله مكتب رئيس مجلس القيادة، وتصرفه كحاكم عسكري، وإرساله رصاصة بداخل ظرف إلى القاضي عبدالكريم العرشي الذي سد الفراغ الرئاسي، وأصبح قائمًا بأعمال الرئاسة، لكيلا تسول له نفسه ترشيح نفسه لمنصب الرئيس. ولتعبيد طريقه نحو السلطة والثروة، كان من خطواته الأولى عزل رئيس أركان القوات المسلحة المقدم علي الشيبة، من منصبه، وفرض إقامة جبرية عليه في منزله، استمرت لثلث قرن، ولم تنتهِ إلا عام ٢٠١١؛ عام ثورة الشباب الشعبية السلمية التي أطاحت بصالح وبأسرته من السلطة.

اعترض الشيخ الأحمر على الترشيح السعودي لصالح كي يخلف الغشمي، ليس من باب تطبيق ما سمته حركته، حركة خمسة نوفمبر ١٩٦٧ الانقلابية، احترام "الذات اليمنية"، ولكن لأمور تتعلق بشخص صالح، ولكنه انصاع للقدر السعودي الذي لا يرد حتى اليوم.

بعد أن استمرأ صالح السلطة، كان لا بد من نسج أسطورة حول إيثاره حتى النخاع لمصلحة الوطن، باختراع أكذوبة "الكفن" الذي حمله بيديه لإنقاذ الوطن، بعد أن تخلى عنه غيره، ورفض تولي منصب الرئيس. هذا الإنقاذ ترجمه بسرعة البرق عندما أصبح شريكًا بدون مساهمة مالية منه في مزرعة رصابة لإنتاج الألبان في محافظة ذمار. والحقيقة هي أن لا "كفن" ولا يحزنون. وللتأكد سألت وزير الدفاع المرحوم محمد ضيف الله، في القاهرة، عام ٢٠١٠، لأستوثق من معلومة ذكرها رياض نجيب الريس في كتابه "رياح الجنوب"، هي أن صالح قال له بأن ضيف الله هو الذي رشحه للرئاسة في اجتماع عسكري، وقد نفى ضيف الله أكذوبة "الكفن"، وعبر عن ندمه على ترشيحه لصالح، وحمل الرافضين للمنصب المسؤلية، وذكر منهم الراحل عبدالعزيز عبدالغني.

 

مرحلة الإفساد والدم:

من بدأ حياته باسترخاص حياة ضحاياه، دجّن بعض النخب لتكون قوته الناعمة. هذه النخب كانت ولاتزال من أهم إنجازات الثورتين اليمنيتين، وقدصمتت، وأصبحت صوته وقلمه، وأحيانًا أذنيه وعينيه، تحب من يحب، وتعادي من يعادي. ولا شيء مجانًا بالطبع. شيئًا فشيئًا أحكم صالح قبضته على السلطة، وتعاون مع القاعدة، وحمى بعض قياداتها ووظفها ضد خصومه، واستعان بالأفغان العرب والفارين من الإخوان المسلمين السوريين والمصريين الذين وجدوا ملاذًا آمنًا أيضًا عند الشيخ الأحمر.

 

المادة ١١٦ من الدستور أوجز تجسيد لديمقراطية صالح:

قُصد من هذه المادة الحيلولة دون التداول السلمي للسلطة، واحتقار الديمقراطية والمؤسسات وصندوق الانتخابات في نظام جمهوري كثيرًا ما زعم صالح أنه حاميه، وأن صندوقه هو الحكم.
بهذا النص غير المسبوق أحكم صالح الخناق على الجمهورية التي تمنع وبالنص نفسه أي شخص من أن يصبح رئيسًا. وبالنتيجة لا مناص من توريث السلطة لنجله، لأن الشروط المستحيلة التي صيغت بإشرافه وبتوجيهه من "قانونيين"! فصلوها على مقاس مصالح الأسرة.
يقول نص المادة ١١٦ ما يلي: "في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل، يتولى مهام الرئاسة مؤقتًا نائب الرئيس لمدة لا تزيد عن ستين يومًا من تاريخ خلو منصب الرئيس، يتم خلالها إجراء انتخابات جديدة للرئيس، وفي حالة خلو منصب رئيس الجمهورية ونائب الرئيس معًا، يتولى مهام الرئاسة مؤقتًا رئاسة مجلس النواب، وإذا كان مجلس النواب منحلًا حلت الحكومة محل رئاسة مجلس النواب لممارسة مهام الرئاسة مؤقتًا، ويتم انتخاب رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز ستين يومًا من تاريخ اجتماع مجلس النواب الجديد".
لقد غفل النص عمدًا ذكر الإقالة المسببة للرئيس، وكأنه معصوم، ولن يرتكب خطأً واحدًا في حياته، وغفل عن ذكر تولي رئيس السلطة التشريعية منصب الرئيس مؤقتًا في حالة شغور منصبي الرئيس ونائبه، ونص على العجز الدائم، وأجاز الاستمرار في حالة العجز الجزئي! هذه نصوص تقليدية تتضمنها دساتير كثيرة.

وفجأة،في نظام استبدادي فردي، حضرت روح القيادة "الرئاسية" المتعددة الأطراف التي تجعل قيادة البلد مستحيلة، لأن رئاسة مجلس النواب مكونة من خمسة أشخاص، ومجلس الوزراء مكون من أكثر من ثلاثين وزيرًا، ولا يمكن لهم أن يكونوا سلطة فعالة، وتم تجاهل قيام رئيسي مجلس النواب والوزراء بمهام الرئاسة مؤقتًا، وتمت مساواتهما بأعضاء المجلسين. هذه سابقة في نص دستوري، إبليسي/ سلطوي/ توريثي بوضوح، هدفه ألا يتذوق فرد ما طعم السلطة، ثم يطمع فيها. وهذا هو عين ما نعانيه اليوم بعد أن فُرض علينا مجلس القيادة السياسي بإرادة غير يمنية، في أبريل ٢٠٢٢.
لقد افترضت المادة ١١٦ وجود مجلس نواب بالتعارض مع النص الذي ذكر أن مجلس النواب قد يكون منحلًا، وإذا كان المجلس منحلًا فعلًا، فإن فترة الستين يومًا غير كافية لحبك انتخاب رئيس جديد ومجلس نواب جديد لم ينص الدستور على إمكان انتخابهما في وقت واحد.
قبل الكل بهذا النص، ولم يعترض عليه أحد، حتى من أحزاب المعارضة، رغم ثغراته الديمقراطية الواضحة، وأغراضه غير الجمهورية. ولكن الجميع استسلم.
كان صديق يردد أن ما يهم البعض هو الشِّركة الغنمي والمداعة والقات وسيارة ورصيد ونفوذ، وطز في كل شيء.. تلك كانت ديمقراطية علي صالح التي احتُفل بها، كمشيئة إلهية، وبه كزعيم وطني لا نظير له من قبل الأسرة و"مواليها"، في يوم ١٧ يوليو الكارثي.