أغاني يهود اليمن... تراث يمني أصيل

في إحدى المقابلات مع الموسيقار العربي الكبير "توفيق الباشا"، يقول: "اليهود أخذوا الفنون والعادات من البلاد التي نزحوا منها كتونس واليمن والمغرب، واقتبسوا من الفولكلور الفلسطيني، وكونوا الفرق الشعبية التي تجوب العالم، مقدمين ذلك الفولكلور في إطار عبري، مدعين أنه تراثهم، وأن أصول هذا التراث يهودية عبرية". ويتمنى أن "يلتفت المسؤولون في الدول العربية لهذا الموضوع الخطير".

سليمان ضحياني
سليمان ضحياني (صورة متداولة على الانترنت)

عندما رحل يهود اليمن إلى فلسطين حملوا معهم إرثًا دينيًا وثقافيًا وفلكلوريًا أصيلًا وغزيرًا. قاموا بنقل التراث الشفهي واللامادي اليمني الأصيل إلى تلك المجتمعات: الأكلات، الأزياء، الحرف اليدوية، وكل تلك المهن والمهارات التي كانوا يتميزون بها كالحباكة والصياغة، حتى إنهم أخذوا معهم نبتات للقات وزرعوها هناك، وأخذوا معهم بعض المدائع، وأقاموا هناك مقايل القات، مستلهمين طقوسها اليمنية التقليدية، ونقلوا الأغاني الشعبية أيضاً التي كانت منتشرة كثيرًا في الأوساط القبيلية والفلاحية والمهنية، كأغاني العمل، وأغاني الأطفال والنساء كالهدهدة، وأغاني المطحنة، وأغاني الزراعة، والتي تختلف في الأغلب عن باقي الأغاني، كالمهاجل، وأغاني الصراب، وغيرها.

يهود اليمن هم في الأصل قبائل يمنية عريقة، وتراثهم هو تراث يمني أصيل، عدا ما هو متعلق بالأناشيد والتراتيل الدينية اليهودية، والتي تتشابه مع معظم يهود العالم. أما الأغاني الشعبية فكلماتها وألحانها منفردة عن بقية كلمات وألحان يهود العالم، فلا نجدها إلا لدى يهود اليمن، مما يؤكد على يمنيتها. المصادر التاريخية توضح أن اليهودية دخلت إلى اليمن كدين في عهد الملك ذو نواس الذي اعتنقها لمجابهة الاحتلال الحبشي المدعوم من روما المسيحية، وبعد دخول الإسلام إلى اليمن، وأصبح الدين الرسمي لها، بقي بعض اليمنيين معتنقين الديانة اليهودية، وعاشوا في تجمعات متفرقة خاصة بهم، وأحاطوا أنفسهم بنوع من العزلة المكانية.

الشيء الملموس أن يهود اليمن أسهموا إسهامًا كبيرًا في الحفاظ على التراث اليمني، بخاصة التراث الشفهي واللامادي، منذ ما يقرب من ألفي عام، ويعود ذلك كونهم ظلوا يعيشون في تجمعات خاصة بهم، ويمارسون طقوسهم الاجتماعية والدينية بحرية، في وسط هذه التجمعات، مما جعل ذلك الموروث لا يتأثر بالعوامل الخارجية وبالثقافات الوافدة.

عندما رحلوا إلى فلسطين ظلوا محافظين على ثقافتهم وإرثهم اليمني، وقاموا بإنشاء مراكز توثيق فنية، وسجلوا مئات الأغاني الشعبية والتراثية، وكونوا الفرق الموسيقية التي نشرت الفن اليمني، حتى إن من أشهر فناني الكيان الصهيوني هما الفنانتان اليمنيتان شوشانة الذماري (1923-2006م) وعفراء هزاع (1957-2000م).

أقدم تسجيل لأغاني يهود اليمن هي تلك التي سجلت في فلسطين بعد العام 1911  بواسطة إبراهام زفى إيدلسوهن، في الثمانينيات كانت أشرطة الكاسيت التي تحتوي على أغانٍ بأصوات يهودية، ممنوعة من التداول في شمال اليمن، هذا في الوقت الذي كانت الفنانة عفراء هزاع تحصد الجوائز الدولية عن ألبومها المعنون بـ"أغاني يمنية"، كان قرار منع الأغاني اليهودية نوعًا من مقاطعة الاحتلال الصهيوني، وكانت أشرطة الكاسيت والفيديو اليهودية تباع بالسر في المحلات.

هذه الممانعة من قبل الجهات الرسمية للأغاني اليمنية الوافدة من الأراضي المحتلة، استغلها أصحاب السوق السوداء، وقاموا بتهريب أشرطة الكاسيت والفيديو التي تحمل أغاني ركيكة وإيقاعات غربية راقصة، واكتسحوا بها أوساط الشباب، فانتشرت أغاني عفراء هزاع وزيون جولان اللذين يؤديان الأغاني اليمنية التراثية بآلات موسيقية غربية بعيدة عن جوهر التراث اليمني الأصيل، حتى إن بعض الفرق الموسيقية التي انتشرت في التسعينيات من القرن الماضي، في اليمن، أصبحت تقلد الطريقة اليهودية في الغناء، وكانت تتسابق في أداء الأغاني اليمنية بالأسلوب اليهودي. وكذلك أدت هذه الممانعة الرسمية إلى عدم معرفة المهتمين بمراكز الأبحاث والتوثيق التي انتشرت في الأراضي المحتلة، من قبل يهود اليمن، والتي لولا ثورة المعلومات وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي لما استطعنا التعرف على كثير من فناني يهود اليمن، والذين أدوا الأغاني اليمنية، خصوصًا الشعبية منها، بشكل رائع، ووثقوا مئات من الألحان والأشعار الشعبية.

 

أسلوب الغناء

تختلف طبيعة الأداء في العادة حسب المناطق التي يقيم بها الإنسان، فأداء الفنانين ففي المناطق الجبلية يختلف عن طريقة أداء الفنانين في المناطق الساحلية أو الصحراوية، وتنطوي طبيعة الأداء على عدة تفاصيل يتعلق بعضها بالتقاليد التقنية، وبعضها بطرق استخراج الأصوات والكلمات. يهود اليمن لديهم طريقتهم الخاصة في أداء الأغاني، والتي تعتمد على تغير نبرة الصوت، وجعله حادًا، وذلك عن طريق الغناء بفم شبه مطبق نوعًا ما، إلى جانب نطق الحروف بقليل من التحريف، لكنهم يؤدون الأغاني باللهجة الدارجة للمنطقة التي ينتمون إليها في اليمن، فنجد مثلًا الفنان أهرون عمرام الذي ولد في مدينة صنعاء القديمة، يؤدي الأغاني باللهجة الصنعانية، والفنانة ليا إبراهيم المولودة في منطقة شرعب بمحافظة تعز، تؤدي الأغاني باللهجة التعزية، والفنان زخريا محانيم من عدن، يغني باللهجة العدنية.

 

نستطيع تقسيم الأغاني اليمنية التي غُنيت بواسطة يهود اليمن في فلسطين المحتلة، إلى ثلاثة أنواع:

1- أغانٍ شعبية: هي الأكثر أداءً من قبل فناني يهود اليمن، إذ تعتبر اليمن أحد أغنى الشعوب من حيث الموروث الشفهي، هذه الأغاني الشعبية التي يغنيها يهود اليمن، يسمونها في العادة أغاني يمنية، كما هو عنوان ألبوم الفنانة عفراء هزاع، الذي أنتجته عام 1984م، بعنوان "أغاني اليمن"، وتطلق الجهات الرسمية للكيان الصهيوني عليها أغاني يهود اليمن، كما هو الحال للأسطوانة التي أنتجتها منظمة اليونسكو في التسعينيات من القرن الماضي، بعنوان "يهود اليمن"، وهذا توصيف غير دقيق وسياسي أكثر منه فنيًا وعلميًا.

غنى يهود اليمن الأغاني الشعبية بمختلف مجالاتها ومواضيعها، نورد هنا أمثلة لبعض تلك المواضيع:

• أغاني ألعاب الأطفال:

يا هزلي ياه زلي قد نزلت البير اصلي

تحت رمانة كبيرة وعناقيد الحظيرة

صوت من ذا صوت من ذا

صوت الاعجم صوت الابكم

قد تكحل قد تغنج

قد نزل صنعا المدينة

يخطب البنت الصغيرة

ما الكبيرة هي لعينة

سرقت نص الجحينة

يا بنات صنعاء المدينة

شغلكن شغل المكينة

كلكن تفاح وليمة

هكذا كان ينشد أطفال صنعاء القديمة وهم يمارسون ألعابهم اليومية، وفي ما بعد تحولت كلمات هذه اللعبة وألحانها إلى أغنية تقليدية يتغنى بها فنانو اليمن، سواء من كان في اليمن أو من هاجروا إلى فلسطين المحتلة، كلٌّ مدعٍ أن الأغنية من تراثه الخاص.

وقد غنى بعض كلماتها في الستينيات من القرن المنصرم، الفنان اليمني في الأراضي المحتلة سليمان ضحياني، وغناها الفنان زولان في الثمانينيات من القرن المنصرم، بإيقاع راقص مع تغيير بعض الكلمات، ولقيت رواجًا واسعًا في أوساط الشباب اليمني حينها، وغناها حاليًا الفنان اليمني الكبير أحمد فتحي مع تغيير في الكلمات، إذ غناها من أشعار مطهر الإرياني واللحن نفس اللحن الشعبي، ووثقها مركز ميل الذهب المختص بأغاني الأطفال والنساء، وأدرجها ضمن ألعاب الأطفال في مدينة صنعاء، وينسب بعض المهتمين كلمات الأغنية إلى الحاخام والشاعر اليهودي سالم الشبزي.

في الأرجح أن هذه الأغنية هي من الأغاني الشعبية اليمنية، حيث يقصد بالبير منطقة بير العزب؛ حي رجال الدولة والتجار، والمشهور بحدائقه وبساتينه الكبيرة: "قد نزلت البير اصلي تحت رمانة كبيرة وعناقيد الحظيرة".

 

• أغاني المطحنة:

وهي أغاني النساء وقت العمل (المطحنة)، تؤديها نساء اليمن عندما يقمن بطحن البذور بالمطحنة الحجرية (الرحى). وتحمل أغاني المطحنة معاني وشجونًا جميلة، مثل الأغنية التي سجلتها الفنانة ليا إبراهيم، التي تنتمي إلى منطقة شرعب موطن الشاعر والحاخام اليهودي سالم الشبزي.

أنا فدا لامي أمي ذي بننتني

ومشطت جعدي ودهنت لي

 

يا ريتني وردة في مدرب السيل

لا حد يقلي لا شرَق ولا ليل

 

قلبي ملان يا يمه على من اشكي

واشكي على ربي واحن وابكي

 

حبيبي كم لي عليك مراعي

وقد قرح قلبي وانزل دموعي

2- أغانٍ تقليدية تراثية: بخاصة الأغنية الصنعانية التي تعتبر أرقى أنواع الغناء في المنطقة، وتعدى انتشارها من ربوع اليمن إلى المنطقة العربية، وقبل ثورة سبتمبر 1962م كان الغناء والعزف محرمًا، حيث كان يمارس في أماكن سرية، إلا أنه كان يُسمح لليهود بممارسة الغناء والعزف في حفلاتهم وأعيادهم بكل حرية.

يذكر الدكتور محمد عبده غانم، في كتاب "شعر الغناء الصنعاني"، أن اليهود في عدن كانوا يمارسون الرقص على إيقاعات الأغنية الصنعانية في أعيادهم الخاصة، هكذا وجد فنانون يهود يجيدون العزف والغناء التقليدي بتقنية عالية، لكنهم ظلوا حبيسي مجتمعهم، ولم يخرجوا إلى العالم إلا بعد هجرتهم إلى الأراضي المحتلة، وقاموا بتسجيل أغانٍ صنعانية بتقنية عالية، مثل: "يا حمامي أمانة ما دهاك"، "غنى على نايف البواسق"، وغيرهما.

في الآونة الأخيرة قام اليهود بغناء بعض الأغاني اليمنية التقليدية، دون أخذ الموافقة من صاحب الأغنية، وبدون حتى الإشارة لمن الكلمات أو المغني الأصلي لها، مما أدى إلى إرباك لدى المتلقي هل تلك الأغاني شعبية أم تراثية أم حديثة، مثل: أغنية "رحلك بعيد"، كلمات الفضول، وغناء أيوب طارش والفنانة منى علي، وأغنية "يا هزاري"، كلمات وألحان عبدالباسط الحارثي، وأغنية "خطر غصن القنا"، كلمات مطهر الإرياني، ولحن شعبي، وأداء الفنان علي الآنسي.

3- أغانٍ من الشعر الحميني لشعراء يهود اليمن: وأشهر من غُني له هو الشاعر والحاخام اليهودي سالم الشبزي، من محافظة تعز مديرية شرعب، وهو أحد أعمدة الشعر الحميني، عاش في الفترة (1916-1720م)، قام بتأليف أكثر من 500 قصيدة حمينية باللغتين العربية والعبرية، ويغلب على شعره الطابع الصوفي، وقد غنى من أشعاره سواء كانت كانت باللغة العربية أو العبرية، مجموعة من فناني يهود اليمن، وتكون الألحان إما من التراث اليمني أو ملحنة من قبل الفنانين، مثل أغنية "أسألك يا حور الجنان"، كلمات سالم الشبزي، ألحان الفنان أهرون عمرام:

أسألك يا حور الجناني لمه لمه عذبتني

وانا عهدك دائم زماني تكرم لمن هو هانني

أكرمتني في ذا المكاني كم عاد تكون غائب مني

يا مفتي القول والمعاني قلبي بحبك ممتحن

مفتون انا طول الدوام من وحشتك يا ذا الغلام

يا من جعيدك كالظلام

والمتتبع لأغاني يهود اليمن يستطيع أن يميز جيلين من الفنانين:

1- جيل المهاجرين الأوائل، وهم الجيل الذين ولدوا وترعرعوا في اليمن، وانتقلوا إلى الأراضي المحتلة في عملية بساط الريح. ما يميز فناني هذا الجيل هو أداؤهم للأغنية الشعبية والتقليدية بتقنية عالية وبلهجة يمنية خالصة، مستخدمين آلات موسيقية تقليدية مثل العود الشرقي والصحن النحاسي والطبل.

من فناني ذاك الجيل: أهرون عمرام، الذي ولد في مدينة صنعاء القديمة، وتلقى تعليمه الأساسي فيها، وهاجر إلى الأراضي المحتلة عام 1950م، بدأ الغناء وعمره 14 عامًا، واشتهر في ما بعد كمغنٍّ في حفلات الأعراس، كانت انطلاقته الفعلية عام 1963م، حين رافق فرقة الأجراس في رحلة إلى أوروبا، وقدم وصلات غنائية يمنية، وهناك التقى بالفنانة الكبيرة شوشانة ذماري، سجل في السبعينيات والثمانينيات عشرات الأغاني اليمنية، وأصدر أكثر من 150 أسطوانة، اهتم بتوثيق التراث الشفوي واللامادي اليمني مثل الأغاني، الأزياء، المجوهرات، الحلي، والرقصات.

2- جيل أبناء المهاجرين الذين ولدوا في الأراضي المحتلة أو هاجروا من اليمن وهم أطفال، هذا الجيل تأثر بالثقافة والموسيقى الغربية، فقدم الأغاني اليمنية الشعبية والتقليدية بقالب غربي وبإيقاعات الديسكو والبوب، مستخدمين آلات موسيقية غربية مثل الجيتار والدرام، كما أن لهجتهم اليمنية يشوبها بعض الانحراف.

من فنانين هذا الجيل: عفراء هزاع (1957-2000)، ابنة الفنانة الشعبية شوشانة، التي حفظت منها عفراء الأغاني الشعبية اليمنية، قدمت في منتصف الثمانينيات أغاني شعبية وتراثية يمنية بإيقاعات الديسكو والبوب، ولقيت صدى رائعًا في أوروبا، وحصدت عدة جوائز دولية.

ما يعاب على أداء عفراء هزاع هو تقديمها التراث اليمني مسخًا، وخلعها لثوب الأصالة، وجعله غربيًا أكثر منه يمنيًا، بالرغم من التزامها في معظم الحفلات بالملابس والحلي اليمنية التقليدية، ودومًا ما تذكر عفراء أن الأغاني هي من التراث اليمني، إلا أنها قدمت التراث بطريقة لم يتقبلها الوسط الفني والشعبي اليمني المعتز بأصالته وتراثه، ويصر على صون التراث الشفهي على ما هو دون إضافة آلات غربية عليه.