عن الإخفاء القسري أو تخلّف السلطة

يتناول الطبري في تأريخه لأحداث عام 66 هجرية، سيطرة المختار الثقفي ومن معه على الكوفة، ومصائر من قارعوه من وجهائها، ومنهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي -الذي كان من وجهاء أهل اليمن في الكوفة- فينقلُ عن أحد الرواة وصفًا لنهاية الزبيدي الغامضة بعد هزيمة قومه على يد المختار "فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، ولم يرَ حتى الساعة، ولا يدُرى أرضٌ بخسته أم سماءٌ حَصَبَته!".

هذا الوصف البليغ يصح على مواكب المخفيين في اليمن، التي تتتابع منذ السبعينيات وحتى يومنا هذا؛ فلا ندري ولا يدري أهلهم عن حياتهم أو مماتهم شيئًا، والفارق أن اليمني القديم اختفى بعد الهزيمة، ولا يدري أحد من أخفاه أو قتله، أو عما إذا كان هو من أخفى نفسه، أما المخفيون الجدد فنعلم يقينًا -وهذا هو اليقين الوحيد في موضوعهم كله- أنهم أُخفوا على يد أجهزة أمن النظام سابقًا، ثم المليشيات الطائفية والانفصالية راهنًا، وهذا التفصيل الأخير يحتاج منا وقفة تأمل.

يطيب لكثير من الناس تصور الديكتاتوريّات على نمط واحد، ولكنها تاريخيًا ليست كذلك، وهناك معايير شتى لتقرير الفروق بين الأنظمة القمعية، مثل حجم قاعدتها الشعبية وتوجهاتها الاقتصادية وتحالفاتها الاجتماعية، ومستوى العنف غير القانوني الذي تمارسه، وغيرها من الأمور، ولكن أحد أهم الفروقات -إن لم يكن الفارق الأساسي- هو وجود أو غياب منطق الدولة raison d'état عند النظام. منطق الدولة يفترض أشياء كثيرة، منها مثلًا تقليل الاحتكاك بين قيادة النظام والجهاز القضائي قدر الإمكان، ومحاولة تقليص تعرية الفرد من حقوقه المواطنية رأسيًا وأفقيًا؛ أي تقليل الحقوق الإنسانية التي سيفقدها بسبب القمع، وقصر عدد المتعرضين لهذه العملية على "أعداء الشعب"؛ لأن الدولة، ديكتاتورية أو ديمقراطية، تفترض أصلًا أنها تمثل مواطنيها، وتأخذ شرعية وجودها منهم.

على هذا الأساس يمكننا اعتبار الإخفاء القسري علامة ممتازة لقياس مدى استبطان النظام لمنطق الدولة؛ فالنظام القمعي المرتاح في مجتمعه لا يحتاج إلى الإخفاء القسري أو الإعدامات خارج الإجراءات القانونية (ولو الشكلية).

لهذا تتلازم حالات الإخفاء القسري في العالم مع ضعف جهاز الدولة وعقلانيته عند الانقلابات العسكرية الاستئصالية مثلًا (في أميركا اللاتينية في السبعينيات ومطلع الثمانينيات) والحروب الأهلية، أو مع إنهاء وجود الدولة في المناطق التي تسيطر عليها المليشيات المسلحة، أو كل هذا معًا كما يحدث في اليمن الآن، وهذه المأساة الراهنة تعطينا لمحة عن مستوى النظامين الجمهوريين في الشمال والجنوب في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؛ هما لم يكونا فقط نظامين قمعيين، بل كانا نظامين بدائيين سياسيًا لم يطوّرا منطقًا للدولة؛ غياب الإخفاء القسري والمقابر الجماعية هو ما يميز عنف الدولة من إجرام العصابة. بإمكاننا أن نستخدم هذه الفكرة لقياس مدى التردي في أنظمة أقمعية أخرى.. ولكن هذا موضوع آخر.

وبهذا أيضًا نستطيع أن نقيس تدهورنا السياسي والأخلاقي اليوم؛ فقد عادت ممارسات الإخفاء بأعتى وأشنع مما كانت عليه. سابقًا كان المخفيون مسيّسين أو عسكريين بالدرجة الأولى، أما ما تمارسه مليشيات الحوثي والمجلس الانتقالي فيتجاوز هؤلاء إلى مواطنين عاديين وضعتهم صدفةُ نحس في المكان الخطأ؛ وهذا المكان الخطأ هو كل مكان يمر عليه مسلح مليشياوي.

اختلاف الإخفاء القسري بين العهدين صادر عن اختلاف وظيفته بين الزمنين: كان الإخفاء على يد النظام منذ السبعينيات وحتى حرب 94، ذا أهداف محددة وموضعية مثل إنجاح انقلابات أو ضرب قوى سياسية، أما الإخفاء على يد مليشيات الحاضر فهو أولًا بث للرعب في نفوس الناس، وتعبير عن أيديولوجيات عنصرية (طائفية-عرقية عند الحوثي وجهوية شوفينية عند الانتقالي)؛ أي أداة من أدوات الحكم والإخضاع، وليس مجرد تكتيك في صراعات سياسية محددة أو ممارسة لترويع قوة سياسية معينة.

الأمر الآخر أنه تحول إلى ممارسة ربحيّة عند الحوثيين تحديدًا، بما يسمح لنا بالحديث عن اقتصاد الإخفاء القسري؛ حيث يخطف المواطنون في وضح النهار من الشارع أو في نقطة تفتيش، ثم يغيّبون ولا يعرف أهلهم عنهم شيئًا، ولكنهم يعرفون بالحدس ثم بالإشارات المتوالية أنهم عند الحوثيين، وحينها تبدأ مفاوضات أليمة هدفها إطلاق سراح المخفي المخطوف مقابل مبلغ كبير من المال، وفي كلام آ خر، إن كل يمني تحت سيطرة الحوثي مشروع رهينة بالمعنى المباشر لا المجازي للكلمة.

أمام العجز المؤلم حيال وقف جرائم الإخفاء، لا يبقى أمام الناس إلا المقاومة والتصدي ببناء المؤسسات كما فعلت أمهات المختطفين بتشكيلهن رابطةً تُعد من أهم تجارب العمل المدني الحقوقي في تاريخ هذا البلد، وبإحياء الذكرى لا بالاستذكار العاطفي الصادق فحسب، بل بالتسجيل الواعي والدقيق لسِير المخطوفين كذلك، وهذا ما لم نفعله بعد، ويجب أن نتجه إليه. فإذا كان هدف الإخفاء هو الإرعاب وكسر روح النضال والنقد، فعلينا أن نسجل حياة المخفيين، وننشر سجل عملهم الوطني بتوثيق علمي، وبتجميع شهادات، وبعمل محترف، حتى تبقى ذكراهم أولًا في الذاكرة الشعبية، وتبقى قضيتهم حاضرة وضاغطة إلى أن يُعرف مصيرهم، وحتى نتعلم منهم ومن أفكارهم وتجربتهم، لكي لا تذهب تضحياتهم سدى.