الحوثيون.. بين السياسي والأيديولوجي والعسكري (3-3)

الإهداء:

إلى روح الأستاذ الشهيد الصديق محمد عبدالملك المتوكل.

إليه: سياسي مخضرم، ومثقف وطني يمني عميق الغور في البحث في بنية الثقافة الوطنية اليمنية.. عرفته صديقًا وسياسيًا وإنسانًا كبيرًا منفتحًا على الآخر، من أهم خصائصه وصفاته أنه رجل سلام، وحوار، راكم ثقافة سياسية مدنية نجد تجسيداتها في سلوكه اليومي، فضلًا عن خبرة معرفية وثقافية عميقة بالإنسان والحياة.. كان دائمًا في صف الحداثة الفكرية، ومع تحديث المجتمع، وهكذا كان في علاقته مع بناته وابنه، ومع جميع من حوله.. اتفقنا واختلفنا في التفاصيل التي يقبع فيها الشيطان، وحتى في بعض القضايا الجوهرية، فكان يخرج منها سويًا متوازنًا حاملًا مشعل راية النور والحوار والوطنية اليمنية.

محمد عبدالملك المتوكل، مثقف وسياسي وطني يمني، علمته تجربته في الحياة خلاصة ما هو جميل وينفع الناس، ويمكث في الأرض، رحل عن حياتنا شهيدًا برصاصات غادرة مجهولة الهوية، والأجمل أنه غادرنا رافضًا للتعصب المذهبي والطائفي والسلالي.

لروحه الرحمة والسلام والخلود مع الشهداء والصديقين والصالحين.

 

إن جميع النماذج التي يقتدي بها نظام صنعاء تقول لنا: إننا في الطريق الخطأ، ومعطيات العجز ، ومفردات الفشل، قائمة ومعلنة في كل النماذج، التي أشرنا إليها، في الحلقتين الماضيتين، بما فيها حالتنا اليمنية، التي تفقأ العين، والأمر هنا ينطبق على ما يجري في الشمال والجنوب -بدرجات متفاوتة ولأسباب محتلفة- ولكن عناد القوة، وعنف الجهل المسلح، المدعوم بالأيديولوجية المذهبية، "الطائفية/ السلالية" (المصالح الصغيرة)، وبالاستقواء بالخارج، هو الذي يجعل البعض منا/ أصحاب المشاريع والمصالح الصغيرة، يستمرون في العناد، وفي الاندفاع في هذا الاتجاه الخطأ، تحت شعارات لا صلة لها بالواقع، شعارات يصنعها الوعي الزائف، حول الذات، والواقع، والتاريخ، وهو ما يجعل من إمكانية تقديمهم مراجعات نقدية فكرية وسياسية ودينية أمرًا متعذرًا إن لم يكن يصل حد الاستحالة، بعد أن حشروا أنفسهم والمجتمع كله، في صيغة مشروع سياسي غير قابل للتحقق "ممنوع من الصرف"، إلا بتكلفة مادية وإنسانية باهظة، ولفترة قصيرة مؤقتة، وهو ما نحذر منه، ونتمنى على "أنصار الله"، العودة عن هذا المسار الجحيمي والجهنمي الصعب والخطأ، المسار الذي يعاند حقائق السياسة والواقع والتاريخ.

إن القراءة الأولية لما يتأسس ويتكرس يوميًا، في الشمال والجنوب، تقول، وتؤكد أن مشروع "الانفصال"، وتعميم ثقافة الكراهية والعنف بين أبناء اليمن ، هو ما يتحقق على الصُّعد كافة، بتشجيع وتمويل ومساندة سياسية ومالية وعسكرية من الكفلاء في الخارج: إيران، السعودية، الإمارات، والعناوين التي يتكرس من خلالها الانفصال كممارسة، في صورة الشعارات التالية: "مقاومة العدوان الخارجي"، مع استمرار "العدوان الداخلي البشع على كل شيء في البلاد"، وفي فرض القوانين، والإجراءات الاقتصادية والمالية "الجبائية" المناقضة للقوانين النافذة، والعمل السياسي المنظم لخلق جهاز بنكي، مزدوج (ثنائي) في إطار الدولة الواحدة، والأخطر الاستمرار في سن قوانين، وتشريعات تتم بالقطع الانفصالي مع الإجراءات والتشريعات القانونية والدستورية التي تقول بها وينص عليها دستور دولة الجمهورية اليمنية، وفي الجانب الآخر، رفع شعار استعادة دولة الجنوب السابقة، والقضية الجنوبية بعد تجريدها من هويتها اليمنية، مع أن ما يجري على الأرض لا صلة له بدولة اليمن الديمقراطية، ولا بدولة الاستقلال الوطني، ولا هو استمرار لهما، دون تجاهل أو إنكار عدالة القضية الجنوبية. ومن الشعارات التي يتكرس من خلالها الانفصال كذلك -مع الأسف- شعار إيقاف الحرب، عبر الهدن الحربية، والذي يجعل من الحرب، على المديين المتوسط والبعيد، حالة مستدامة على كل اليمن، والأهم حالة مقبولة، وتقود إلى "السلام"، كما يتوهمون!

وعند هذه اللحظة يتقاطع ويتوحد الشعار السلاموي من بعض أطراف الداخل، مع شعار السلام الكاذب القادم إلينا من الخارج الإقليمي والدولي، خدمة لمصالحهم الاستراتيجية في تقسيم اليمن.

وهذا ما يشجع، بل يقوي أطراف الحرب جميعًا في استمرار الحال على ما هي عليه، والنتيجة السياسية والعملية وضع وجعل اليمن شمالًا وجنوبًا في حالة حرب مستدامة، خدمة لمصالح الخارج (الإقليمية والدولية)، وعلى طريق تمرير مشاريعهم السياسية الاستراتيجية، نجدهم يتوطفون في مبادراتهم السياسية شعار "السلام"، الذي لن يحقق في هذا السياق، وضمن هذه الممارسات، والسياسات القائمة، سوى أمرين:

تدمير اليمن أولًا، كمقدمة لتقسيمه بعد وضعه لفترة طويلة في حالة حرب مستدامة، أي في وضع عدم استقرار سياسي طويل، وباسم "السلام"، تمهيدًا للتعود على غياب/ تغييب الدولة.. تغييب مشروع استعادتها، لاستكمال ترتيب تقسيم البلاد، ونهب ثرواتها، وجعل الأرض، والسيادة بيد الأطراف الخارجية النافذة، كما هو حاصل، وهو ثانيًا.

في تقديري، إن على الجماعة الحوثية "أنصار الله"، أن تعيد النظر في منطق تفكيرها، وفي ممارساتها، وفي رؤيتها لنفسها، وللواقع الداخلي من حولها، وفي نظرتها لمستقبل هذا البلد الذي يضج بالمتناقضات الذاتية، والموضوعية والتاريخية، التي من الصعب القفز عليها جميعًا في الحديث الأيديولوجي المجرد، عن "الإمامة" و"الولاية"، والعالم يقتحم بقوة أبواب وأسوار السماوات الكونية، وفي العقد الثالث من الألفية الثالثة!

أقول، وأؤكد على ذلك، حتى يكون لخطابهم أو شعارهم، حول "مقاومة العدوان"! معنى ومصداقية، وليس تشجيعًا وتحفيزًا للمزيد من الانقسام السياسي والمذهبي، "الطائفي"، والانفصال الاجتماعي والوطني!

لأن ما يحصل حقيقة في صنعاء، وعدن، وتعز، و"المخا"، ومأرب، والحديدة... إلخ، إنما هو ليس فحسب "مأسسة للفوضى"، وتدمير لما تبقى من الجيش الوطني، الذي يوزع دمه بين المليشيات المسلحة، بل لتعميم حالة التخلف الشاملة، لمدى طويل على كل البلاد، شمالًا، وجنوبًا.

إن الثلاثية التجريدية غير المتكافئة، وغير الواقعية المأزومة القائمة في صورة: السياسي المرتبط والمشوه، والأيديولوجي في عمقه "الطائفي"، والعسكري "الجبائي"، ثلاثية مأزومة يتم تجريبها علينا من ثماني سنوات، وعلى الملأ، جميعها معطيات ومفردات تقول إننا أمام أفق سياسي صراعي مدمر وكارثي وبدون أفق -في الشمال وفي الجنوب- وما لم يتم وضع اعتبار وفهم وإدراك إلى أن المجتمع في غالبيته العظمى لا يتوافق، ولا يمكنه أن يتناغم مع حركة سير منطق هذه الثلاثية المأزومة والملغومة التي تعتمدها الجماعة الحوثية "أنصار الله"، في إدارة السياسة وفي إدارة الاقتصاد، وفي بناء الدولة المتعثرة والعاجزة، فإن اليمن كله سيدخل في نفق حروب صغيرة وكبيرة مستدامة تكون "الهدن الحربية" فيها وخلالها وباسم "السلام"، عبارة عن مسكنات وحقن مهدئة، تعد وتهيئ المجتمع لحروب أوسع وأعنف وأخطر..

إن وهم القوة الذي تعيشه الجماعة في صنعاء، فإن مفاعيله ومداه محدود مهما بلغت حدود قوته وسطوته وجبروته، فإن للاعتماد على القوة في كل التاريخ السياسي العالمي حدودًا، ولا يمكننا أن نمارس السياسة، وإدارة الاختلاف، والصراع، وبناء الاقتصاد والمجتمع والدولة من خلال "معادلة القوة" لوحدها، ووفق منطق الغلبة والعصبية بالمفهوم الذي كان قائمًا قبل عشرة قرون من الزمن، وعليهم اليوم أن يتعظوا من تجربة الرئيس علي عبدالله صالح، الذي طوق وحاصر المدن اليمنية الرئيسة بالمئات من المعسكرات، ومن الوحدات العسكرية التي أحاطت بالمدن اليمنية، إحاطة السوار بالمعصم: صنعاء، عدن، تعز، حضرموت، والحديدة، أبين، شبوة، إب، وغيرها، وحتى أطراف الأرياف،

ومع ذلك أسقط نظامه بدون إطلاق رصاصة واحدة، أسقط بالسلمية والمدنية، وبالصدور العارية، والتجربة الإيرانية في الانتفاضة على الشاه التي شاركت فيها مختلف القوى السياسية والاجتماعية والدينية، (اليمين، واليسار)، شاهد حي على ذلك، علمًا أن الجيش الإيراني في فترة شاه إيران، كان خامس جيش على مستوى العالم، عدة، وعتادًا، وتجهيزًا، فضلًا عن أجهزة المخابرات الداخلية العديدة، بما فيها "السافاك". ومن هنا علينا أن نفتح بصيرتنا على رؤية جديدة للمصلحة الوطنية العامة، وعلى مفهوم المواطنة، ودولة المواطنة، والشراكة والمشاركة، بعيدًا عن عقلية التغلب بالقوة من أي نوع كان، ومن خلال الاستقواء بالأجنبي.. أي علينا التسلح برؤية ديمقراطية تعددية تستوعب وتستغرق في نطاقها الجميع، بعيدًا عن أوهام القوة والعصبية والغلبة.

اليوم، ومع الجماعة الحوثية "أنصار الله"، يحتل البناء الفوقي (التشريعي/ الأيديولوجي/ الطائفي) -مع الأسف- المرتبة الأولى، ومركز الصدارة في تحديد مسار السياسة والاجتماع والاقتصاد، في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية، وكأننا مع جماعة" أنصار الله"، أمام مجتمع مغلق "هوية مغلقة"، وسلطة مكرسة في خدمة الجماعة، حتى غدت العلاقة بين البناء الفوقي المفترض، والبناء التحتي "الاقتصادي"، يتجسد في شكل تبعية واضحة للبناء التحتي، لهيمنة البناء الفوقي، "هيمنة طائفية قهرية"، وكأننا نستعيد تاريخ "القرون الوسطى الأوروبية"، أو فترات ضعف وتفكك الدولة الإسلامية، وهو وهم أيديولوجي، وسراب رؤية، حيث الأيديولوجية الدينية "الطائفية" تبدو كأنها هي المحدد والمحرك، نتيجة تراجع دور مؤسسات السلطة (الدستور والقانون)، وتهميش المجتمع، وتغييب دور الدولة ومؤسساتها، الذي تم لصالح المليشيات (المشرفين)، وهو الأمر والواقع الذي ينطبق -بدرجات متفاوتة- على كل المليشيات في الشمال والجنوب، بدرجات وصور متفاوتة، وهو -مع الأسف- ما يسهم في تقديم صورة مشوشة ومشوهة وزائفة للصراع السياسي والاجتماعي والطبقي، على أنه صراع مذهبي طائفي، قروي/ قبلي مناطقي جهوي،

ولذلك ترتفع الهويات الصغيرة "القزمة"، وتتعملق على حساب الهوية الوطنية الجامعة "اليمنية"، وهي واحدة من الإشكالات السياسية والثقافية الخطيرة التي تواجه المشروع السياسي اليمني بآفاقه المدنية والديمقراطية، وهو ما يفسر حديث البعض اليوم عن "الجنوب العربي"، وعن "القومية اليمنية"، و"القومية الأقيالية"، وعن "التبابعة الجدد"، في مواجهة "الهاشمية السياسية"، وفي مواجهة بعضهم بعض.. صراعات هوياتية أولية متخلفة.

إن التاريخ السياسي العالمي، يعلمنا أنه في أزمنة الصعود الوطني والقومي التحرري والديمقراطي، تتراجع الأسئلة الصغيرة، والهويات العصبوية (المريضة/ القاتلة)، وتتقدم المشاريع السياسية التاريخية الكبرى، ولذلك كانت ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963، والاستقلال الوطني المجيد في 30 نوفمبر 1967م، ولأننا -اليوم- نعيش الانكسارات والتراجعات والإنهيارات الوطنية والقومية الخطيرة، على الصعد كافة، فلذلك لا غرابة أن تقفز في وجوهنا وأمامنا الأسئلة المرتبكة والقلقة والمتعبة، وتتعملق أسئلة الهويات الأولية "الفرعية"، ما قبل الشعب، وما قبل الوطن، وما قبل دولة المواطنة الجامعة، وهي في تقديري لحظات سياسية عابرة/ انتقالية، في مفهوم الزمن التاريخي.

الحوثيون اليوم يملكون فائض قوة "عنف"، على مستوى الداخل، وحالة توازن قوة شبه واقعية مع التحالف، والشرعية، هي حالة سياسية وعسكرية حكمتها وتتحكم بها موازين القوة، والقوى، والمصالح الإقليمية والدولية، وهي تجسيد لحالة توازن الضعف قائمة منذ سبع سنوات لجعل الحرب حالة مستدامة، وبدعم سياسي وعسكري من الخارج، يدفع ثمنها المجتمع اليمني المفُقَر والجائع، والمريض، والنازح، والمشرد في الداخل والخارج، وهي صورة مأسوية منتشرة على كل البلاد شمالًا وجنوبًا.

تتوزع السيطرة السياسية والعسكرية في مناطق جنوب البلاد المسمى اسميًا "محررة"! بين "المجلس الانتقالي" و"التحالف"، و"الشرعية المفترضة"، مع أن صاحبة الأمر والنهي الحقيقية هي قوة التحالف الاحتلالي، وتحتل السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية في معظم المناطق الشمالية، سلطة الحوثيين، ولأن من يسيطر ويهيمن -ولو مؤقتًا- على السلطة والثروة، وعلى وسائل الإنتاج المادية، فإنه يحاول كذلك أن يسيطر بالضرورة على وسائل الإنتاج الفكرية والثقافية، باعتبارها قوة ناعمة ومؤثرة، ومن هنا فإن سلطة صنعاء تحاول -أقول تحاول- فرض هيمنتها الأيديولوجية عبر قاطرة "الهاشمية السياسية"، ولذلك لم يتوقف سعيها ومحاولاتها في إنتاج طقوسها وشعائرها الخاصة عبر الإعلام الرسمي الواقع تحت سلطتها، فضلًا عن إعلامها الحزبي، وعبر دورات ثقافية مذهبية "طائفية" إجبارية، ومراكز صيفية للتربية الأيديولوجية المذهبية، يجند لها الآلاف من الأطفال والشباب، بما فيه سعيهم الدؤوب لإنتاج بنية مفاهيمية ومنظومة أفكار ومفاهيم خاصة بها، بما فيها أنظمة تشريعية وحقوقية وقانونية، تعتمد عليها في جعل أيديولوجيتها الخاصة هي السائدة ضدًا على أغلبية وعي وفكر وثقافة المجتمع في الشمال والجنوب، عبر محاولتهم مذهبة المجتمع والفكر، وحتى تطييف مؤسسات الدولة المختلفة، في المناطق التي يسيطرون عليها، وهو الوهم بعينه، ويساعدها على هذا الترويج وسهولة الانتشار في بعض مناطق سيطرتها، أن هناك تاريخًا منظورًا وغير منظور..

واقعًا من الحضور التاريخي لهذه الأيديولوجية/ الثقافة في منطقة شمال الشمال، فالزيدية القبلية والعدنانية في صورة "الهاشمية السياسية"، ماتزال امتداداتها وتأثيراتها حاضرة وقائمة وفاعلة في بنيته العميقة حتى اليوم، أقصد فاعلة ومؤثرة بهذا القدر أو ذاك في بنية الوعي والتفكير الاجتماعي العام من خلال سطوة أخطبوط "الدولة العميقة"، التي استمرت حاضرة وقائمة ومتشابكة ومتوحدة بالبنى الفوقية لجميع السلطات والحكومات من الإمامة، إلى ما بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، (كانت فيها ثورة 26 سبتمبر 1962م، وحتى تاريخ الرابع من نوفمبر 1967م، هي الفاصل الموسيقي الثوري الوطني والتحرري)، وصولًا إلى ما يجري اليوم من حرب وانقلاب على السياسة وعلى الذاكرة الثقافية، والوطنية وعلى التاريخ، وهو شكل من أشكال المبادئة والمبادرة في الهجوم الأيديولوجي للجماعة الحوثية على المجتمع الثقافي الواسع، في ما هي تراه دفاعًا عن مصالحها الخاصة "ثقافتها"، وتعبيرًا عن معنى وجودها كجماعة، "هوية خاصة بها"، وكأنه لم تجرِ في مياه الحياة في اليمن المعاصر شيء مذكور له علاقة بالإصلاح وبالتغيير والثورة على ما كان!

هي محاولة ليس لتناسي ما تم إنجازه من ثورة وتغيير وتضحيات، ومحوه ككتابة وتاريخ ومعنى! بل محاولتهم فرض كتابة مضادة/ بديلة -كما سبقت الإشارة- ومن هنا اتساع المعارضة للمشروع الحوثي، ولو بشكل مكبوت وصامت، ومقموع "أرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام.." كما قالها الشاعر والأمير الأموي، نصر بن سيار، حين كان يرى بعقله الثاقب والناقد علائم سقوط الدولة الأموية، والقليل المعلن منها، يقول: إن لا مستقبل لمثل هذا المشروع في واقع الممارسة، إلا في حدود كونه مكونًا من المكونات السياسية والاجتماعية، لا أقل ولا أكثر.

نؤكد على هذه الحقيقة، وهذا المعنى، حتى لا تجد الجماعة الحوثية "أنصار الله" نفسها تعيش حالة تناقض صراعي "عدائي"، مع أغلبية شرائح وفئات وطبقات المجتمع في الشمال قبل الجنوب، ولذلك لا سبيل لتحرير المجتمع من تناقضاته، الواقعية، والوهمية، سوى عودة الأمور إلى سويتها الطبيعية والإنسانية، في أن تتحول الجماعة الحوثية "أنصار الله"، إلى مكون من مكونات المجتمع العديدة، وعند هذه اللحظة من الوعي والفهم والتفكير العقلاني النقدي، سينتقلون ليصبحوا مكونًا سياسيًا فاعلًا في بناء المجتمع والدولة، بعيدًا عن ضغوط "الدولة العميقة"، في صورة "ثنائية الإمامة والقبيلة"، التي ماتزال مستمرة حتى اللحظة الراهنة، وعند هذه اللحظة الانتقالية في الرؤية، وفي الممارسة، فقط، سيتحولون من جزء من المشكلة إلى جزء فاعل ومنتج للحل.

ذلك أن الجماعة الحوثية "أنصار الله" لا تقاوم اليوم فكرة التطور، والتقدم الاجتماعي التاريخي، بل تعارض باسم المذهبية/ الدينية، "السلالية"، إحداث أي تحولات -ولو محدودة- ثقافية واجتماعية وقيمية حداثية!

والسؤال: هل يمكن بعث الإمامة الهادوية "الهاشمية السياسية"، من مرقدها، كفكرة ورؤية، لتمارس دورها -من جديد، وثانية- كما كان قبل قرون؟!

لا أعتقد بعد الله سبحانه وتعالى، من هو قادر على إحياء العظام وهي رميم.. ولكنه عناد القوة الجاهلة!

 

صفوة القول:

إن التطور والتقدم في المجتمع، وفي الطبيعة، وفي الفكر، وفي الحياة، أساسه الاعتراف بوحدة وصراع الأضداد (المختلفين) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..) صدق الله العظيم (الآية 13 من سورة الحجرات)، ومثل هذا المعنى القرآني التعددي العظيم، نجده في المفاهيم الفلسفية الجدلية المادية والاجتماعية التاريخية، وهي التي تساعدنا وتقودنا عبر تحول "الكم إلى كيف"، إلى التخلص من سلبيات المجتمع القديم، ويجعل الحياة قابلة للحياة وللتطور والتقدم، وما تمارسه الجماعة الحوثية "أنصار الله"، وهو ما أشرنا إليه في الحلقتين المنصرمتين، إنما هو محاولة عبثية لتجميد المجتمع والفكر، والحياة والاقتصاد، عند لحظة كانت ومضت في التاريخ، ولن تعود إلا في صورة المأساة والكارثة،

ومن هنا نلحظ عبث محاولتهم محاكمة الواقع والفكر والتاريخ بمفاهيم أيديولوجية مسبقة (مذهبية/ طائفية/ سلالية)، وعلى الصعيد السياسي الاجتماعي محاولتهم محاكمة وقياس الشاهد الحاضر "الديمقراطي/ الانتخابي/ التعددي"، بالغائب الأيديولوجي، الأحادي "الثيوقراطي"، "الإمامة"، و"الولاية"، الذي يعني تجميد المجتمع السياسي والدولة المدنية الحديثة، عند أيديولوجية "الحق الإلهي"، والمحصور بـ"الهاشمية السياسية المعاصرة"، دونًا عن جميع أطراف ومكونات المجتمع، وهو ما يحصل اليوم، مع الأسف. والخلاصة أن قوى وفعل التغيير والإصلاح لا يمكن أن يصنعها الخارج مهما بلغت قوته وسطوته، كما تتوهم بعض الحسابات "المبادرات"، السياسية الداخلية والخارجية الخاطئة، كما أن التحولات الاجتماعية، لا تأتي من خارج المجتمع، وتفاعلاته -أي مجتمع- هي كائنة وكامنة فيه، وتنبثق من قلب بنية المجتمع، ومن الاستجابة الإيجابية، لتحديات الواقع السلبية.. أي تخرج من قلب المجتمع، حين تكون الضرورة للتغيير قائمة، وحاكمة بذلك.

واليمن كله اليوم شمالًا وجنوبًا، بحاجة ماسة للإصلاح والتغيير الديمقراطي، ومن هنا قولنا في مقالة سابقة إن شروط وملامح وعلائم الإصلاح والتغيير الديمقراطي قائمة، فقط استنهاض الشرط الذاتي "الثوري/ التنظيمي، الديمقراطي"، وإعادة تنظيمه لنفسه، بعد أن أصيبت النخب السياسية اليمنية بالعماء، إلا عن مصالحها الخاصة، وهنا يأتي دور الناس، الأغلبية الصامتة في المجتمع، وفي الأحزاب، وفي منظمات المجتمع، المدني، والنقابات العمالية والمهنية، لتشكيل "الكتلة التاريخية"، وإلى جانبهم ومعهم النخب والجماعات الفاعلة والمؤثرة في قلب العملية السياسية والاجتماعية، وإن كانت في صورة جماعات مبعثرة هنا وهناك، ويتم إقصاؤها وتهميشها، ولكنها تمتلك الشروط الذاتية للقيادة، لأنها بدون مصالح خاصة (صغيرة)، وهي مهمة جميع القوى والفاعليات الحية في السياسة وفي الفكر، والمجتمع، وفي قلب الأحزاب، بما فيهم البعض ممن يقفون ويقعون في قمة السلطة وفي قيادة الأحزاب، ذلك أن المرحلة السياسية الوطنية والديمقراطية "الانتقالية"، بحاجة للجميع بدون استثناء.

اقرأ أيضاً على النداء:

الحوثيون.. بين السياسي والأيديولوجي والعسكري (1-3)

الحوثيون.. بين السياسي والأيديولوجي والعسكري (2-3)