من حديث عبدالباري طاهر وإليه: شظايا ذاكرة

عبدالباري طاهر في مقابلة مع قناة بلقيس (فيديو)
عبدالباري طاهر في مقابلة مع قناة بلقيس (فيديو)

عام 1941 تقذف الولادة به دون اسم، وفي لحظة ودون اختيار يُسمى ويحمل اسمه مصيرًا.

في عدد من الحلقات المتلفزة على قناة بلقيس، يتحدث عبدالباري طاهر قليلًا حول حياته، وكثيرًا حول شظايا الذاكرة.

يجرنا عبدالباري طاهر معه، وهو يتحدث حول طفولته، إلى حيث ينتمي (تهامة الطبيعية)؛ حيث يتحدث حول حياته الأولى في قريته الصغيرة (المراوعة)، فيتذكر الأشجار والحقول والوادي وهو يجري ويلعب ويعدو (الجري والقفز)؛ فالطفولة الشاهد الوحيد على السعادة، والواحد وهو يتذكر لا يشتاق إلا إلى طفولته.

ما إن ندخل مرحلة الشباب حتى تنهال حيوية الرغبات، وتتقاطع مع الاسرة أو المجتمع، أو الدولة.

تتقاطع رغبة عبدالباري الشاب في اللعب والحصول على القليل من التعليم، مع رغبة الأب في أن يصبح الابن فقيهًا وعالمًا دينيًا؛ كي يحافظ على إرث الأسرة ومرتبتها الاجتماعية.

وفعلًا في سن السادسة عشرة يعدو عبدالباري طاهر كما زرنوقي نحو مكة، ليلتحق بسلك التعليم، كي يتكون ويصبح فقيهًا وعالمًا دينيًا؛ ولكن أجواء الحداثة العربية المعاصرة، وحدثها الكبير في التحرر والثورة على الاستعمار والاستبداد يوقظ روح الزرنوقي داخله؛ فالمتمرد الشاب يخيب أمل الأب والأسرة معًا في أن يصبح عالمًا دينيًا، ومع ذلك تطوي حيوية التمرد الخيبة، وتجعل من عبدالباري الشاب مثقفًا حداثيًا داخل ثقافته اليمنية العربية (الإنسانية).

 

الحداثة اليمنية حاضر ترجمة

الحداثة خائنة؛ فالحداثة حاضر نسيان ماضٍ لم نعد نتذكره... ومثقف الحداثة، بخاصة العربي، هو خائن مضاعف؛ إنه يعمل كمترجم، فالمترجم يخون اللغة الأصلية مرتين (لغة النص الأصلي، ولغة المترجم نفسه التي ينقل إليها النص).

أي أن المترجم والمثقف -بخاصة في حالة الثقافة العربية الحالية- كليهما في حالة انتماء مضاعف ومتواصل للذات.

لا غرابة إذن أن يلجأ "عبدالباري المثقف" إلى القراءة والكتابة معًا؛ قراءة النصوص المعاصرة سواء كانت عربية أو غير عربية، وقراءة النصوص العربية الكلاسيكية (القرآن والحديث وكتب الفقه واللغة والأدب والشعر)، فقد اكتشف مع قليل من المثقفين اليمنيين مبكرًا الحداثة وثقل حاضرها، وصعوبة الانتماء إليها.

وحتى يصبح للعرب اليمنيين ضرس في الحداثة، انخرط عبدالباري طاهر في مقاومة ثقافية وسياسية من أجل الحاضر، لا من أجل الماضي أو المستقبل؛ فالواحد يمكن أن يموت أكثر من مرة، لكنه يحيا مرة واحدة فقط. إنه حداثي ومثقف منسجم مع حاضره، حتى وهو ينتمي إلى الفكر الماركسي وأيديولوجياته، أو حتى وهو يشكل حزبًا، أو وهو ينتمي إلى الحزب الاشتراكي اليمني؛ فماركس هو ساحر الحداثة وساحر الجميع؛ بل ساحر العالم، فما بال الأيديولوجية الماركسية؟! إنها عاصفة الحداثة التي عصفت بجميع شعوب العالم، وليس بأوروبا فقط!

تكمن أهمية الحزب الاشتراكي اليمني ومن انتمى وينتمي إليه كعبدالباري طاهر، في المثال الحديث الذي أراد تمثله، وجعله واقعًا (الاشتراكية)، وفي العمل الثانوي الهام؛ جدارة ترجمته للحداثة؛ أي جدارة الانتماء لحاضر الحياة؛ في التحولات التي عمقت الوطنية اليمنية الحديثة؛ حيث الانتماء للوطن هو انتماء لصيرورة الحاضر (الوطن)؛ أي أن المواطنة اليمنية الحديثة هنا عبارة عن أصدقاء منفكين ومنفصلين عن سند ميتافيزيقا ماضيهم السياسي والديني، فالحاضر هو سند المواطنة اليمنية الحديثة لا "الآل": مصدر كل إمبريالية (إمبريالية السماء أو إمبريالية الأرض)، والتي قاومها المثقفون اليمنيون من النعمان حتى عبدالباري طاهر، وكذلك قاومها الحزب الاشتراكي اليمني.

من هنا، أي يمني، وإن ليس عضوًا منتميًا للحزب الاشتراكي اليمني، هو ينتمي لصيرورته الوطنية العليقة بالحياة والعصر؛ مما يفسر أيضًا لم أي يمني جزء منه هو "عبدالباري طاهر": هذا التهامي اليمني الآخر؛ من ينتمي إليه أي يمني.

في هذا السياق، الوحدة اليمنية ترجمة عاصفة للحداثة؛ قام بشقها الأكبر الحزب الاشتراكي اليمني مع المثقفين اليمنيين، إنها جسارة ترجمة للذات اليمنية الحديثة؛ فالحداثة والحياة ليست تكتيكًا سياسيًا، وكذلك الوحدة أو الانفصال. فالحزب الاشتراكي اليمني هو من بين جميع الأحزاب اليمنية الأقرب لسؤالي "من هو الانفصال؟"، و"من هو الوحدة؟"، فكلاهما انفصال؛ لأن الحداثة انفصال "لانهائي" للحاضر؛ والحزب الاشتراكي اليمني هو امتداد لانفصال حداثة متواصلة.

هنا، الوحدة أو الانفصال ليس ذنبًا أخلاقيًا أو دينيًا أو حتى خطأً سياسيًا؛ فكل وحدة عليقة بالحياة، كما كل انفصال هو ارتباط بالحياة، هذا شرط حيوي، وكل خطأ هو خطأ حيوي؛ أي من أجل الحياة؛ فأي وجود لإنسانية مندثرة أو حاضرة ليس إلا مجموعة أخطاء.

 

لكل أزمة أفق

يتطرق حديث عبدالباري طاهر حول ما يجري في المجتمعات العربية الحالية، وبالخصوص في اليمن، من صراعات واضطرابات؛ كمظهر من مظاهر أزمة فشل للحداثة السياسية العربية؛ حيث جوهر أزمة الدولة العربية الحديثة؛ في فشلها الرئيس في ترجمة مواطنة سياسية حديثة. ولهذا -هنا- الحرب في اليمن مظهر فشل؛ ليس خاصًا باليمن وحده، وإنما مظهر فشل مشروع حداثة طال مجموع الدول العربية ومجتمعاتها.

أزمة فشل مشروع الحداثة العربية لا تتطلب حربًا، وإنما تتطلب قراءة وإعادة نظر؛ حيث تصبح الأزمة هنا أزمة موجبة؛ تعيد المثقف إلى عمله كمثقف ينفذ إلى العصر من خلال نفس ثقافته الإنسانية، وكذلك تعيد السياسي إلى عمله في تمتين جسد مجتمعه.

بكلام آخر، من خلال حديث عبدالباري طاهر، ينبغي قراءة التراجعات ومظاهرها (الهووية ومظاهر التوبة المتفشية في المجتمعات العربية الإسلامية) وسياقاتها في نفس الوقت، والتعامل مع أزمة فشل مشروع الحداثة في المجتمعات العربية كأزمة موجبة، فلكل أزمة أفق؛ وهنا ينبغي العثور على أفق الإنسان في هذه التراجعات، فالتراجع نحو الذات ونحو النفس هو فرصة لاكتشاف ذاتنا وإنسانيتنا؛ أي فرصة لاكتشاف الإنسانية الأخرى التي داخلنا، والتي طالما همشناها ولم نهتم بها. هذا ما يمرره بسرعة ثنايا حديث عبدالباري طاهر المتلفز.

أما حالة التعصب "الهووي" و"الجماعوي"، والمتمثل سياسيًا بجماعات التدين السياسي في مجتمعات الدول العربية، فهو تعصب لروح أخلاق جماعة كف العالم عن سكنها؛ بما فيها جماعات الإسلام السياسي التي تدمر ما تبقى من قيمة معنى روح عظيمة ساكنة مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

لقد أضحت الجماعات السياسية الدينية في مجتمعاتنا أداة سياسية لإمبراطورية العولمة -تواطؤ في هدف متبادل تدمير الدولة- وهذه الأخيرة (إمبراطورية العولمة) لم تعد خاصة بأمريكا -وإن كانت موقع حركتها- دون الغرب، أو بالغرب دون الشرق، أو بالشمال دون الجنوب؛ لأن سياق العولمة سياق تكسير، وفجواتها اكتشاف لإنسانية ما؛ أي فرصة لاكتشاف إنسانيتنا؛ فما يتيحه "شر العولمة" هو اكتشاف أي نفس ثقافية لما لدى ذاتها من إنسانية (الشعر والموسيقى والأدب والفكر)، والذي فعله شاق علينا (نحن اليمنيين)؛ لذا ينبغي أن ننتبه حتى لا نصبح مجرد "ضحايا معتوهين" ليس لمطلق إنسانية ميت، بل لمطلق كونية أكثر بشاعة من مطلق إنسانيتنا.

يُظهر عبدالباري طاهر جسارة في عرض حداثته، وسرد الأحداث التي رافقتها كما هي. ومع ذلك ننتظر منه ومن المثقف اليمني قراءة تجذر فكر الحداثة وما بعد الحداثة في الثقافة اليمنية؛ ففكر الحداثة وما بعد الحداثة خاصة هو "فلسفة طب جراحي".

 

الحوار يتراجع والحديث يتقدم

يريد المحاور (الصحفي) الذي يتعامل بتقنية جمع معلومات تارة، ومحقق تارة -في المجمل قاضٍ- أن يجر عبدالباري طاهر إلى الحوار، وإلى الإدلاء بشهادة.

الحوار هنا إن لم يكن عنفًا، هو اختزال لحدث كحدث الحداثة اليمنية، أو كحدث وجود الحزب الاشتراكي اليمني أو الوحدة اليمنية؛ أو ما يجري من حرب على أرض اليمن؛ فالحدث ليس آنيًا، وليس قضية... فالحدث يفرض حديثًا لا حوارًا.

ومع ذلك، تفرض ندبة الوعي من طرف عبدالباري طاهر، الحديث لا الحوار؛ مرة أخرى اسم الآخر (الشاب الحيوي عبدالباري طاهر) هو من يتحدث؛ ولكن هذه المرة تتحدث الحياة عن ندبها (السجن، الاعتقال، الاختفاء، الظهور، المراقبة الأمنية).

ينطلق الحديث من ذاكرة عبدالباري طاهر، كشظايا، فالحدث ليس مهمًا بقدر شظايا ذاكرة الحدث.

عندما يتحدث عبدالباري طاهر، عن الصراعات السياسية اليمنية على السلطة؛ فهو يتحدث عنها كعته عقل سلطة مصدره عقل أخلاقي أو أيديولوجي أو ديني، وكذلك عندما يتحدث عن الاعتقال والاغتيال والعنف، فهو يشير إلى مصدرها (أخلاق منحطة).

يحذرنا عبدالباري طاهر كما "أدرنو" من الاستعانة بالأخلاق؛ لأنها تغدو وسيلة وكنوع من القمع والعنف، فلا شيء أشد انحطاطًا من الأخلاق أو الخُلق؛ فما إن تخلو الأفكار من حالة الوعي الإنساني وحالة قوى الإنتاج الاجتماعية، حتى تكتسب الأفكار الأخلاقية خصائص قمعية وعنيفة.