السيف والقلم.. اعتساف التاريخ لتبرير العنف وإزاحة الوعي

تواتر أحداث العنف في عديد بلدان عربية وإسلامية، لاتزال تكافح للوصول إلى نموذج الدولة الحديثة، أغرت الكثير للقيام باستحضار خاطئ لثنائية السيف والقلم، في محاولة مكشوفة لاعتساف التاريخ وتبرير العنف وتغليبه على الوعي والمعرفة.

تغليب السيف على القلم، مع ما يستبطنه من إعلاء للقوة على الحكمة، يستهدف تعزيز الاعتقاد الخاطئ للمستشرقين وربطهم المتكرر بين السيف والقلم في تفسير نشأة الدولة الإسلامية التي قامت بحد السيف، حد زعمهم.

منذ قرون سحيقة أشار ابن خلدون في كتابه الأشهر "المقدمة"، إلى ثنائية السيف والقلم، معتبرًا حاجة الدولة لأصحاب السيف والقوة في بداية نشوئها، تمامًا كحاجتها إليهم أواخر أيامها وضعفها لاسترداد مكانتها، لينحصر دور حملة الأقلام والمعرفة في التسيير البيروقراطي الإداري لشؤون الدولة.. وهو ما يبدو أن حركات العنف المسلح تسعى لتجسيده عمليًا، في تجاهل لكون مقولة ابن خلدون، تفسر كيفية نشوء الدولة القائمة على العصبية وغلبة السلطان على قوة الحق، وهو ما لم يتوافر في دولة الإسلام، حيث كان لقوة الحق الغلبة على قوة السلطان وسيفه، وحينما كان القلم سابقًا على السيف في كتاب سماوي يحث في باكورة آياته على القراءة وتحصيل العلم، ويقسم بهما المولى جل وعلا في آية أخرى: «نون والقلم وما يسطرون».. فيما لم يتم اللجوء للسيف إلا لصد العدوان أو تحرير الشعوب من الظلم ونشر الدعوة السماوية، وبعدها من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...

ومنذ نشأة الدولة الإسلامية، غالبًا ما امتزج اللجوء إلى السيف بكثير من الحكمة والعقلانية، فعندما أراد المسلمون دخول مكة المكرمة أمر الرسول الكريم قادة الجيش ألا يقطعوا شجرة، ولا يقاتلوا إلا من أراد قتالهم.. وكم كان مبلغ حزنه عليه الصلاة والسلام عظيمًا، حينما بلغه أن خالدًا بن الوليد قتل بعض أسرى المشركين، ليردد بغضب وألم شديدين: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد.. فالدولة التي أشعت بأنوارها على العالم بما زخرت من حركة معرفية وابتكارات علمية، ما كان لها أن تكون كذلك لو أنها أفرطت في استخدام السيف، وتغافلت عن العلم والعمل..

وفي آماد أكثر قدمًا أضحت دولة الفراعنة في مصر نبراسًا للعلم والمعرفة، والأمر ذاته في دولة اليونان القديمة؛ حيث كانت الغلبة فيهما للقلم لا للسيف، ولايزال العالم يدين بتقدمه الحضاري لتلكما الدولتين اللتين لم تشهدا نزعات توسعية، ضدًا على دولة مقدونيا التي مكنتها حروبها التوسعية من احتلال نصف العالم حينها، إلا أن غياب دورها المعرفي، جعلها تخبو ويأفل نجمها بالسرعة ذاتها التي ذوت بها الحياة القصيرة لإمبراطورها الأشهر الإسكندر الأكبر.

اجتزاء التاريخ والاستحضار الخاطئ له، ينبئ بازدياد حركات العنف في أكثر من بلد، بل يفسر نشوءها وغاياتها، فالعنف أداتها الأثيرة للوصول إلى مراميها في إسقاط الدولة، وخلق بديل سيكون حتمًا أكثر بؤسًا.. فيما الأنجح والأكثر حصافة لا يتأتى سوى باجتراح آليات سلمية عقلانية تضمن الانتقال إلى صيغة جديدة للدولة تلبي آمال مواطنيها، دونما ضرورة لاستدعاء سيف يهبط على الرقاب فينفي عنها الوجود بلا ذنب ولا جريرة.. لا سيما وأن الوطن يتسع لجميع أبنائه.. وأن الرأي قبل شجاعة الشجعان.