هل آن الأوان لعودة النشاط السياحي في اليمن؟

السياحة في اليمن - ثلاء عمران
السياحة في اليمن - ثلاء عمران (بعدسة عبالرحمن الغابري 1999)

نستطيع اليوم الحديث عن موضوع السياحة في اليمن بعد أن ظل مستبعدًا عن النقاش طيلة سنوات الحرب الثماني الماضية. ومما يشجعنا على ذلك بوادر عودة النشاط السياحي في بعض المناطق اليمنية، تزامنًا مع حالة الهدنة التي أبرمت منذ أبريل 2022، مع ما صاحبها من هدوء واستقرار أمني نسبي.

فبالإضافة إلى المبادرات العفوية التي ينهض بها المواطنون في سعيهم إلى التنفيس عن أنفسهم عبر زيارة مناطق مختلفة بغرض السياحة والاستجمام، ثمة أعمال منظمة تستهدف عودة السياحة في ظل حالة انكماش لأعمال العنف. ومن ذلك، على سبيل المثال، ما صرح به مسؤولون محليون في محافظة المهرة بخصوص جهود تبذل في سبيل تطوير البنية التحية من طرق ومنشآت ومرافق سياحية سعيًا إلى إعطاء "محمية حوف الطبيعية" مكانتها السياحية اللائقة، إلى جانب ترشيحها لقائمة اليونسكو العالمية.

ونحن نرى أن الحديث عن السياحة، في هذا التوقيت، ليس ترفًا من القول، ولا مضيعة للوقت على حساب الحاجات الأساسية للناس في هذا البلد الذي أنهكت الحرب اقتصاده، وعزلته عن العالم. فللسياحة الداخلية، مثلًا، أهمية سياسية تترتب عليها نتائج اقتصادية وثقافية؛ فعودة النشاط السياحي تقتضي تطبيعًا لحركة الأفراد والأسر، ولتنقلهم في مناطق غير مناطق سكنهم، بما يعنيه ذلك من سيادة لروح التفاهم والتعارف والتعايش وتبادل للمنافع والمصالح.

ومن ناحية أخرى، فإن التخطيط لعودة تدفق السياح من خارج البلد له مقتضياته ومتطلباته السياسية العملية. فهو يتطلب من الفرقاء السياسيين في البلد أن يتركوا ثاراتهم وخلافاتهم جانبًا، وأن يقدموا التنازلات حتى يعملوا بصورة تعاونية لما فيه الخير العام. وهذا يتطلب منهم التعاون من أجل تطوير خطط استراتيجية عملية تعيد للجمهور المستهدف من السياح الأجانب الثقة في هذا البلد، وأن سلطاته قادرة على حمايتهم، وعلى توفير الدعم اللازم لهم حتى يحققوا ما يصبون إليه من زيارتهم لهذا البلد.

 

تراكمات من الخسائر والصعوبات

شهد النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين والسنوات القليلة الأولى من القرن الحادي والعشرين، حركة سياحية مزدهرة في اليمن. كان منظر السياح الأجانب أمرًا طبيعيًا في مدن اليمن وفي مواقعها الطبيعية والتاريخية. وقد كان ذلك يعود على الاقتصاد الوطني بفوائد كبيرة، وفوق ذلك كان للتبادل الثقافي الإنساني بين اليمنيين ومن يفدون إليه من جنسيات وثقافات مختلفة أثر في تعزيز علاقات أبناء البلد مع غيرهم، بما من شأنه الإسهام في إذكاء روح الحوار والتسامح والثراء الثقافي.

المدمرة كول في اليمن
المدمرة كول في اليمن (نشرها الجيش الأمريكي)

غير أن الأمر بدأ يتغير مع بعض الأحداث الأمنية التي طرأت حينها، ومن ذلك اختطاف السواح واستخدامهم كرهائن في مقايضات القبائل مع الدولة، وكتفجير المدمرة الأمريكية يو إس إس كول في خليج عدن، عام 2000. وازدادت خسائر قطاع السياحة بصورة حادة بعد تفجيرات 11 سبتمبر في نيويورك 2001. ومع ذلك، فقد ظل البلد يستقبل مئات الآلاف من السياح، وحتى بعد أحداث العام  2011 وما أعقبها من اضطرابات، أشار تقرير رسمي صادر عن وزارة السياحة إلى أن عائدات اليمن من السياحة الدولية الوافدة قد ارتفعت خلال العام 2012 إلى 848 مليون دولار مقارنة بـ780 مليون دولار عام 2011، و أشار التقرير نفسه إلى أن  حجم السياحة الدولية الوافدة لليمن ارتفع إلى 874 ألفًا و425 سائحًا خلال العام 2012، مقارنة بـ 829 ألفًا و190 سائحًا خلال العام 2011، بزيادة قدرها 45 ألفًا و235 سائحًا. في حين بلغ إجمالي عدد الليالي السياحية للسياحة الدولية الوافدة خلال الفترة نفسها، 9 ملايين و485 ألفًا و976 ليلة سياحية.

ومع تطور الأحداث ووصول الصراع إلى ذروته أواخر العام 2014، بدأ النشاط السياحي في التقلص إلى أدنى المستويات. وأشارت تقارير إلى أن العمليات العسكرية في اليمن قد أدت إلى خسائر في قطاع السياحة تجاوزت 8 مليارات دولار منذ عام 2015. ومع توسع دوامة الحرب توقفت الكثير من الشركات السياحية عن العمل وسرّحت موظفيها لعدم قدرتها على الاستمرار في ظروف صعبة وحرجة أصابت هذا القطاع بالتعطيل التام نتيجة استمرار النزاع.

ويشير الأستاذ جعفر أبو بكر، وكيل وزارة السياحة لقطاع التنمية والاستثمار، في حوار أجريناه معه، إلى ما طال قطاع السياحة من "تدمير للبنية التحتية للسياحة، وبخاصة المنشآت السياحية في عدن المملوكة للدولة، أو للقطاع الخاص، وفقدان كثير من العاملين والموظفين وظائفهم".  ويردف أبو بكر بالقول: "نأمل من قيادة المجلس الرئاسي والحكومة أن تبدأ في إعادة بناء ما دمر في الحرب الأخيرة من منشآت الدولة، وبخاصة فندق عدن، وفندق جولد مور، وفندق القصر؛ وأن تعمل على زيادة الموازنات التشغيلية للوزارة ومكاتب الوزارة في المحافظات؛ فموازنة الوزارة ومكاتبها في المحافظات لا تفي بالحد الأدنى للنهوض بمهام ونشاط السياحة. كما نأمل أن يعاد إنشاء مبنى وزارة السياحة المدمر بمحافظة عدن، فنحن نباشر عملنا من شقة، ونواجه تحديات كبيرة".

وفي لقاء لنا معه، أكد الخبير الاقتصادي مصطفى نصر "أن السياحة هي أولوية لأي بلد، كونها أداة مهمة من أدوات التنمية. واليمن غني بتنوعه وأماكنه المختلفة، لكن للأسف الشديد لم تتم الاستفادة من إمكانيات البلد السياحية حتى الآن. ولذلك فلا بد من تنشيط السياحة ولو بالحد الأدنى من الإمكانيات في المناطق الهادئة والمستقرة، كخطوة أولى مهمة، ورد فعل إيجابي يعمل على تقليص التداعيات السلبية للحرب".

وإذا ما ألقينا نظرة على وضع السياحة الداخلية، نجد أنها تواجه صعوبات اقتصادية وأمنية هائلة. اليوم، في الغالب، يحتاج المواطنون الراغبون في السفر بين المحافظات الرئيسية، كصنعاء وتعز والحديدة وحضرموت وعدن، إلى قطع مسافات أطول، وساعات أكثر، في طرق بديلة تتسم بالوعورة. وعلى سبيل المثال، فإن المسافرين بين صنعاء والمكلا عبر طريق بديل يحتاجون الآن إلى قضاء أكثر من 20 ساعة، وربما 30 ساعة، وهم في حالة سفر، بعد أن كان السفر عبر الطريق الرئيسي يأخذ منهم نحو 10 ساعات يقطعون فيها المسافة بين المدينتين التي تبلغ نحو 800 كيلومتر.

ويزيد من تعقيد السفر نقاط التفتيش المنتشرة على الطرق، والتي ينتمي القائمون عليها إلى أطراف مختلفة. وقد يتعرض المسافرون في بعضها لمعاملات غير لائقة قد تصل إلى حد انتهاك حقوقهم الإنسانية الأساسية. هذا؛ ناهيك عن وجود طبعتين مختلفتين من العملة اليمنية تبعًا لانقسام السلطة بين صنعاء وعدن. ويعاني المواطنون المتنقلون، فوق ارتفاع أسعار الخدمات والسلع، من الفرق الهائل في قيمة العملة ما بين صنعاء وما يتبعها من مناطق وعدن وما يتبعها من مناطق، ومن عدم قبول الطبعة الجديدة في مناطق سيطرة الحوثيين في الشمال.

 

مواطنون يقتنصون الفرص السياحية

لا يكاد موضوع السياحة يذكر سواء في أحاديث الناس العامة أو في كتابات وخطابات النخب اليمنية، فالقضايا الملحة المتعلقة بالحاجات الأساسية للإنسان في بلد مزقته الحرب وأرهقت اقتصاده، هي ما يشغل الجميع. ولكن، على الرغم من ذلك، فإننا نلاحظ أن كثيرين من اليمنيين يحرصون على اقتناص الفرص السياحية التي تتيسر لهم حتى يخففوا عن أنفسهم الأعباء النفسية. فبعد الانقسام الذي شهدته البلاد وتغير طرق العبور فيها، وانتقال مركز الخدمات الحكومية من صنعاء إلى عدن، وإغلاق مطار صنعاء ومطارات بعض المحافظات الأخرى، أصبحنا نشاهد المواطنين وهم يتنقلون بحثًا عن تلك الخدمات، ولكنهم يمارسون السياحة الداخلية في المناطق الجديدة عليهم. وقد يتخذ البعض الآخر من التجارة أو من رحلات الاستطباب والنقاهة وسيلة إلى السياحة في أجزاء مختلفة من البلد أو خارج البلد.

حتى العام 2014 كان المواطنون في محافظات الشمال (كصنعاء وذمار) يقضون إجازات أعياد الفطر والأضحى وعطل الدراسة في المدن الساحلية، وبخاصة الحديدة وعدن. غير أن هذه السياحة العيدية أو سياحة العطل قد أصبحت شبه متوقفة منذ اندلاع الحرب، بسبب صعوبة التنقل ومخاطره، وارتفاع أسعار الخدمات والسلع. واليوم يكاد هذا النوع من السياحة أن يكون حكرًا على العائلات الثرية التي يمكنها تحمل التكاليف الباهظة للذهاب في سياحة عيدية إلى بعض أجزاء ساحل البحر الأحمر، أو الاستمتاع بأيام قليلة في بعض المناطق الخضراء في محافظة إب وغيرها من الأماكن الجبلية الجاذبة.

وعوضًا عن السفر إلى مناطق بعيدة، أصبح بعض سكان المناطق الشمالية يخرجون في أوقات العطل العيدية أو أثناء مناسبات الزواج، إلى ضواحي المدن لقضاء أوقات ممتعة مع أسرهم بالقرب من ينابيع الجبال أو السدود، أو الشلالات، أو في الحمامات الطبيعية. ويشير الكاتب لطف الصراري، في مقالة له عن سياحة العيد في مناطق الشمال اليمني، إلى وجود "قرابة عشرة سدود في محيط العاصمة صنعاء، تتدفق نحوها مئات السيارات يوميًا خلال إجازتي العيدين، منها "شلال وسدّ بني مطر" (70 كلم غربًا)، و"سدّ شاحِك" (25 كلم شرقًا)، و"سد سيّان" (20 كلم جنوب شرق)، والسدود هي الوجهة الأولى للسياحة الداخلية في معظم المحافظات الشمالية".

وفي تعز التي يقيد الحصار حركة سكانها، نجد أن بعض الأسر في مدينة تعز تستعيض عن الذهاب إلى مدن أخرى أو إلى المناطق الساحلية، بالذهاب إلى مواقع جاذبة في مدينة تعز نفسها، مثل قلعة القاهرة، أو إلى مناطق ريف تعز؛ ولا سيما منتجع السكون الذي يعد بحق متنفسًا سياحيًا مناسبًا لطبقات مختلفة من أبناء المحافظة.

وهذه كلها أنشطة سياحية عفوية يمارسها المواطنون بحسب ما تتيحه لهم الظروف، وهي تعبر عن حبهم للحياة ولعودة السلام والاستقرار. لكن ثمة واجبات ينبغي على الجهات الرسمية وسلطات الأمر الواقع في المناطق اليمنية المختلفة، أن تضطلع بها. ونشير إلى بعضها في الأسطر التالية.

 

ما الذي ينبغي فعله؟

على الجهات الرسمية وسلطات الأمر الواقع في المناطق اليمنية المختلفة، أن تتحمل مسؤوليتها، وتعمل من أجل عودة النشاط السياحي إلى المناطق المختلفة في اليمن، وذلك من خلال:

  • تطوير استراتيجية عمل جديدة، مدروسة بعناية، تقوم على ركيزتين؛ أولًا: تطبيق خطة أمنية تعاونية صارمة يكون من شأنها تأمين ممرات وخدمات السواح في مناطق اليمن المختلفة، ثانيًا: التعاون والتنسيق بين الأطراف المتنازعة على اعتماد خطاب جديد محايد عن يمن ما بعد الصراع؛ وتكون غايته إعادة تقديم اليمن إعلاميًا، وإزالة الصور النمطية التي ألصقت به خلال فترة الحرب.
  • فتح مناطق آمنة للسياحة في محافظات سقطرى والمهرة للإسهام في تطبيع الأمور وإحلال حالة سلام تدريجي، وإنعاش السياحة الداخلية. ولعل تلك هي الفرصة الوحيدة للتعويض، ولو بصورة بسيطة، عن السياحة الوافدة التي مازالت متوقفة.
  • تحفيز المستثمرين للقيام بالاستثمارات السياحية من خلال تقديم حزمة من الإعفاءات الجمركية والضريبية لمدة محددة.
  • تطوير استراتيجية ترويجية جديدة تأخذ بعين اعتبار تصميم وسائط ترويج إلكترونية يكون من شأن محتواها التفاعلي لفت انتباه المتلقي خارج البلد إلى وجود إمكانات سياحية مميزة وغير تقليدية.
  • فإلى جانب الترويج للمدن اليمنية ذات المعمار والثقافة العريقة (خصوصًا صنعاء، وشبام حضرموت، وزبيد: وهي كلها مدرجة ضمن قائمة اليونسكو)، ينبغي التركيز على آفاق جديدة وغير تقليدية للسياحة في اليمن؛ ومن ذلك سياحة المغامرات (لدى جغرافيا اليمن إمكانيات هائلة لممارسة سياحة تسلق الجبال الشاهقة، وركوب أمواج البحر، وارتياد الصحارى)، والسياحة الخضراء أو السياحة البيئية (ولا يقتصر الأمر، هنا، على سقطرى اللؤلؤة البيئية النفيسة؛ بل يتعدى ذلك إلى غيرها من المواقع كسواحل اليمن الفيروزية بشعبها المرجانية، وقراها المعلقة، وحياتها الريفية النظيفة بيئيًا وغير ذلك)، أو السياحة الدينية (مزارات الأنبياء والأولياء في حضرموت وزبيد وغيرهما، ومزارات أئمة بعض الطوائف كالبهرة الإسماعيلية في حراز وجبلة، وغير ذلك)، أو سياحة الاستجمام والعلاج؛ ففي اليمن العديد من العيون والينابيع المعدنية والكبريتية الحارة والباردة التي يتركز معظمها في المرتفعات البركانية لغرب اليمن، كمنطقة "دمت" التي تعد منطقة سياحة علاجية نظرًا لوفرة المياه المعدنية العلاجية فيها.
  • الترويج للثقافة المضيافة عند اليمنيين؛ وهو الأمر الذي من شأنه أن يكون عامل جذب للسياحة العائلية.
  • على وزارة السياحة الإسراع في إصدار الدليل السياحي، وكذلك في ترجمة بعض الأعمال عن المواقع السياحية في اليمن من العربية إلى الإنجليزية، ومن أهمها "موسوعة السياحة اليمنية" التي أصدرها مجلس الترويج السياحي في وزارة السياحة خلال العام 2010. وهي موسوعة مهمة تحوي معلومات يحتاجها أي سائح عن كل المقاصد السياحية في كل محافظات اليمن، وتتميز بإخراجها الجيد والأنيق في مجلدين مزودين بصور عن تلك المواقع والمقاصد السياحية.

 


إصلاح صالح: صحفية ومعيدة في كلية الإعلام بجامعة عدن. تدور مقالاتها ومداخلاتها حول التنمية الاجتماعية والثقافية في اليمن. حصلت، عام 2020، على جائزة أفضل تغطية صحفية لكوفيد 19 عن محافظة عدن؛ المقدمة من الوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام (CFI)، وعلى جائزة السكان والتنمية للعام 2020 المقدمة من صندوق الأمم المتحدة للسكان، كأفضل قصة صحفية قائمة على النوع الاجتماعي.