الانتفاضات العربية من رؤية جندرية

الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] دراسة  أ. د. إلهام مانع[2]


شاركت الباحثة بهذه الورقة  في الندوة الفكرية التي نظمتها المؤسسة المغاربية الألمانية للثقافة والإعلام (مقرها بون بألمانيا) بتاريخ 29 مايو أيار 2021، وذلك في إطار استشراف مستقبل العالم العربي بعد مرور 10 سنوات على "الربيع العربي" وتداعيات أزمة كوفيد 19. وقد نشرت في كتاب جماعي عام 2022 بعنوان " الربيع العربي والتغيير : وسؤال المستقبل".

مع موجات الانتفاضات العربية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعددت النتائج من وجهة نظر جندرية.

في البداية، وباستثناء تونس، كان النمط السائد في المراحل الانتقالية هو تهميش المرأة بصورة متكررة، أو التعرض لردة فعل مضادة. تَمثل ذلك في استبعادها من عملية صنع القرار، وفي الأماكن القليلة التي شاركت فيها، كانت الأحزاب الإسلامية مهيمنة على الخطاب السائد، وهو ما انعكس على هجوم مباشر على مفاهيم المساواة المنصوص عليها في اتفاقيات الأمم المتحدة الدولية.

كانت النساء أيضا هدفا للعنف المنهجي في الدول العربية، سواء من أجهزة الدولة الأمنية، أو من الحركات الأصولية. كل هذا هدد بالقضاء على المكاسب التي حققتها المرأة على مدى العقود الأخيرة. ومع ذلك، وكما ستجادل هذه الورقة، فإن هذا النوع من رد الفعل العكسي ليس جديدا. بل يعكس نمطاً تاريخياً في مشاركة المرأة في الثورات والانتفاضات في المعمورة.

التحليل الآتي يعتمد على اربع ملاحظات، الأولى تتحدث عن نمط عام في مشاركة المرأة في الثورات والانتفاضات، وطبيعة مشاركتها ، ثم أنماط الإقصاء التي تعرضت لها في المراحل الانتقالية؛ والثانية عن خصائص الدولة العربية وانعكاسها على سياساتها نحو المرأة؛ والثالثة تتعلق بواقع المرأة في مناطق الحروب والأزمات في الدول التي انهارت بعد الانتفاضات العربية؛ والرابعة تشير إلى تحولات اجتماعية جارية تظهر أن  التغييرات والأدوار الجديدة للمرأة التي عايشتها في المنطقة في العقد السابق، قد تركت بصماتها في الوعي النسوي.

-----

هناك أربع ملاحظات يمكن طرحها عند محاولة تحليل الانتفاضات العربية من رؤية جندرية.

الملاحظة الأولى، المشاركة الفعالة للمرأة في الانتفاضات العربية لا تعني تحقيق مكاسب نوعية للمرأة على المدى القصير.[3]

فالأمثلة التاريخية تُظهر أن التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أحدثتها الثورات أو الحروب في مناطق مختلفة من العالم قد أتاحت للمرأة فرصًا فريدة للتغيير.

فغالبًا ما يحدث خلخلة في هياكل القيم الاجتماعية التقليدية التي اضطهدت النساء تاريخيا، أضعافها أو حتى الإطاحة بها بسبب هذه الثورات. في هذه اللحظات التاريخية تتولى المرأة أدوارا مجتمعية غير تقليدية وتكسر قيوداً كانت سائدة في فترات ما قبل الثورات أو الحروب.

ومع ذلك، فإن مثل هذا النجاح قد يكون سريع الزوال.

فالعودة إلى الحياة الطبيعية في فترات ما بعد الثورات أو الحروب غالبا ما يصاحبها عودة إلى نفس أنماط العلاقات بين الجنسين التي كانت سائدة من قبل – مقيدة بالتقاليد والدين وامتيازات الرجل. مع ذلك، تترك هذه التغييرات والأدوار الجديدة للمرأة أثارها بشكل جذري في الوعي النسوي.

فرؤية المرأة لنفسها، لمقدراتها ولدورها، تتبدل لتعكس وعياً بقوتها وتمكينها.

وهو ما يمهد لتغييرات مجتمعية على المدى البعيد.

هذا النمط العام ليس جديدًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فعبر التاريخ، لعبت المرأة العربية دورًا أساسيًا في حركات الاستقلال والنضال ضد الاستعمار، وتحدت الصور النمطية الاجتماعية والقيود التقليدية. ومع ذلك، ففي اللحظة التي يبدأ فيها الوضع في الاستقرار، كانت الأعراف الاجتماعية القديمة والمفاهيم التقليدية لأدوار المرأة تعود من جديد لتفرض نفسها من جديد.

على سبيل المثال، خلال ثورة 1919 في مصر من أجل الاستقلال، كان للمرأة المصرية دوراً فاعلا في التنسيق والمشاركة في التظاهرات العامة ضد الاستعمار البريطاني، وفي مقاطعة البضائع البريطانية، ورغم ذلك، وبمجرد أن أبدت بريطانيا استعدادها للتفاوض، تجاهلت قيادة حزب الوفد مطالب المرأة المصرية في حق التصويت، وصمت دستور 1923 عن الحقوق السياسية للمرأة.

بنفس النسق، خلال فترة احتلال العراق للكويت بين 1990 و 1991، لعبت المرأة الكويتية دوراً فاعلا وأساسيا ضد الاحتلال العراقي، في تهريب الأسلحة، في توزيع المنشورات، في التوعية للحماية من الحرب الكيماوية، في العصيان المدني، وفي العمل ضمن فرق البيئة لمواجهة أثار حرق الآبار النفطية.

وكانت القناعة السائدة لدى القيادات النسائية أن العودة إلى الحياة السياسية بعد الاحتلال ستشمل "طبعاً" حصول المرأة على حقوقها السياسية وتحديداً حق التصويت، الذي حرمت منه على مدى عقود.

لكن تلك الآمال تبددت بعد إنهاء الاحتلال العراقي.

او على حد تعبير القيادية النسوية  الكويتية، فاطمة العبدلي، في حوار أجرته الباحثة معها في 2008:

كنا نعتقد ان ما حدث أظهر معنى المواطنة الكاملة، وأننا سننال حقوقنا فور التحرير، وظللنا صامتات بعد ذلك خلال فترة إعادة بناء الكويت. كنا نظن أن القيادة السياسية ستمنحنا بالتأكيد حقوقنا. لكن عندما بدأوا التحضير لانتخابات عام 1992، أدركنا أن قضية المرأة ليست أولوية. قالوا لا. يكفي. لقد قمت بواجبك. الآن أبق في المنزل. كانت هذه هي اللحظة التي جعلتنا نقرر الانخراط في النضال السياسي لنيل حقوقنا.

 

لم يختلف الأمر في الموجة الأولى من الانتفاضات العربية التي بدأت عام 2010.

فالنساء كن مشاركات فاعلات في تلك الأحداث، ووقفن جنباً إلى جنب مع الرجال في مطالبهن بالتغيير. وخرجن معهم في التظاهرات الشعبية العارمة. لكن تلك المشاركة تبعتها محاولات إقصاء من القرار السياسي في المراحل الانتقالية وردود فعل عكسية، إضافة إلى محاولات ترهيب الناشطات والمتظاهرات بإستخدام سلاح العنف الجنسي.

بصفة عامة، يمكن القول أن هناك سمتان رئيسيتان لهذه المشاركة في هذه المرحلة:

السمة الأولى، أن السياق المحلي للدولة المعنية والواقع المجتمعي للمرأة فيها حدد طبيعة مشاركة المرأة في الانتفاضات. فعلى سبيل مشاركتها في تونس تختلف عنها في اليمن. في تونس، وهي دولة ذات تقاليد علمانية، وقانون عائلي تقدمي، ونسبة عالية من التعليم، كانت المرأة حاضرة وبقوة منذ بداية ثورة الياسمين في ديسمبر 2010، كما شاركت في التخطيط لها والتظاهر فيها. تحدثنا البروفسورة آمال قرامي، الأستاذة في النوع الاجتماعي والدراسات الإسلامية، والرائدة في مجال حقوق المرأة، في استبيان قامت به الباحثة من اجل ورقة بحثية نشرت عام 2014، أن المرأة في تونس، شاركت في اكثر من جانب خلال هذه التظاهرات، منها على سبيل المثال:

التعبئة عبر فايسبوك، المشاركة في الاجتماعات داخل الجامعات والنقابات والمؤسسات والأحزاب، النزول إلى الشارع للتظاهر، التنسيق مع مختلف المنظمات، إيواء الجرحى والهاربين من ملاحقة الشرطة، التوثيق للإحداث عبر أخذ الصور أو تسجيل الفيديو، التعليق على صفحات الفايسبوك، المشاركة في البرامج التلفزية لإبداء الرأي فيما حصل، ثمّ المشاركة في حماية الأحياء في بعض المناطق ومساعدة الجيش بتقديم الأكل.

 

في المقابل، في اليمن، تركت الطبيعة المحافظة للمجتمع  اليمني بصمتها على مشاركة المرأة. فاليمن تعتبر من أقل البلدان نمواً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهي لا زالت تحتل المرتبة الأخيرة في المنطقة وفي الترتيب العالمي على المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين، الذي يضم 135 دولة. وعلى الرغم من حيوية المجتمع المدني، الذي تسيطر على شريحة واسعة منه ناشطات يمنيات معروفات وقديرات، فإن النساء المشاركات في المجال العام يواجهن دائمًا عراقيل وصعوبات. وكما كتبت الدكتورة نادية السقاف، التي تولت منصب وزيرة الإعلام بعد تنحي الرئيس على عبدالله صالح عام 2012، في مقال لها:

»مباشرة قبل بدء الحراك الربيعي في اليمن، لم ُيسمع عن النساء - خاصةً اللائي ينتمين إلى خلفيات محافظة - أن يتم تصويرهن من قبل الغرباء ، ناهيك عن النزول إلى الشوارع للاحتجاج «.

وبالفعل استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تصبح مشاركة المرأة في التظاهرات اليمنية ممكنة. فالكثيرات كان عليهن أولا تحدي الأعراف المحافظة الصارمة للخروج من البيت أولا قبل أن يتمكن من الذهاب إلى الساحات للاعتصام.  وكما أوضحت لي إحدى المتظاهرات في ساحة التغيير بصنعاء في شباط/فبراير 2011،  "بدأنا بامرأتين" في اعتصام ساحة التغيير ، والآن نحن بالآلاف".

السمة الثانية لمشاركة المرأة في الانتفاضات العربية تتعلق بأجندة المشارِكات فيها.  فعندما شاركت النساء بالفعل خلال المرحلة الأولى من الانتفاضات، فعلن ذلك دون أي أجندة خاصة بالنوع الاجتماعي.

ومن جديد شكل سياق كل بلد نوعية المطالب التي عبر عنها المتظاهرون والمتظاهرات. على سبيل المثال، في مصر وتونس، وهما دولتان لهما تاريخ طويل في بناء الدولة، وهوية وطنية قوية، تركزت المطالب في قضايا العدالة الاجتماعية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وإنهاء نظام الدولة البوليسية القامعة للحريات. في ليبيا و البحرين وسوريا واليمن، وبالرغم من أن المطالب  تركزت في البداية على جوانب اقتصاديه، تحولت إلى دعوة للإطاحة بالحاكمين في تلك البلدان، إلى أن تلك المطالب سرعان ما تقاطعت مع الوقت مع الهويات الإثنية للمتظاهرين والمتظاهرات، لتتبدى ملامح الانقسام على أسس مناطقية، قبلية و/أو طائفية.

بغض النظر عن السياق، في هذه المرحلة، لم تكن المتظاهرات من النساء معنيات بمطالب خاصة بالنوع الاجتماعي. أي مطالب جندرية.

ظهرت هذه المطالب فيما بعد، عندما بدأ نمط الإقصاء في تكرار نفسه.

أنماط الأقصاء

تعرضت النساء إلى أعمال عنف جنسية (اغتصاب وتحرش جنسي).

كان استهداف الأجهزة الأمنية وبلطجيتها في عدة دول للنساء منهجيا متعمدا، لإبعادهن عن الساحات.  تماماً كما استخدمت بعض الأنظمة، كنظام القذافي، والنظام السوري، الاغتصاب كأداة حرب لترويع من يعارضها، رجالاً أو نِساءاً.

علاوة على ذلك، حاولت بعض الجماعات الإسلامية فرض تفسيرها المتطرف للإسلام على الناشطات وحياتهن، من خلال الاستفادة من انهيار القانون والنظام، أو الموافقة الضمنية للأنظمة الإسلامية القائمة، أو بالانضمام إلى النظام الانتقالي الجديد. وفي بعض الدول، أدت سيطرة بعض هذه الجماعات على مقاليد الحكم في بعض المناطق إلى فرض قيودها الخانقة على النساء.

وفي كل الأحوال، تم ارتكاب أعمال العنف الجنسية في سياق مجتمعي أوسع يتسم بالعنف المتزايد ضد المرأة. وكان العنف الجنسي المرتكب ضد الناشطات في ميدان التحرير في مصر في عامي 2012 و 2013 شهادة على هذا السياق المجتمعي الأكبر.

بالإضافة إلى ذلك، تكرر نمط الإقصاء ذاته. فالمرأة كانت فاعلة ومؤثرة في التظاهرات والانتفاضات، ليتم استبعادها مؤسسياً وسياسياً من مراكز صنع القرار في المراحل الانتقالية.

وباستثناء تونس، التي تمكنت فيها الحركة النسوية في إدخال نص في قانون الانتخابات الجديد يقضي بالمساواة في القوائم الانتخابية، تكرر نفس النمط التاريخي - للمشاركة متبوعًا بالإقصاء المؤسسي - إلى حد كبير في البلدان أخرى.

ففي مصر على سبيل المثال، لم يتم تعيين امرأة واحدة في لجنة مراجعة الدستور أو لجنة الاستشارات المدنية، التي أطلق عليها أسم "مجلس الحكماء". كما ألغى المجلس الأعلى للقوات المسلحة حصة 10 في المائة للمرأة في البرلمان كانت قد أدخلت في عهد مبارك. وظهرت النتيجة على الفور خلال الانتخابات البرلمانية في نهاية عام 2011: لم يكن للنساء سوى 2 في المائة من المقاعد في البرلمان الجديد. ومن بين 100 عضو في الجمعية التأسيسية، التي تم تكليفها بمهمة صياغة دستور جديد، كانت المرأة ممثلة بسبع مقاعد، خمسة منهن عضوات في الأحزاب الإسلامية، اللواتي عبرن عن مواقف محافظة تتعارض مع مفاهيم المساواة بين الجنسين.

الملاحظة الثانية، أن الإطاحة برؤساء الدول لا تعني بالضرورة نهاية لأنظمتهم أو، وهو ما يعنينا هنا، لنمطهم السياسي تجاه حقوق المرأة.[4]

 

وفقا لمؤلف لكاتبة هذه السطور، الدولة العربية وحقوق المرأة، فخ الدولة المستبدة، الذي نشرته دار روتليدج الأكاديمية عام 2011، فإن الدولة العربية ليست ليبرالية ولا أبوية في الطريقة التي تنتهج بها سياساتها الجندرية. بل هي انتهازية، تتصرف بطريقة ميكا فيلية. فكل ما يصب في مصلحة بقاءها تقوم به، وهذا قد ينعكس بالسلب أو الإيجاب على واقع المرأة والسياسيات المتعلقة بها.

هذا النمط يرتبط جوهراً بخصائص ثلاث للدولة العربية: فقدانها للشرعية، بناء السلطة التقليدي فيها وسياسات البقاء.

فبسبب فقدانها للشرعية، انخرطت النخب الحاكمة العربية باستمرار في نمط سياسات البقاء. أي التحالفات الآنية التي تعقدها النخب الحاكمة مع مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية لضمان سيطرتها على السلطة والبقاء في بيئة إقليمية معادية.

تستخدم النخب الحاكمة إستراتيجيتين من أجل البقاء. أولا، غالبًا ما تعقد تلك النخب تحالفاتها مع أطراف وجماعات سياسية واجتماعية فاعلة داخل الدائرة الأوسع لقاعدة بناء السلطة التقليدية. والهدف هنا محدد، إضعاف الجماعات السياسية المتنافسة التي تهدد سلطتها. وهذه التحالفات بطبيعتها سريعة الزوال - فهي تتغير مع رمال السياسة المتحركة.

الاستراتيجية الثانية، تلعب النخب السياسية على الورقة الإسلامية الأصولية، مستغلة ظاهرة الإسلام السياسي. فنجدها تؤيد جماعات إسلامية معينة دون غيرها، وتعقد معها تحالفات سياسية. الهدف الرئيسي من هذه الاستراتيجية سياسي: توظيف  دعم هذه الجماعات الإسلامية كوسيلة لإضفاء الشرعية على حكم هذه النخب بالمعنى الديني و/ ونزع شرعية منافسيهم.

هذه الاستراتيجيات لها تداعيات من منظور النوع الاجتماعي. فغالبًا ما كانت الحقوق والسياسات المتعلقة بالمرأة رهينة لهذه الصفقات السياسية للنخب السياسية. ولأن الحركات الإسلامية لها مواقف سلبية واضحة من حقوق المرأة المتساوية وفقاً للمعايير الدولية، فإن الخاسر عادة من هذه المساومات والتحالفات، عادة ما تكون المرأة.

هذا النمط السياسي لحقوق المرأة لازال قائما في عدد من الدول العربية، وإن كان الدور الفاعل للمجتمع المدني، ومطالب الحركات النسوية أصبحت تلعب دوراً هاماً في مواجهته.

الملاحظة الثالثة تتعلق بواقع المرأة في مناطق الحروب والأزمات في الدول التي انهارت بعد الانتفاضات العربية.

واقع الحروب والأزمات والعسكرة المتزايدة في تلك الدول، وكياناتها المبعثرة، تؤثر على المرأة بشكل خطير وغير متناسب. العديد من الدراسات أظهرت زيادة نسبة العنف القائم على النوع الاجتماعي في المجالين العام والخاص (في البيوت وداخل الأسر). وهو ما يتماشى مع تجارب النساء في مناطق النزاعات عالميا. فالعنف المنزلي (العاطفي اللفظي والجسدي)، والاختطاف، الاغتصاب، التحرش الجنسي في الأماكن العامة، والزواج المبكر، والتهديدات الجنسية، كل هذه ظواهر تعاني منها المرأة في دول كاليمن، سوريا وليبيا.  وتواجه الناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان ترهيباً مستمرا، لاسيما وسط تقلص مساحة المجتمع المدني، وعسكرة سلطات الأمر الواقع في المناطق التي يعشن فيها. تماماً كما أن تصاعد الخطاب الديني الأصولي المتطرف وزيادة تأثير الفاعلين الإسلاميين الأصوليين ترك أثره المباشر على حياة النساء ومساحات الحرية المتاحة لهن.

رغم ذلك، هناك مفارقة تظهرها بعض دراسات النوع في مناطق الأزمات، [5] وأكدتها مجموعة من الحوارات التي أجرتها كاتبة هذه السطور مجموعة من الناشطات اليمنيات في الفترة بين ديسمبر 2020 ويناير 2021 للإعداد لبحث  بعنوان النوع الاجتماعي في تقاسم السلطة بعد الحرب وترتيبات الحوكمة وبناء مؤسسات الدولة.

واقع الحروب والأزمات يدفع المرأة إلى تولى أدوراً غير تقليدية، في ظل غياب الرجال والأبناء، ويصبحن أكثر نشاطاً اقتصاديا عما كن عليه من قبل. كما تلعب النساء دوراً أساسيا في تقديم استجابة إنسانية محلية والحفاظ على الخدمات والهياكل المجتمعي، حتى في ظل التهديد المباشر لسلامتهن، والموارد المحدودة المتاحة لهن.

وفي الوقت الذي قد تلعب فيه بعض النساء دوراً مباشراً كمشاركات في النزاع، كالدور الذي تقوم به ما يسمى بفرقة الزينبيات في المناطق التي تسيطر عليها المليشيات الحوثية، تلعب نساء أخريات دوراً مهما في بناء السلام في المناطق المحلية للأزمات.

ورغم أهمية هذا الدور، فنادراً ما يتم تمثيل المرأة في عمليات السلام او المفاوضات الخاصة بترتيبات الحوكمة وبناء مؤسسات الدولة.

الملاحظة الرابعة والأخيرة، وبالرغم من كل ما سبق، يمكن القول أن هذه التغييرات والأدوار الجديدة للمرأة التي عايشتها ا في المنطقة في العقد السابق، قد تركت بصماتها في الوعي النسوي. فرؤية المرأة لنفسها، لمقدراتها ولدورها، تتبدل لتعكس وعياً بقوتها وتمكينها. وهو ما يمهد لتغييرات مجتمعية على المدى البعيد.

التاريخ نادراً ما يعيد نفسه. نعم، النمط تكرر، أعقب المشاركة رد فعل مجتمعي عكسي، ومحاولات للإقصاء المؤسسي. ولكن كل هذا لم يؤد إلى عودة الناشطات إلى بيوتهن. لقد حدث العكس في الواقع.  بدأت ملامح لتغيير مجتمعي في المواقف والأعراف في الظهور، مع تطور لوعي جندري جديد: يتحدى ًالأعراف الاجتماعية الراسخة" في الأمور المتعلقة بالسلوك الاجتماعي والعلاقات بين الجنسين.

فمع تصاعد ردة الفعل المحافظ والعنف الذي يستهدف النساء، جاءت ردة الفعل سريعة من الناشطات في التنسيق من أجل التمثيل المؤسسي وهناك امثله يمكن الإشارة إليها خلال النقاش. إضافة إلى حملات توعية كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورها الهام في بث مطالبهن من منظور العدالة والمساواة بين الجنسين.  من الأمثلة على ذلك حملة "من أجل انتفاضة المرأة العربية"، والتي عبرت عن مظالم النوع الاجتماعي من مشاركين ومشاركات فن جميع أنحاء منطقة الشرق الأوس وشمال إفريقيا.

نراها اليوم أيضا واضحة في حملات حقوقية ضد التحرش، وما يسمى جرائم الشرف، في حملات حقوقية تدافع عن حقوق المواطنين والمواطنات السود، والمثليين والمثليات، والمطالبة بالزواج المدني، وفي كتابات تكسر التابوهات المتعلقة بالجنس والدين، وفي حملات تتجاوز الإطار الليبرالي للحقوق المدنية، لتتجاوزها إلى الحقوق الاقتصادية للنساء في الريف والمهمشات في المجتمع.

التاريخ نادراً ما يعيد نفسه. والحقوق ليست هبة أو عطايا تنُعم بها الدولة أو النخب السياسية على المواطنين والمواطنات، بل السبيل إليها النضال السلمي، الذي لا هوادة فيه. وحقوق المرأة ليست استثناء.

 

المراجع

Marie-Christine Heinze  and Marwa Baabbad (June 2017), “Women nowadays do anything: Women’s Role in Conflict”, Peace and Security in Yemen, Report, SAFERWORLD, CARPO and YPC

Elham Manea (June 2014), “The Significance of Gender in Arab-Spring Transitional Justice”, in: Fisher, Kirsten and Stewart, Robert (eds.), Transitional Justice and the Arab Spring. London: Routledge Studies on Middle Eastern Politics.

Elham Manea (2014), “The Arab Popular Uprising from a Gender Perspective”, Zeitschrift für Politik. No.1.

Elham Manea (2011), The Arab State and Women’s Rights. The Trap of Authoritarian Governance (Yemen, Syria, and Kuwait). London: Routledge Studies in Middle Eastern Politics.

Julià, M. and Ridha, H. (2001) ‘Women and war: the role Kuwaiti women played during the Iraqi occupation’, Journal of International Development, 13: 583–598.

United Nations Publication (2002), Women, Peace and Security, Study submitted by the Secretary-General pursuant to Security Council resolution 1325 (2000), New York: UN.

[1]الانتفاضات العربية المعنية تقتصر على الموجة الأولى من الانتفاضات العربية، أي تلك التي بدأت أحداثها بين 2010 و   2011   وتستمر تداعياتها إلى يومنا هذا. الموجة الثانية من الانتفاضات العربية، في السودان ولبنان والعراق، ليست موضوع هذه المداخلة، رغم أهمية الإشارة إلى مطالبها في نهاية هذا الحديث.

[2] أستاذة العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية بجامعة زيوريخ، سويسرا

[3] تعتمد الفقرات التالية في هذه الملاحظة على مرجعين لكاتبة هذه السطور:

Elham Manea (2014), “The Arab Popular Uprising from a Gender Perspective”, Zeitschrift für Politik. No.1.

Elham Manea (June 2014), “The Significance of Gender in Arab-Spring Transitional Justice”, in: Fisher, Kirsten and Stewart, Robert (eds.), Transitional Justice and the Arab Spring. London: Routledge Studies on Middle Eastern Politics.

تعتمد هذه الملاحظة على المرجع التالي لكاتبة هذه السطور: [4]

Elham Manea (2011), The Arab State and Women’s Rights. The Trap of Authoritarian Governance (Yemen, Syria, and Kuwait). London: Routledge Studies in Middle Eastern Politics.

[5] Marie-Christine Heinze &Marwa Baabbad (June 2017), Women nowadays do anything: Women’s Role in Conflict, Peace and Security in Yemen, Report, SAFERWORLD, CARPO and YPC. Julià, M. and Ridha, H. (2001) ‘Women and war: the role Kuwaiti women played during the Iraqi occupation’, Journal of International Development, 13: 583–598. United Nations Publication (2002), Women, Peace and Security, Study submitted by the Secretary-General pursuant to Security Council resolution 1325 (2000), New York: UN.