ملف النداء محمد عبدالقادر بافقيه
ملف النداء محمد عبدالقادر بافقيه

عودة الى الإبحار في عالم سندباد حضرمي

قلت لزميلي رياض الأحمدي، قبل يومين، ليس هناك لزوم لإضافة حرف واحد لملف المؤرخ محمد عبدالقادر بافقيه، الذي نشرته صحيفة "النداء" في مايو 2009.

كنت اقترحت عليه إعادة نشر الملف لأهميته، خصوصًا أنه لم يُقرأ جيدًا وقت نشره، ثم إنه لم يكن متاحًا للقراء بسبب تعطيل موقع "النداء" سنوات طويلة، قبل أن يستعاد كاملًا قبل عامين، بفضل رياض الذي يفاجئني بين الوقت والآخر بمواد من موقع الصحيفة، ما يفيد بأنه لم يستعد "النصوص" فقط، بل "الروح والشخوص"!

كانت تلك قناعتي.

وأظنني أقنعت رياض.
بيد أنني لاحقًا خطر لي أن نشر الملف سيبقى منقوصًا دون قول نقاط ضرورية؛ منها أن الملف لم يتطرق إلى التجربة السياسية للرجل قبل استقلال "الجنوب اليمني المحتل" وبعده، ودوره صبيحة قيام الوحدة اليمنية في 1990، في تأسيس حزب "المنبر"، ثم انصرافه بعد أقل من سنة عن مشروع الحزب وانغماسه، بدلًا من العمل السياسي، في مشاريعه البحثية، ومشاكل البيروقراطية وذهنية الغنيمة بعد الوحدة، التي حكمت سلوك النخبة الحاكمة، وعانى من تجلياتها أثناء رئاسته الهيئة العامة للآثار للفترة 1990-1993 (انظر تقرير تعقيدات الفساد السياسي ومشاكله في هيئة الآثار داخل الملف).

والحق أن وعدًا مرجأً من رفيق دربه فيصل بن شملان، بالحديث عن حياته السياسية، لم يتنزل تحريرًا في "النداء"، بسبب المرض في 2009، ثم الموت مطلع 2010. وكان بن شملان حدثني في مناسبتين (نوفمبر 2006، وفبراير 2008) عن صديقه، موضحًا أن بافقيه انخرط في السياسة باكرًا، وأيد توجهات الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، و"ظل متمسكًا بتلك المبادئ حتى وفاته"، على حد تعبير بن شملان الذي كان متمايزًا عنه في هذه النقطة.

لم يتنزل وعد فيصل بن شملان الذي انتقل إلى جوار ربه بعد أقل من عامين. لكن احتفالية في صنعاء في 2013، بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل بافقيه، سدت الكثير من الفجوات.

الفعالية أقيمت عام 2013، في جمعية حضرموت في صنعاء. وتكرمت الأسرة بدعوتي للفعالية التي حضرها شخصيات أكاديمية وسياسية من حضرموت ومن محافظات يمنية أخرى. وكان من بين أبرز المتحدثين في الفعالية ثلاثة من أعلام حضرموت، هم خالد عبدالعزيز، القيادي البارز في الجبهة القومية قبل 1967 وبعده، وتحدث عن أدوار مهمة أداها بافقيه لخدمة هدف الجبهة في تحقيق الاستقلال، من دون أن يكون عضوًا فيها.

وتحدث الدكتور أحمد بن سالم -مع الاعتذار للقراء عن خطأ محتمل في كتابة الاسم- عن دور بافقيه أثناء توليه إدارة المعارف في السلطنة القعيطية، في دعم طلاب قوميين عرب في الابتعاث الى مصر ودول عربية أخرى، وهو أوضح أن الرجل كانت له صلات بالقيادة المصرية، تسمح له بابتعاث طلاب إلى مصر!

سافر الطالب أحمد بن سلمان إلى مصر، واثنان آخران هما علي سالم البيض وحيدر أبو بكر الغطاس، يحملون إلى القيادة المصرية توصية من بافقيه. وتحدث في الفعالية الدكتور في جامعة صنعاء، مبارك البطاطي، ملقيًا الضوء على النشاطات السرية للرجل، وبينها -حسب البطاطي- اختباره في التنظيم السري القومي لجمال عبدالناصر، ومشاركته سنة 1969 في لقاء سري في الإسكندرية، بحضور عبدالناصر نفسه.

هذه بيانات خام أعرضها هنا أملًا أن تحظى باهتمام باحثين في التاريخ والسياسة، بحيث يتم إخضاعها للفحص، ووضعها في موضعها الطبيعي من سيرة الرجل دون توظيف من أي نوع!

إلى الباحث والمؤرخ الأصيل الذي كانه، فإن من الإجحاف القفز على أبعاد أخرى في شخصيته؛ بافقيه لم يكن آثاريًا مجاله النقوشات واللقى الأثرية فقط.

كلا!
فمن يقرأ كتابه "صاروخ إلى القرن العشرين"، مذيلًا باسم "سندباد حضرمي"، صدر منتصف الستينيات، يكتشف أن الرجل كان كاتبًا صحفيًا من الطراز الأول، تتميز كتاباته بالسلاسة والجمال والتماسك… وخفة الدم! ويحضرني هنا مقاله الجميل بعنوان "عيب"، قبل أن تعرف أن ذلك هو بالإنجليزية، اسم "محمية عدن الشرقية"، فإذا هي "عيب"! (في الملف عرض لكتابه "صاروخ إلى القرن العشرين").

يبقى أنني مدين في معرفة بافقيه، ثم الاطلاع على كتبه لأخي و"ملهم هذا الملف" سمير غالب، رحمه الله. فما أكثر ما طرق هذا الاسم سمعي في النصف الأول من التسعينيات، في جلسات مقيل سمير ورفاقه في هيئة الآثار، كانوا جميعًا يتحدثون عنه بجلال وتقدير فوق الوصف. وقد أمكن لي، ولزملائي في "النداء"، الاستفادة لاحقًا عند الإعداد لهذا الملف، من سمير وأصدقائه في صنعاء وعدن وحضرموت، والاطلاع على مراسلات بافقيه أثناء رئاسته هيئة الآثار، مطلع التسعينيات.

على الجملة، فإن محمد عبدالقادر بافقيه "فلتة حضرمية"! فهو يجمع بين الآثاري وعالم الاجتماع والسياسي والصحفي، وتحضر هذه العلوم والمهارات جميعًا في كتاباته ومقالاته، فإذ يكتب "يخبر ويعلم ويمتع"، وما أكثر ما تستوقفك جمل وعبارات في كتبه تجعلك مشدوهًا، إذ يجتمع في نصه العلم والجمال والتكثيف! تحضرني هنا عبارة في مقدمة كتابه "المستشرقون وآثار اليمن"، فهو من خلال تتبعه تاريخ الاستشراق في الغرب، يقدر تميز فرنسا في النصف الأول من القرن الـ19، في مجال الدراسات الاستشراقية، لكن هذا ليس موضوعه الأم، فيكتب مقتضبًا أن "خط استواء الاستشراق يمر فوق باريس"!
يا للجمال!

مرة أخرى نلتقي في "النداء" هذا العلم، لأن بلدنا في حاجة إلى قراءته بعدما ساد فيها أناس "لا يقرؤون، وإذا قرأوا لا يفهمون"!

مواد الملف تاليا: