بافقيه.. تاريخ في قلب التاريخ

ملف النداء محمد عبدالقادر بافقيه - بقلم الرئيس علي ناصر محمد
ملف النداء محمد عبدالقادر بافقيه - بقلم الرئيس علي ناصر محمد

لعل من الصعوبة بمكان أن نرثي التاريخ، أو نؤرخ لوفاته أو لمسيرة حياته. هذا الشعور هو الأول الذي حضر بذهني وأنا أنوي كتابة شيء ما عن قامة تاريخية وعلمية وفكرية متقدة، عن المؤرخ الكبير الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه الذي رحل جسداً وبقي روحاً مبثوثةً في صفحات تاريخنا الذي التصق به كما تلتصق الفراشة في المصباح المضيء.

الفقيد الكبير الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه أشبه بالنقش الأثري الذي يدلك على حقبة تاريخية كاملة، بما فيها من بشر وحجر ولغة وعلم وأدب وفن وتراث. ومثل الفقيد الكبير محمد بافقيه الذي اهتم بالنقوش الأثرية والأوابد والأطلال والأعماق التاريخية يستحق أن ينقش اسمه في كل صرح علمي وتربوي كأبسط تقدير منا لجهوده الخلاقة والعملاقة في مجال التاريخ والتراث والآثار والنقوش والأصالة، بكل ما تحويه من معانٍ عشقها فقيدنا إلى درجة جعلته يتفرغ لها وينسلخ رويداً رويداً من مجالات العمل السياسي والدبلوماسي والمناصب الرسمية التي كان يتبوؤها باقتدار ويؤديها بكل فعالية وألق ومهارة ومهنية عالية بدءاً من كتاباته الصحفية التي بدأها في وقت مبكر من حياته التي ترافقت مع رسالة الأنبياء (التدريس) التي امتهنها ردحاً من عمره وهو صاحب كتاب "أنبياء الله في جنوب الجزيرة"، فقد عمل مدرسا في محافظة حضرموت ومديراً لإحدى مدارسها خلال الفترة 1945 – 1957، ثم مديرا للمعارف في المحافظة في الفترة من 58 – 1967.

وعُيّن بعد استقلال الشطر الجنوبي من اليمن عن بريطانيا في عام 1967 وزيراً للتربية والتعليم. وبعد ذلك تولى الفقيد مناصب دبلوماسية رفيعة، حيث شغل منصب سفير لليمن الديمقراطية لدى مصر، وحضر معي أحد اللقاءات مع الرئيس جمال عبدالناصر، ثم عُيّن سفيراً لدى فرنسا، ومنها عُين كمندوب دائم لدى اليونسكو حتى عام 1982. ولم تشغله مناصبه الوزارية والدبلوماسية العليا، والآلام التي يعاني منها في ظهره عن معشوقه، التاريخ. فكان يقضي وقتاً طويلاً في العواصم التي عمل بها سفيراً لبلاده باحثاً ومنقباً ومحللاً للتاريخ، ومهذباً لما كتبه بعض المستشرقين عن تاريخنا القديم.

وقد أقام أفضل العلاقات مع المنظمة والمفكرين في فرنسا وخارجها، ووظفها لصالح البلد، فاقترح تنظيم مؤتمر عن الآثار في عدن حضره عدد كبير من المؤرخين والمستشرقين والآثاريين، ومن بينهم المستشرق الفرنسي كريستيان روبان، والكاتبة الفرنسية الطبيبة كلودي فايان صاحبة كتاب "كنت طبيبة في اليمن"، وعالمة الآثار الفرنسية جاكلين بيرن التي اكتشفت آثار مدينة شبوة القديمة، وعدد كبير من العلماء العرب والأجانب. نتج عن المؤتمر توصية بإصدار مجلة "ريدان" المتخصصة بآثار ونقوش اليمن القديم.

وتعود معرفتي به إلى عام 1967 بعد تعيينه وزيراً للتربية والتعليم في أول حكومة بعد الاستقلال. وكنا نلتقي باستمرار في المدينة البيضاء مع كل من المهندس فيصل بن شملان، ومحمد عوض باعامر، والدكتور فرج بن غانم، والمهندس ناصر عامر، والسيد محمد عوض الدبا، وغيرهم من الشخصيات، نتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل. وكان يحدثنا عن رحلاته ومغامراته الشيقة في الصحراء للبحث والتنقيب عن النقوش في مناطق العقلة وجبل المعسال وشبوة ومينا قنا (حصن الغراب حالياً). وقال إنه عندما كان يحفر في رمال شاطئ المينا كان يشتم منه رائحة البخور واللبان الذي يجري تصديره للعالم.

كل ذلك لم يباعد بين فقيدنا الكبير الدكتور بافقيه وبين رسالته الأسمى التي نذر لها جل عمره وظل وفياً لمضامينها التربوية والإنسانية العظيمة، حتى صحّ بجدارة أن يوصف بأنه "تاريخ في قلب التاريخ".

وننتهز هذه الفرصة لندعو الجهات المعنية لأن تبادر إلى تكريم الراحل المؤرخ الكبير الدكتور محمد بافقيه على أكثر من صعيد، لاسيما بنشر وطباعة كتاباته ومؤلفاته، وخاصة الجزء الذي لم يرَ النور؛ تعميماً للفائدة العلمية الرفيعة التي تتضمنها والتي تشكل رافداً من أهم روافد ذاكرتنا اليمنية وتاريخنا العربي والإسلامي والحضارة الإنسانية على وجه العموم.

وختاماً، لا ننسى أن نعبر عن تثميننا للدور الذي تقوم به صحيفة "النداء" الغراء ورئيس تحريرها الأستاذ سامي غالب، والذي ينمُّ عن ارتقاء في العمل الصحفي وبلوغه إلى المقاصد النبيلة، وما هذه اللفتة الكريمة تجاه هامة من هامات الوطن الدكتور الراحل محمد بافقيه والذي لم يحظ -بحق- بالتكريم الذي يستحقه في حياته وبعد رحيله، إلا دليل واضح لسمو هذه الصحيفة وسعيها إلى التعبير عن نبض الوطن، وهذا ما يجعلنا نتوق لمستقبل أفضل ونستبشر بالخير، برغم كل المنغصات والهزائم المختلفة التي لاحت وتلوح في الأفق.