حول ترجمة كتاب توحيد اليمن القديم لمحمد بافقيه

* أشاد مكسيم رودنسون بسعة معرفة بافقيه لموضوعه معتبراً أن بافقيه أثبت استحقاقه لدرجة «دكتوراه الدولة» قبل أن يلتحق بهذه الجامعة، ومن ثم فإن الموافقة على منحه هذه الدرجة ليس إلاّ من باب الاعتراف بفضله * ما يميز بافقيه اجتهاده للوصول إلى المعرفة من مصادرها الاصلية * لم يكن ممن يقف موقفاً عدمياً مبتذلاً من المستشرقين

ملف النداء محمد عبدالقادر بافقيه حول ترجمة كتاب توحيد اليمن القديم
ملف النداء محمد عبدالقادر بافقيه حول ترجمة كتاب توحيد اليمن القديم

اعتدتُ أن أتعامل مع الترجمة من اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى اللغة العربية، وبخاصة فيما ينشر عن اليمن، باعتبارها وسيلة من وسائل القراءة المركزة لما أقرأ، وبالذات حين أشعر بأن النص المعني يغني معرفتي أولا وقبل كل شيء.

وبعدها تستولي عليّ الرغبة في ترجمته على نحو لا أعود معه قادرا على التأجيل أو النكوص، وكل همي أن تعم الفائدة وينعم آخرون بمشاركتي في متعة قراءة هذا النص والاستفادة منه.

ولعلها نزعة عادة ما يتمتع بها المعلم أو المحب لمهنة التعليم، من حيث كان التعليم مهنة مارستها منذ كنت طالبا في المرحلة الثانوية حين كنتُ أدرس في الفترة الصباحية وأتولى التدريس بعد الظهر في معهد معين التجاري، المدرسة الخاصة الوحيدة حينذاك، شبه المجانية، التي افتتحها المربي المرحوم محمد علي ناجي الكُميم، للتعليم بعد الظهر لمن حرموا فرصة الاستفادة من التعليم العام بسبب ظروف حياتهم القاسية وانشغالهم بكسب لقمة العيش.

كما أن تلك المدرسة الفريدة قد أعطت لبعض طلبة المدرسة الثانوية مثلي فرصة تحسين ظروف معيشتهم، من خلال المساهمة في جهد معرفي شبه مجاني من خلال التدريس لمن حُرِموا من الحصول على التعليم من صغار الموظفين والجنود وبعض النساء، ومساعدتهم في رفع مستواهم المعرفي وفتح أبواب الحياة أمامهم، سواء عن طريق أخذ شهادة الثانوية العامة والحصول على منح للدراسة في الخارج أم للالتحاق بالكليات العسكرية (الكلية الحربية وكلية الشرطة) أم ببساطة الحصول على فرص الترقي الوظيفي، في مرحلة كان التحصيل العلمي ما يزال طريقا مباشرا إلى صعود درجات سلم المراتب الاجتماعية الذي كسرت الجمهورية حلقاته المغلقة بإحكام وفتحت أبواب صعوده أمام أبناء المزارعين والمهاجرين، ولم يطغ بعد "تسونامي" المحسوبية والتمييز، ولم تغلق بعد فرص الحصول على المنح الدراسية وعلى فرص العمل والترقي الوظيفي أمام الكثير من المثابرين والمتفوقين ممن لا سند لهم ولا دعم.

المهم أنني بهذا الموقف من الترجمة باعتبارها قراءة مركزة لما أجد من المفيد تعميم فائدته عن طريق ترجمته ونشره قد ترجمت عددا لا بأس به من النصوص، بعضها كتب وبعضها دراسات أو مقالات. وأدى تساهلي في النشر أو عدم العثور على من يتحمل تكاليف النشر، أو ببساطة عدم الحصول من المؤلف على حق النشر في بلد يعد فيه طبع كتاب مغرما لا مغنما ومن ثم لا أحد مستعد لدفع حقوق المؤلف للحصول على حق النشر حتى دور النشر اليمنية وغير اليمنية، إلى عدم نشر بعض ما ترجمتُ، وفي بعض الحالات وجدتُ ما ترجمت وقد تعرض للتشويه والنشر منسوبا إلى آخرين. وبعض الحالات في هذا الخصوص معروفة وكانت، وربما ماتزال، موضوع تندُّر بين الزملاء.

أقول هذا لأوضح إلى أي مدى تعاني الترجمة من إحباطات وصعوبات غير معقولة في بلد لا ينكر أحد أنه في حاجة ماسة للترجمة في جميع العلوم لكي يتمسك بأذيال عالمه حتى لا يطول تهميشه وإقصاؤه عن عالم يحقق فتوحات معرفية هائلة.

 

ترجمة كتاب بافقيه

بدأت علاقتي بكتاب الأستاذ الدكتور (لا أحب استعمال عبارة "الأستاذ الدكتور"، ولا حتى "الدكتور" إلا في حالات نادرة أشعر عندها أن الشخص المعني كنز معرفة أكبر من الألقاب المنفوخة) في إحدى قاعات جامعة السوربون عندما كنت طالبا في الدراسات العليا في باريس، سنة 1983، يوم ناقش رسالته لدكتوراه الدولة (وهي موضوع هذا الكتاب)، وحضرتُ، ومعي عدد من طلبة الدراسات العليا اليمنيين، هذه المناقشة لأتعرف على الأستاذ بافقيه شخصيا لأول مرة. وكانت أولى مشاعري مشفقة عليه، لأنه كان، وهو الرجل الذي يمضي في العقد السادس من العمر، يعارك لغة فرنسية جميلة ومحببة لكن إتقانها وإتقان نطقها بالذات ليس باليسير، خاصة أن بافقيه ربما يكون قد تعلمها عندما جاء إلى فرنسا في مطلع ثمانينيات القرن العشرين سفيرا للجنوب في فرنسا ومندوبا لدى منظمة اليونسكو.

ومعروف أن تعلُّم أية لغة أجنبية في سن متأخرة قد يسعف في فهمها والقراءة بها، والكتابة لمن كان موهوبا في فن الكتابة والفهم، لكن اللسان يستعصي على إتقان النطق كلما تقدم الإنسان في السن. وقد كان نطق بافقيه سليما كما كانت لكنته محببة وهو في بعض الأحيان ينطق الفرنسية بمسحة من اللغة الإنجليزية التي يجيدها إجادة تامة.

وكان المصدر الثاني لخشيتي عليه وجود الأستاذ الكبير مكسيم رودنسون، المستشرق المعروف وصاحب المؤلفات الكثيرة العميقة، ضمن لجنة المناقشة المكونة من أربعة أساتذة مميزين، بالإضافة الى الأستاذ كريستيان روبان، أهم متخصص في آثار اليمن في فرنسا، والذي شارك كمستشار للجنة دون أن يكون عضوا فيها لأنه لم يكن قد حصل على درجة دكتوراه الدولة التي تتيح له، وفقا للنظام الأكاديمي المعمول به في فرنسا في تلك الفترة، المشاركة في لجان مناقشة أطروحات الدكتوراه.

وكنت سابقا قد سمعت الأستاذ رودنسون يقول لطالب يمني عند مناقشة أطروحته للدكتوراه عندما وجدها ضعيفة ما معناه أن الأطروحة لا تساوي شيئا، وأن جميع أطروحات الدكتوراه لا تساوي شيئا إذا لم يثبت من يقدمها فيما بعد أنه مؤهل للمشاركة في مسيرة المعرفة الإنسانية ولو بقدر يسير. فكم من رسائل دكتوراه أعجب الأساتذه بها لكن مقدمها خيب أمل الجميع فيما بعد لأنه اكتفى بها وتوقف عندها وكأنه قد بلغ ذروة المعرفة.

لذلك توقعت مناقشة ساخنة لن يقف فيها بافقيه، وهو العالم المثابر العنيد، موقف من يخفض الرأس ليسمح للموجة أن تمضي بسلام، كما يفعل أغلب الطلبة عند مناقشة أطروحاتهم، للفوز بموافقة لجنة المناقشة والحصول على الشهادة. لكنني سرعان ما فوجئت بجميع أعضاء اللجنة يثنون على الأطروحة ويستفسرون صاحبها عن بعض التفاصيل فينشرح صدره وتسترتخي أعصابه ويمضي في المناقشة بهدوء ووقار، وأحيانا تفر من فمه بعض كلمات بلغة عربية سليمة يفهمها أغلب أعضاء اللجنة، لكنه لا يتخلى عن تأثره المحفور في أعماق ذاكرته بسنوات الدراسة في السودان.

ولدهشتي كان أكثر المناقشين تأدبا في الحديث مكسيم رودنسون الذي أشاد بسعة معرفة بافقيه لموضوعه وعمق هذه المعرفة، مشيرا إلى أن بافقيه أثبت استحقاقه لدرجة "دكتوراه الدولة" قبل أن يلتحق بهذه الجامعة، ومن ثم فإن الموافقة على منحه هذه الدرجة ليس إلا من باب الاعتراف بفضله وبجهوده العلمية. ومع أن الأعضاء الآخرين في اللجنة قد تداولوا المناقشة، فإن ما ظل ماثلا في ذاكرتي إشادة رودنسون بالأطروحة، لأن ليس من السهل كسب رضاه، وعادة ما يتولى الطلبة الخوف حين يكون عضوا في لجنة مناقشة أطروحاتهم. وهكذا حصل بافقيه على مرتبة الشرف بسهولة، عن استحقاق وجدارة.

وحين صدرت الأطروحة في كتاب عن دار "جونتر" في باريس بادرت بقراءة النص بتمعن واستمتاع، وكتبت عنه مقالا في الصحف اليمنية يبين مصدر إعجابي به ويشيد بقيمته المعرقة الكبيرة، وبدأت في الحال ترجمته كعادتي مع ما يستهويني من نصوص لأزداد معرفة به، إذ لا يمكن أن يترجم المرء ما لا يستوعبه تماما، وبالأخص لأن موضوعه صعب ويستند إلى نقوش يمنية إما ترجمها بافقيه أو أعاد ترجمتها، أو يناقش بعض مضامينها مع المستشرقين الذين تناولوها من قبله.

والتقيت ببافقيه صدفة فيما بعد في صنعاء، وكان قد تعين بعد الوحدة رئيسا للهيئة العامة للآثار، في حين كان قد قرأ المقال وأعجب به. فبادرني بالقول والابتسامة تشرق على شفتيه إن الحياة الثقافية اليمنية اعتادت على ألاَّ يكتب المرء إلا عن صاحبه إذا لم يكن لأسباب أخرى أقل قيمة من الصحبة، ومن النادر أن يكتب أحد لمجرد الإعجاب بكتاب.

لذلك دعاني معه لعرض موضوع الكتاب في الجمعية الخيرية لحضرموت في صنعاء في مقيلها الأسبوعي. وعند انتهائي من ترجمة الكتاب بعد ذلك اللقاء بفترة طلبت منه أن نبحث عن ممول لطبعه، إن لم يكن إحدى المؤسسات الثقافية اليمنية فلنحاول إقناع الجمعية الخيرية الحضرمية التي تحمست للكتاب حين توليت عرض محتوياته بحضور مؤلفه. لكنه قال لي إنه يريد إعادة النظر في بعض الأفكار والاستنتاجات على ضوء النقوش التي اكتُشِفت بعد كتابة النص.

فقد كان مهموما بالمنافسة بينه وبين المستشرقين المختصين بالآثار اليمنية ممن اعتاد أن يناقشهم مناقشة الند للند ويصحح بعض آرائهم أو بعض ترجماتهم لمفردات نقوش أعاد ترجمتها بعدهم، أو الدفاع عن فهمه لبعض النقوش التي ترجمها واعتمد عليها في أطروحته. وقد كان هذا الجهد والتعمق المعرفي تحديدا مصدر إعجابي بالكتاب ودافع حماستي لترجمته.

فما يميز بافقيه عن كثيرين من اليمنيين والعرب اجتهاده للوصول إلى المعرفة من مصادرها الأصلية، ولم يكن ممن يقف من مؤلفات المستشرقين موقف المستسلم أمام ما يقولون، كما يفعل بعض من ينسخون ما يكتب هؤلاء المستشرقون ويزينون أقوالهم بالاقتباس منهم وكانهم يقتبسون من كتب سماوية لا يأتيها الباطل قط.

لكن بافقيه لم يكن أيضا ممن يقف موقفا عدميا مبتذلا يرفض آراء المستشرقين جملة وتفصيلا دون دراسة ودون تمحيص، بل كان يقف موقف العالم المدقق الذي لا يتردد عن أن ينهل المعرفة من حيث أتت، يقبل أو يدحض عن برهان واستنادا إلى حجج علمية رصينة، وليس عن هوى أو عن رد فعل غريزي جاهل. وبالطبع لم يكن أمامي سوى أن أتفهم دوافع المؤلف لتأخير النشر، وأقبل وجهة نظره التي لا يستطيع أحد أن يجادله فيها. فهو في الأول والأخير مؤلف الكتاب ومن يقرر متى ينشره. وعند ذلك سلمت نص الترجمة إليه لينقحه كما يريد ويطبعه عندما يطمئن إلى أن أوان نشره قد حان.

ومرت بضع سنوات غادر خلالها بافقيه هذه الدنيا للأسف سنة 2002، بعد معاناة من المرض ومن النكران والاهمال. وإذا بالصديق جان لامبير، مدير المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في صنعاء، يتصل بي عام 2006 ليقول لي إنه حصل من ورثة بافقيه على حق النشر، وإنه يبحث عمن يدفع تكاليف طبع الكتاب في صنعاء.

وبعد أن بدأ الحراك الجنوبي اقتنع الصندوق الاجتماعي للتنمية، ربما لأسباب سياسية، بنشر هذا الكتاب الذي يتناول ظروف تحقيق أول تجربة توحَّد فيها اليمن في التاريخ. وقد أحسن الصندوق بهذا العمل المفيد صُنعا، لأن كتاب بافقيه بحث علمي رصين يوفر لليمنيين الذين يكثرون الحديث عن حضاراتهم القديمة ما يساعدهم على الفهم الصحيح لتاريخ تلك الحضارات.

ومع سعادتي بخروج الكتاب إلى النور باللغة العربية، فإنه يعاني مثل كل ما طبع من الكتب التي ترجمتها (ربما باسثناء القليل منها) من أنها طبعت دون العودة إليَّ، وتعرَّض بعضها لشيء من التدخل بما لا أرتاح له من صياغات للجمل والعبارات.

ولأن الطبعة الأولى من كتاب بافقيه "غير مخصصة للبيع" كما يقول الكتاب في صفحته الثانية، فهل لي أن آمل أن تبادر أية جهة ثقافية يمنية أو أي مهتم، بتمويل صدور طبعة جديدة للجمهور، على أن يعود إليَّ لتجنب بعض الهنات التي رافقت الطبعة الأولى. وأطمئن الجميع منذ الآن إلى أنني لن أطالب بحقوق ترجمة حتى لا يتجنبوا العودة إليَّ، فكل همي أن أضمن أن تكون الطبعة القادمة خالية من أي عيوب.

*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009