شيخ بافقيه عن والده: رجل لا يعرف التهاون في الأداء

شيخ بافقيه أحد أبناء المؤرخ المعروف الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه رحمه الله، رجل شغوف بالأرقام أكثر من لغه الحرف والنقش والوصول إليه ليس بالأمر السهل.

حوار مع شيخ بافقيه
حوار مع شيخ بافقيه

حدثت نفسي كثيراً قبل مقابلته: ترى هل أستطيع أن أحصل على الوقت وأجري المقابلة معه؟! فالرجل يقضي جل وقته في العمل وهذه هي جزئية مهمة من حياة والده المرحوم بافقيه كذلك؛ فهذا الشبل من ذاك الأسد! وكل من يعرفه في شركة مصفاة عدن حيث يعمل مديرا لقسم التوظيف، يقول: هذا الرجل يقدس عمله".

والجميع يكرر على مسمعي أنه رجل لا يعرف التهاون في الأداء ولم يخذلني القدر بتجربة معه فالرجل جعلني في الانتظار ما يزيد عن أربع ساعات بسبب ضغط العمل في الموعد الأول معه ولا خيار لديَّ سوى الانتظار فالعمل يسرقه حتى الرابعة عصرا من كل يوم.

لم ير شيخ والده إلا كما وضع نفسه بينهم وفي أعينهم مربيا أدرك معنى العلم ومؤمن بالقناعة والخيارات لم يتدخل قط في ميولهم واختياراتهم التعليمية أو الأفكار التى تبنوها وكانوا مؤمنين بها. قال شيخ: "كل منا خط لنفسه طريقا يختلف عن خط والدنا فأنا مثلاً درست التجارة – إحصاء وإدارة أعمال في دولة الكويت، تتلمذت هناك منذ الثانوية لم أجد والدي إلا داعما وكنت أشارك في مظاهرات أيام القومية ولم يمنعني لأنه علمنا احترام الخيارات وعلمني وأخوتي الاعتماد على الذات وشق طريقنا بأيدينا حتى لا نعوز أحدا ولم يكن أي منا قد تأثر بخيارات الوالد وسلك نفس توجهه. كان يعطينا الحرية ويحملنا مسؤوليتها".

عائلة الدكتور محمد بافقيه فرع من أسرة آل عيديد التي تمتد جذورها إلى العلامة محمد عمر بافقيه صاحب "تاريخ الشحروأخبارالقرن العاشر" تميز أبناؤها بحب العلم. وحين فتح بافقيه عينيه على الدنيا في السادس عشر من أغسطس 1928 وجد نفسه في كنف عائلته بالشحر إحدى مدن السلطنة القعيطيه بمحافظة حضرموت.

بدأت مسيرته في التعلم منطلقاً من حفظ المصحف في السادسة من عمره وجالس أهل الثقافة حين كان والده وعمه يتصدران تلك مجالس الأدبية آنذاك، رحلة في التعلم انطلقت من الشحر وفي 1940 رحلت العائلة إلى مدينة المكلا وهناك التحق بالمدرسة الوسطى التى افتتحت 1944.

كان بافقيه من الدفعه الأولى، بل ومن أوائل مبعوثيها الى السودان 1945 لدراسة الثانوية العامة في ثانوية "حنتوبـ" تلتها الدراسة الجامعية في جامعة "جوردن" المعروفة بجامعة الخرطوم حالياً.

يقول شيخ عن والده: "علاقتنا بالوالد كانت تقوم على الحب والاحترام أكثر من أي شيء وكان مربيا صارما لا يتهاون في الخطأ الذي لا يقع في إطار الخيار والفكر والمبدأ والقيم وكان يتخذ مبدأ الثواب والعقاب الذي قد يصل حد الضرب، ولمَ لا إذا كان الأمر يستدعي ذلك! لكنه نجح في جعلنا والحمد لله ناجحين في حياتنا وأعمالنا ونحترم خيارات الآخرين كما علمنا ذلكـ".

رحلة بافقيه انطلقت منذ الأربعينيات حين نشط في إصدار مجلة "المدرسة الوسطى" الحائطية مع زميله الألمعي فرج باظافري، وهي المدرسة عينها التى تعاقب عليها جنب للبعثة السودانية محمد بافقيه وصديقه فيصل بن شملان وفرج بن غانم وغيرهم.

لم يتوقف عند هذه النشرة، ففي السودان نشرت له مجلة "السودان الجديد" قصة "الدقة بالدقة" واستمر بالتواصل مع الصحافة حتى التسعينيات ويذكر أنه صاحب فكرة إصدار صحيفة "الرأي العام" حين تقدم بالفكرة كمقترح على هيئة "النادي الثقافي"، وكتب لها أن ترى النور في 1963 من "دار حضرموت" للطباعة وكان أحد المساهمين فيها وعلى خطى الطريق الصحفي سارت ابنته الكبيرة التى قررت أن تدرس الإعلام في القاهرة وانتقلت لاكمال الدراسة في الجزائر إلا أنها لم تتمكن وعادت لتعمل في الحقل الصحفي مع صحيفة "14 اكتوبر" حتى الثمانينيات.

كان بافقيه قد تزوج من إحدى بنات "آل هارون "وأنجب منها خمسة، لم يكن أي من شيخ أو إخوته الأربعة يقتربون من عالم والدهم عندما كانوا صغار "كنا نقدس معلمينا ونهابهم هكذا تعلمنا على يد الوالد ولا نتدخل في عمله أو نحاول الاطلاع".

ولم يدركوا من هو أكثر الناس قربا منه بعد الوالد في مرحلة الطفولة خاصة وهم يعيشون في ترحال لطلب العلم كما كان والدهم نفسه كثير الانشغال منهمكا في طلب العلم حد دراسته اللغة الفرنسية للاستفادة من المراجع الفرنسية في إعداد كتابه "تاريخ اليمن القديم".

يصف شيخ شغف والده قائلاً: "كان والدي يحب الآثار والنقوش ويغامر كثيرا وأتذكر حين ذهب الى العقلة وهبطت السيارة في موقع تل وتعب حينها لكنه كان مستمتعاً بكل ذلكـ".

في 1964 أصبح بافقيه ناظراً للمعارف ويحسب له إنشاء متحف المكلا 1966 وانتقل إلى العمل الدبلوماسي كسفير لليمن الديمقراطية في لندن وفي نهاية 1969 كان قد عاد إلى القاهرة ونقل أبناؤه إليها للدراسة باستثناء شيخ الذي بقي في الكويت ترك بافقيه السفارة في السبعينيات عندما طلب تفرق لإعداد كتابه "تاريخ اليمن القديم" وتمت الموافقة على طلبه.

قال شيخ: "حين درس والدي اللغة الفرنسية لإعداد كتابه أصبح بعدها سفير البلد لدى فرنسا ومندوبا لليمن الديمقراطية في منظمة اليونسكو وفي الثمانينيات ترك السفارة وظل يعمل كمستشار تربوي مع اليونسكو في الإمارات، كانت معه إحد ابنتيه التي درست في فرنسا ثم نقلها الى الإمارات لتنهي دراستها الجامعيه هناكـ".

العودة إلى عدن

نال بافقيه درجة الدكتوراه من فرنسا وكانت أطروحته "تاريخ اليمن وتوحيدها في التاريخ".

عقب عودته الى عدن فتح بافقيه مؤسسة "ريدان" واتخذ من إحدى بنايات الشارع الرئيسي مقرا لها بالإيجار إلا أن هذه البناية البنية اللون تحولت الى ماضي بعد أن أصبحت عمارة سكنية لا فرق بينها وبين أي بناية سوى رائحة التاريخ فقط.

رأى شيخ ذلك الحلم الذي بذل لأجله والده الكثير من الجهد يتحول إلى حطام من ذكرى جميلة شاء لها بافقيه أن تكون مركزا للنقوش والحفريات جنب إلى إصدار نشرتها الحولية لكنها ماتت وضاعت كل الأموال التى دفعتها شركة مصفاة عدن دعم لها على الرغم من أن الفرنسيين كانوا قد بدؤوا دعمها.

أصبح الرجل وزير التربية والتعليم في أول حكومة وطنية بعد الاستقلال 30 نوفمبر 1967 إلا أنه سرعان ما قدم استقالته وسلم مفتاح سيارته وسكن عند احد أصدقائه حين كانت الكثير من القيادات التى عملت مع الإنجليز تجد أوراق الاستغناء عن خدمتها على طاولتها في ساعات الصباح الأولى من دوام العمل. قال شيخ: "والدي رفض هذه التصرفات وما كان له أن يقبلها على نفسه فسارع بتقديم استقالته وتوالت محاولات كثيرة لإعادته الى عملة كوزير التربية والتعليم في دولة اليمن الديمقراطية الشعبية".

لم ير شيخ أن والده أنصفته الدولة ولم يشعر قط بأنه أوتي حقه من التكريم، "مع أن والدي لم يكن يبحث عن التكريم يوما، لكن الحقيقة تقال بأن الدولة لم تنصفه بحقه أصلا فما بال التكريم! فحتى اللحظة لم تسلمه الدولة بعض مستحقاته وأتذكر حين ذهب والدي إلى البحرين لحضور مؤتمر الآثار لم تدفع له بدل سفر بدرجة وزير.

وأضاف: "ولم نتسلم منزلنا الذي اقتحمه احد القياديين في حضرموت مع أن الوالد دفع أقساطه حتى وهو في فرنسا وكذلك فيللا مشروع الوحدة دفع أقساطها والكثير من الأمور التى أبلغنا الدكتور عبدالقادر باجمال رئيس الوزراء حينها ولم يحرك ساكناً ومن حين ولجنا عليه أنا وأخي لأول مرة نتابع في الأمر خرجنا وأنا أعد نفسي بعدم العودة".

عقب الوحدة 22مايو90 عين بافقيه رئيسا للهيئة العامة للآثار والمتاحف إلا أنه لم يتقبل وأصبحت مؤسسة "ريدان" تابعة لوزارة الثقافه: "كان الوالد مجتهداً بهذا الأمر وللأسف أقحمت أمور كثيرة وأصبحت المؤسسة تابعه لوزارة الثقافة".

يضيف: "لم تكن مشكلة الوالد مع الإخوة في الشمال مسألة قبول العمل معاً لأنه كان يعرف ويتواصل مع الكثير منهم قبل الوحدة ولكن السبب الحقيقي هو مرض المال، الذي جعله لا يكمل معهم المشوار فلا شيء يساوي العمل والهدف الرئيسي لأي مشروع حتى وإن كان المال عينه وفي تلك الفترة ترك الوالد صنعاء وجاء إلى عدن ثم سافر إلى السعودية قبل حرب صيف 94 بأسبوع واحد لإجراء عمليه لعينيه واندلعت الحرب حينها وعاد فور توقفها".

وعن مساعي العائلة الحديثة على طريقة بافقيه أجاب شيخ: لدينا مسكن في مديرية المعلا بعدن به بعض الكتب ومستلزمات الوالد وكانت الفكرة أن نعمله مركزا يجمع كل أعماله، وسرعان ما عدلنا الأمر بتغيير المكان بدلا من عدن نعتقد أن المكلا انسبـ".

شيخ بافقيه الذي تلونت معالم وجهه وتفتحت أوتار صوته الهادي أثناء حديثنا معه عن ذكرى زمن جميل لا يقارن البتة بزمننا هذا، جزم لنا أن الوالد لم يخلف لهم في العائلة الا ما يعتزون به طوال حياتهم قائلاً: "لم يندم والدي على شيء من خياراته أو يشعرنا بأنه حزن على ذلك بالمطلق ونلتمس ذلك في أنفسنا، على سبيل المثال، كلنا درسنا ما نحب وأبدعنا فيه ونتكل على أنفسنا وبنينا مستقبلنا دون عوز والحمد لله فما بال ذلك الرجل الذي أمضى جل عمره مناضلاً للبلد؟!".

*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009