كاتدرائية برلين
كاتدرائية برلين بعدسة أروى عثمان

أحلم بوطن خارج هذين الموتين: التنكة والناموس 2009

وصلت للأدب، من بوابة حكايات جدتي، من الغرفة - اللغز، فوبيا الغرفة ‏‏السابعة، لحكاية الجرجوف. من الكهف الموحش للفتاة بطلة حكاية "الدجرة" ‏‏الساحرة، وروح الأم المؤنسة لوحشة الأخ والأخت الخائفين من الساحرة ‏‏الملتهمة للحوم البشر.

من هيمنة الفحولة وأدواتها المعتقِلة للروح والجسد ‏لبطلة ‏‏"جُليد أبو حمار". من الأضواء الخافتة للكهوف ملجأ الإناسة ‏للهاربين من الظلم، ‏ومن تجاعيد الكبار، وأهازيج النساء، ومن ذلك ‏المجنون الفنان الذي كان يرسم ‏لوحاته على الأرصفة وقلب الشوارع ‏المسفلتة.

من ذلك الوجه الناشف لامرأة تجر ‏جملها في شارعنا صباحًا، ‏وفي غب المساء صراخها وانتحابها، يمزقان سكون الليل، ‏لاكتشافها سرقة ‏جملها، قوتها وقت أولادها، صراخها الموحش الذي تزامن مع ‏صراخ أمي ‏المؤلم لمخاض الولادة.. صراخان في وقت واحد، بددا سكون الليل، ‏وشرخا ‏أحلام ألعابنا التي سنفتتحها في الغد صباحًا، بعد أن تواعدتُ مع ‏‏صويحباتي في الشارع، صراخان، أحدهما في اتجاه الضياع والعدم، وآخر ‏في اتجاه ‏استقبال شعاع شمس الحياة.. لقد أطلت أختي في الفجرية.‏

‏**‏

من متحف الموسيقى بيتهوفن
من متحف الموسيقى بيتهوفن (أروى عثمان)

صوت الطبيعة، وتفاصيل الحياة اليومية التي أطل عليها من نوافذ حارتنا ‏‏الشعبية لبوابة "سوق الصميل" المزدان بالألفة، والصخب واللعب، ‏والسرقات، ‏والسرديات لقصص الحب الملتهبة، وقصص الموت المرعبة، ‏هذه التناقضات ‏والتضادات شكلتني، وشكلت قلمي الذي أغترف منه الكثير ‏من موتيفات السرد.‏

وبجانب الصندوق الحي للحكايات اليومية التي عايشتها، وتعايشت معها، ‏‏ومازلت، ثم اغترافي من سرد آخر، عالم كلما ولجته، انفتحت مغارات ‏المغامرة ‏الأحلى والأجمل والأعمق لـتشيخوف، وتورجنيف، ونجيب ‏محفوظ، وتولستوي، ‏وهرمان هيسه، وإحسان عبدالقدوس، وهيمنغواي، ‏وجوته، وغوغول، وكل ما ‏كنت أجده في الكتاب.‏

كل هذا منح قلمي روح الحكي، وخصوصًا الأدب الروسي. ‏

‏* ‏

كان من الطبيعي أن أنجذب للتراث بعد حكايتي مع الجدات، لقد كان ‏وجودي في ‏زمن انتعاش ذاكرة الجدات.. صناعة الخيال، وربما لأني نشأت ‏في حي شعبي، ‏فلكلور مفتوح/ لم يكتب بعد، أحاول عبر قلمي المتواضع، ‏أن ألعب مع ‏الشخوص وموتيفات الحياة الشعبية التي اختزنتها في ذاكرتي ‏الصغيرة ذات يوم، ‏أن أحيا المكان، وما ورائياته – إن جاز تعبير كهذا.‏

غياب التكنولوجيا، وابتعادنا على روح العصر والتحديث، جعلنا نتنفس ‏همس ‏الجدات والساحرات، نعم هذا الغياب والعزلة، كان سلبيًا، لكنه ‏إيجابي من ناحية ‏أخرى، نتعايش مع زمن له طعم السحر، له طعم الكان ‏ياما كان، سحر ألف ليلة ‏وليلة.‏

‏**‏

كاتدرائية برلين
كاتدرائية برلين

الزمن، المكان، تفاصيل الحياة، المسرح اليومي للأحداث، وللرتابة أيضًا، ‏إننا ‏مازلنا نعيش الفلكلور المفتوح الذي لم يأخذ إلا بقشور الحداثة، الذي ‏شوه ‏الحكاية، وجعل ذاكرة الجدات أشلاء تعبث بأرواحنا، نحن في المنطقة ‏الظل – ‏التشويش، صخب التشوهات، وضياع العوالم الفطرية للحكي.. ‏أعرف قسوة ما ‏أحكيه.. لكن هذا ما أراه وأحس به.‏

وأرى هذا التشوه يطغى على كل حركتنا، ويكتم أنفاسنا، عندما تُحرم خرافة ‏‏جدتي، وتعتمل وتتطاول خرافة السياسة والدين، بل يعاد إنتاجها، فالتهمت ‏‏حيوات وعوالم الإنس والجن، وحل التوحش بديلًا عنها، وأخلت بتوازن ‏الحياة ‏المدنية والإنسانية التي ننشدها من خلال القص، قصص مجموعتي ‏‏"تنكا بلاد ‏النامس"، خصوصًا قصة "كيف استطاع حمادي الأفلخ أن يأتي ‏بالجن مربطين"، ‏تحاكي هذا الفصام، أنه فصام لا تعيشه سوى بلداننا، ‏العالم العربي –الإسلامي. ‏

‏**‏

لم أحدد القالب الذي اتخذني – اتخذته، عندما يقولون إني مغرقة في ‏التراث، قد ‏يكون ذلك صحيحًا، فطواعية، وربما الفطرية لأسلوب المعيش ‏في حارة سوق ‏الصميل، تضج بالشعبية والفطرية في كثير من السلوكيات، ‏هي التي جعلتني ‏أستلهم مفردات التراث، وخصوصًا الحكايات والأساطير ‏والأهازيج والمعتقدات ‏الشعبية، في هذا العالم أني أجد نفسي، روحي ‏المستلبة في عالم من الفصام ‏المنفلت الذي يعج بالخراب باسم الدين ‏والحقيقة المطلقة.

أجد ألعابي التي ‏حُطمت بحجة أني بلغت، أجد تحليقي ‏مع عمتي سلمى بائعة اللبن، وهي تغني ‏للعصافير، وبقرتها من خلف ‏بيتنا، أني أفتش عن نفسي –روحي في ظل ركام هذا ‏الخراب الذي أطبق ‏على حكايتي – أنا.‏

‏**‏

أتحول مع القص – الحكي الكائن الخفيف، الأخف، أي أكون حرة، ‏أمارس الحياة.‏

عندما أبتعد عن القص، يسحبني هذا الهلام الذي لا أعرف من أنا في ‏أتونه، وما ‏أكثره، وما أكثر ما يبتلع كل شيء في طريقه، ولا يشبع. ‏

‏**‏

إننا في مجتمع نقاوم العبثية والعدم المجاني بالقص، باستعادة ذاكرة ‏الجدات، ‏باستعادة عوالم أكثر إنسانية. هذا ما كتبته في "تنكا بلاد النامس" ‏الفرار من قعر ‏هذه التنكة المحمومة المجنونة المتخمة بتكدس الهوام، ‏بالتشوه أهرب من هذا ‏الناموس – النامس الذي لا يتعب تحليقًا ومصًا ‏للحياة.‏

أحاول - نحاول، خصوصًا نحن النساء، أن نقاوم ألا نكون ناموسًا – ‏هوامًا، في ‏وطن لا يختلف عن التنكة. قصتي التي لم أكتبها بعد، أحلم ‏بوطن خارج هذين ‏الموتين: "التنكة، والناموس".‏

 

كتب في، 16 سبتمبر 2009‏، مهرجان الأدب الدولي التاسع- برلين، سبتمبر 2009‏.

هوامش:‏

‏* التنكة: علبة من الصفيح، الناموس: البعوض.‏

‏**‏

‏2023‏

أنا في ألمانيا، وطن جديد بلا تنكة، بلا ناموس، أواصل الحلم، وقصتي ‏أكتبها كل ‏يووووم.‏