النقابي المغيب محمد علي قاسم هادي

أتذكره كالآن، كأننا لم نفترق: صورته، صوته الخافت، بساطة ابن القرية، الآتي من إب أو من ريفها، سيان. الطالب بجامعة صنعاء، النشط في العمل الصحفي اليومي، فهو الدينامو المحرك لمجلة «الغد»، المجلة الرصينة التي يصدرها ويرأس تحريرها الدكتور حمود العودي.

كان محمد أواخر السبعينيات ما يزال طالباً في الجامعة، ويعمل في صحيفة «التعاون» ومجلة «الغد».

كان الطالب المجد من اوائل المنخرطين في العمل النقابي الصحفي. فهو عضو عامل في جمعية الصحفيين، ربما منذ التأسيس (1976). وهو أيضاً عضو سري نشط وفاعل في الحزب الديمقراطي الثوري الأوسع عضوية والأكبر فاعلية وتأثيراً في كل الأحزاب السرية اليسارية.

- عبدالباري طاهر

لم يكن انتماؤه الحزبي معروفاً إلا في إطار الناشطين في الخلايا السرية. وقد أفاده ذلك في توسيع دائرة نشاطه النقابي الصحفي. ففي انتخابات العام 1980 فاز بعضوية الهيئة الإدارية لنقابة الصحفيين. وأصبح المسؤول الثقافي للنقابة. وكان الأستاذ ابراهيم المقحفي ومساعده الفقيد منبه ذمران هما القيادة الجديدة.

هناك قضية أو سمة ميزت العمل النقابي بصورة عامة سواء في اتحاد العمال أو الأدباء أو الأطباء أو الصحفيين، وهي أن حظر العمل الحزبي وتجريمه (باعتباره خيانة عظمى) قد دفع بالأحزاب المحظورة والحزبيين للعمل من خلال النقابات والاتحادات باعتبارها المجال الوحيد المفتوح لممارسة العمل السياسي، فالتحق العديد من الناشطين الحزبيين بالمجال النقابي. وكانت عيون الأمن والمخبرين السريين مفتوحة على الميدان الوحيد الموارب: النقابات.

لم يكن اختيار محمد علي قاسم مسؤولاً ثقافياً في النقابة اعتباطياً؛ فهو على تواصل مع الجامعة ومع أساتذتها ومع المجلات، ومنغمس في الهم الثقافي والسياسي حتى أذنيه.

لا أتذكر أن محمد علي قاسم قد تعرض لاعتقالات قبل العام 80. ومعرفتي به تعود إلى الأعوام الأخيرة من السبعينيات. ولعل أكثر الزملاء ارتباطاً ومعرفة به، الزميلان العزيزان: محمد علي الشامي، ومحمد لطف غالب عضو البرلمان السابق. فقد عايشاه أكثر مني.

بعد طردي من صحيفة «الثورة» بطريقة درامية، تحمس الأستاذ الكبير الفقيد عبدالحفيظ بهران، أمين عام الاتحاد العام للتعاون، وسانده الاعزاء الدكتور حمود العودي وعلي الحرازي، فانتُدبتُ للعمل في صحيفة «التعاون» التي كان يصدرها الاتحاد ويرأس تحريرها الصديق الحميم الصحفي القدير الفقيد عبدالوهاب المؤيد وهو المسؤول عن الإدارة الاعلامية للإعلام. فعملت إلى جانبه في المكتب والصحيفة. وكان ابن قاسم يعمل كسكرتير تحرير لمجلة «الغد»، وقد تميز ابن قاسم بالصمت والكتمان والحيوية والنشاط، وهي أهم وأبرز صفات المناضل الحزبي في ظروف غاية في القسوة والارهاب.

كان المناضلون من أمثال محمد علي قاسم يخرجون من مخابئهم (شبه السرية) في النهار غير واثقين من العودة إليها في المساء. فالاعتقالات الكيفية، والتعذيب في المعتقلات، والصراع الدامي في الاطراف، وصراع الشمال والجنوب، والشمال والشمال والجنوب والجنوب، كلها تزكي العنف، وتجعل من العمل السياسي جريمة العصر.

وكانت اعتقالات الثمانينيات أكثرها بشاعة ودموية وضراوة. فقد بدأت الأدلجة والتخريب للصراع يتخذ بعداً خطراً. ووضع الاسلام السياسي حامي حمى المقدس في مواجهة الشيوعيين الملاحدة.

ربما كان صعود الفتى محمد إلى قيادة النقابة في انتخابات العام 1980 قد لفتت الانتباه إليه أكثر.

في مطلع العام 81 تم لقاء في عدن بين منظمة الصحفيين الديمقراطيين برئاسة النقيب زكي محمد بركات، الذي «لحسه الرفاق» في عدن في كارثة 86، وبين ابراهيم المقحفي ومنبه ذمران ومحمد علي قاسم هادي: القيادة الجديدة لنقابة الصحفيين في الشمال، للتحاور حول التوحد وهو الحوار الذي بدأ منذ نشأة الكيانين النقابيين. وكان الجاوي وعبدالله الوصابي (أول نقيب للصحفيين في الشمال) وأحمد قاسم دماج (أحد أهم المؤسسين لاتحاد الأدباء والصحفيين)، من أهم الداعين والداعمين للتوحد.

ترافق وصول المقحفي ومنبه وابن قاسم مع مؤتمر اتحاد العرب الذي انعقد في عدن. وكنت عائداً من تونس بعد المشاركة في اجتماعات الاتحاد العام للصحفيين العرب. وفي خاتمة التحاور بين الصحفيين صدر بيان عن التوحيد فيه قدر كبير من تبني موقف الاشتراكي، ولا يمكن بحال أن يقبل به الشمال. وهو بيان يضع ممثلي النقابة في الشمال في دائرة الخطر. وفزع الزملاء. والتقينا، وذهبنا معاً، فالتقينا بالدكتور محمد قاسم الثور عضو المكتب السياسي حينها والأقرب للاعتدال في صراع أجنحة الاشتراكي. وتبنى رؤيتنا لإدراكه الأوضاع في الشمال وخبرته النقابية. ولكن البيان لم يُعدَّل لوجود أطراف نافذة في الحزب تدفع إلى المواجهة، وربما توخت من توريط قيادة النقابة في البيان إرغامهم على البقاء في عدن.

وصدر بيان تكذيب من صنعاء، وأن البيان لا يمثل النقابة. والحقيقة أن البيان/ المكيدة كان زائفاً ومفبركاً يهدف إلى توريط الزملاء. وهو ما حدث فعلاً. فما إن عاد الوفد إلى صنعاء حتى أُقصي المقحفي ورُكن جانباً بعد الوعيد والتهديد. أما منبه ذمران ومحمد علي قاسم، وهما العضوان الحزبيان في «الوحدة الشعبية»، فقد جرى اعتقالهما فور عودتهما، ونكل بهما أي تنكيل!

حينها تسربت أخبار (نتمنى أن تكون كاذبة) أن محمد علي قاسم هادي قد قتل تحت التعذيب هو ورفيقه المهندس الزراعي محمد عبدالقاهر. أما منبه ذمران فقد خرج مدمراً وشبه ميت، ولم يمكث بعد الخروج من الاعتقال إلا مدة قصيرة كان (خلالها) يتردد على الاطباء والمستشفيات حتى لقي ربه. وأصيبت العائلتان بكارثة حقيقية. فأسرة ذمران الصحفي الكفؤ في وكالة «سبأ» للأنباء فقد فقدت بضربة واحدة منبه ذمران ويحيى محمد صالح الخاندار الذي قتل في جولة من جولات صنعاء ذات مساء آثم. ويموت منبه ذمران من آثار التعذيب. ويعاني فائز ذمران حتى اليوم من التعذيب النفسي والجسدي. ويختفي أي أثر للصحفي الشاب محمد علي قاسم هادي.

يتصرف مسؤولو الاجهزة الأمنية اليمنية وكأنهم سباع غابة. فأرواح البشر لا تعني لهم شيئاً. ويصبح القتل والاغتيال والتعذيب كقهوة الصباح، لذيذاً ومنعشاً.

مرة أخرى أجدني ملزماً بشكر العزيز سامي غالب وصحيفة «النداء» في فتح ملف «المخازي الحبالى» كتسمية الرائع يوسف الشحاري ضابط الأمن بل أحد مؤسسيه الذين عانى من هذا الجهاز كثيراً حتى رحيله. وأتمنى على زملائنا في نقابة الصحفيين والأدباء والمهندسين والمحامين أن يهتموا كثيراً بقضايا القتلى والمغيبين، فنحن لن نحمي أنفسنا بالخوف، فالذئاب لا يزيدها مرأى الدم إلا هيجاناً وسعاراً.

وإذا ما استطاع جيلنا تلجم وحوش الدماء «المعمدة» فإننا نكون قد حمينا أنفسنا وحميناهم ايضاً. لأن حديثهم المسهب بزهو عن الدم المعمد، يجعلهم صناعاً وضحايا في آنٍ. وعظات وعبر التاريخ كثيرة. ولكن الميزة الحقيقية لعظات التاريخ لا يتعظ بها أحد، كرؤية الفيلسوف الألماني هيجل.

***