«النداء» كـ«مهدد بالاختفاء القسري»..  ضد الاشمئزاز، وبحثا عن طرق للتطمين

(7)المختفون قسرياً

الانتصار للضحايا لا يعني حفر قبور لجناة نفذوا أمر قيمنا الحاكمة..

«النداء» كـ«مهدد بالاختفاء القسري»..  ضد الاشمئزاز، وبحثا عن طرق للتطمين

نبيل الصوفي

ليس الوقت ملائما لتبادل المجاملات بشأن جمل وأفكار احتوتها افتتاحية ما نشره العدد الماضي من "النداء"، بشأن ملف المختفين قسرياً. الأهم بالنسبة لي أنها ورغم شكواها الحادة من "شياطين التأويلـ" بما هي الطابور الأول، والأكثر جاهزية ومبادأة، في جيوش دويلات الحرب، المشتبكة غالباً، والمتعايشة أحيانا داخل الوطن الافتراضي. لم تغرني أبدا على مجرد التعاطف.

الشكوى، ولجديتها، جعلتني أصطفّ مع "الضحايا"، ولا أقصد بهم ضحايا "الإخفاء"، بل ضحايا "الكشف". فهم وإن كنت متفقا مع زميلي سامي غالب على أنهم دأبوا "على مدى سنوات، على تطوير آليات حمائية تحول دون تسرب ضحايا الاختفاء القسري إلى «سوق السياسة» التي يتوزعها حفنة من الكبار (الصغار) لا يقيمون وزناً لحقوق المواطنة في تجاذبهم وتنافرهم". فإني أعتقد أن علينا –ونحن نتحدث عن قيم جوهرية لم تكن حاضرة إلا بقدر كونها أداة لتمرير السياسة، كالعدالة والإنصاف والمصالحة مع القيم والقانون لا مع الأشخاص والمواقف والتحالفات- أن نسعى أيضا لتطمين الكان جانياً بأننا ومهما كان موقفنا ضد ما ارتكبه لا نهدف لـ"تكرار فعلته" عبر تحويله هو إلى ضحية. إذ نعرف تماما أن الحركات الوطنية في العالم الثالث لطالما عذبت من اتهمتهم بالتعذيب، وانتهكت حقوق من تتهمهم بانتهاك الحقوق، وهي لعبة في تبادل الأدوار يجب إيقافها، إن أردنا فعلا التأسيس لعهد لا اختفاء فيه.

لا أقول هنا ما يناقض الشكوى، فلقد تمسكت هي بقيم من قبيل "التغطية الموضوعية المعمقة والمستمرة، المنزهة من التحيزات السياسية والعقائدية"، وهي قيم جليلة، باعتقادي أن غيابها هو سبب تتويج نضالنا الدائم بالإخفاقات، مقابل احتفاظ "الثوابت الوطنية والقضايا الكبرى بقوتها الأدائية الرهيبة، عابرة الأزمان والمصالحات والاتفاقات"، صانعة الكوارث ذاتها، ولكن بمبررات تختلف حسب لون وراية كل فترة وعهد. لكنها تحافظ على ذات الأساليب. (شعرت بالقشعريرة وأنا أستمع لقادة من حماس وهم يتباهون بما يقولون إنه صور مخلة بالشرف لخصومهم السياسيين!! وتذكرت كم مرة حدث ذلك صانعا الإخفاق المادي وليس فقط القيمي للعرب والمسلمين، مع الاعتذار لعظماء تلكم الحركة وحكمائها الأحياء منهم والأموات بالطبع).

باعتقادي أننا –كمجتمع وليس كصحيفة، بل وبدعوة منها- مطالبون بأمر هو شديد الحساسية، يتعلق بحاجتنا الحقيقية لوضع مسافة بين الحق والجنحة. ولذا فإني أتعاطف مع "الجناة" وهم يدينون تصدر "النداء" للدفاع عمَّن يعتقدونهم "مجرمين وأعداء للأوطان وللمصالح العليا" يوم كانوا أحياء. ومكمن تعاطفي لا يصل حد إدانة "النداء" وهي تقوم بواحد من أفضل وأهم أدوار الصحافة، وإنما فقط لفت الانتباه إلى أن محاكمة الأمس بمنطق اليوم لا تحقق الإنصاف مطلقا، وإنما تمد عمر الإرباكات. أتحدث هنا عن خطورة أن يتحول كل مختفٍ –بما هو عرضة للعقاب- لبطل قومي مجرد من الأخطاء، إذ لا بد من الإقرار أن الجميع يومذاك كانوا في سباق على الانتهاك وأدواته، والفرق فقط أن من سبق وامتلك الأداة نفذ بخصمه ما يعتقده عقابا طبيعيا.

ثم إن "جناة" الزمن القديم، لم يكونوا خارقين للثقافة العامة وللتعاليم الأيديولوجية، بل لقد كانوا أوفياء للتجربة السياسية للثورات العربية، بل وللنصوص القانونية والتشريعات الدستورية. ومن هنا فأعتقده تجنيا أن يطلب منهم وبشكل شخصي أن يدفعوا الثمن، لمجرد أن الحياة القانونية والحقوقية والسياسية الوطنية قد تطورت أو بالأدق "تغيرت".

إننا لن نحقق عدلا لـ"فلان" بما أنه "ضحية" إلا عبر مساواة حقيقية بين الحقوق والواجبات، ووضع أبعاد محددة ومتساوية الأضلاع بين الأداء والوعي العام من جهة، والأداء والوعي الشخصي من جهة أخرى، سواء تجاه "الضحية" أو "الجاني".

أعتقد إننا حينذاك لن نجد مسؤوليات فردية تستحق أن نخوض أشواطا إضافية من الانتهاكات والصراعات والتهديدات بين الجناة والضحايا، خاصة في اليمن التي لم يكن لمثل تلك الممارسات إرث اجتماعي فني، خلافا للإرث الإطاري أو النظري، لكنها نتجت عن مشروع دولة الثورة الجنوبية أو الشمالية وما رافقه من تصدر تقنيات "ثورية" لحماية المصالح والأفكار في العالم المحيط، وكلٌّ تجاه خصومه، هذا من حيث المبدأ، وبالطبع لا بد أن هناك استثناءات، لكننا لا نتحدث عن ذلك.

هل لديَّ جموح لأكون أداة تعذيب إضافية لأهالي الضحايا؟

للتمسك بحقي في الدفاع عن رأيي، ورفض تهديدي بمصير المختفين بحجة الدفاع عنهم، فسأجيب بـ"لا". وأعتذر من نساء ورجال حفر العمل السياسي والنضال الوطني معالمه في حياتهم الشخصية عبر أقذر الأدوات وأكثر نتائجها كارثية. خاصة وأنهم –اليوم، واستنتاجا مما ينشر- لا يطالبون سوى بمعرفة مصائر ذويهم، وغالب بل كل من نشر عنه حتى الآن لم يعرف بأدوار سياسية وقيادية، بل لعلهم كانوا ضحايا أخطاء ولربما صراعات شخصية.

لكننا في مرحلة تأسيس حقوقي تربوي، وما لم نقر بذلك، ونكتفي بالتحايل على الموانع منها أولا، فإننا سنقع في "الأفخاخ" التي لطالما نصبتها السياسة للحقوق وللقيم بمجملها.

إننا جميعا ما زلنا غير قادرين على تحقيق المبدأ المجرد "ولو على أنفسهم". ولن نعدم أمثلة لمن يطالب منا بالحرية ثم يضيق بأبسط واجباتها حين يكون هو الطرف المتضرر –حسب اعتقاده- منها، ومن يطالب بالعدل، وهو لديه فقط سلاح للدفاع عن الذات. أما بشأن الآخر وبخاصة المختلف معه فالعدل يصبح فائضا مؤذيا من المطالب. ومن هنا فلا مناص من تجنب الشعور بالاشمئزاز مهما كانت ردود الفعل، إلى البحث عن "غرس" عوامل للطمأنينة لدى الجناة وهم نحن جميعا، بالمعنى التربوي والثقافي، بأننا نسعى فقط لقلع الثقافة الصانعة والمنتجة والحامية لتلك الانتهاكات، بانتظار مرحلة أخرى تكون الانتهاكات صارت "جنحة" سياسية واجتماعية، وليست فقط قانونية كما هو حاصل الآن، ليحق لنا بعد ذلك أو لضحايانا أن يحاكمونا أخلاقيا وقانونيا. أو أن نحاكمهم هم بذات الأدوات حتى لا تصبح القيم وسيلة الضعفاء فقط ليصبحوا الأقوياء.

لعل هذه هرطقات، لن تفضي إلا لتعويم المسؤولية. لكني ومن موقف الإصرار على أن "العدالة الانتقالية" بمفهومها الفني، هي ذكاء إنساني يستجيب للخصوصيات الاجتماعية والثقافية، أعتقد أننا نريد، أولا: الانتصار لأهالي الضحايا الذين لا يستطيعون بالضبط تحديد "وضعية" مفقوديهم. وثانيا: إيقاف عجلة الاستهتار بحياة الناس وبخاصة منهم، بل وقصرا المعارضين سياسيا أو فكريا لمراكز القوة في الحكم أو في المجتمع، ومنع شهوة الانتقام سواء تلبست بدعوى الدفاع عن المصلحة والقانون، أم بالثأر لهذه المصلحة والقانون مع تبدل الأدوار والإمكانيات.

وثالثا: حماية الجناة من مصير مشابه للضحايا، وإخلاء ساحتهم من المسؤولية الأخلاقية، وبشكل غير مباشر، خاصة من يساعد منهم بما لديه من معلومات عن الضحايا.

ورابعا يأتي الانتصار للضحايا، والذين لن تعود من أزهقت أرواحهم. ويمكن القول وبصوت خاشع خجل، إن تحويل تضحياتهم إلى إرث عام، وحق عام، يسعنا جميعا كجناة عليهم -مع تخليد تجربتهم- وحدها الوسيلة لأن تضيء للبلاد حياة آمنة من الكوارث.

خلاصة الأمر أن المطلوب، أو المقترح هو أن لا "تحيا أسر الضحايا وحدها في الماضي"، ولا أن "تجرنا معها لنحيا الماضي"، بل فقط أن ننتقل معا لنحيا الحاضر والمستقبل مستضيئين بتضحيات كل يمني كان ضحية، بتخليد حياته التي دفعها ثمنا لأخطائه وأخطاء خصومه، أو جانيا، بحماية إنسانيته التي سلبتها معتقداتنا وإرثنا وصراعاتنا فاعليتها يوم لم نكن نؤمن بأن أي عقوبة تتجاوز الجنحة تصبح جرما يسقط عن فاعله أي دعوى بالفضل والفضيلة.

***