محارب وحيد أمام شاشة تلفزيون

محارب وحيد أمام شاشة تلفزيون - سامر أبوهواش*

وها أنا، منذ ساعات ما عدت أحصيها، أجلس أمام التلفزيون، شاعراً أنه "سلاحي" الوحيد. هذه الفضائيات العشر التي أتنقّل بينها هي ساحات مواجهتي البائسة، وذلك الريموت كونترول المتعرّق من شدّة التصاقه بيدي هو ذخيرتي الوحيدة أو ما تبقّى منها، وهو أيضاً قوة الجاذبية التي تلصقني إلى الكنبة، وإلى الغرفة، والعالم. وأشعر أنني جندي تركته الحرب في خندق من عراء. جندي بعينين مفتوحتين فقط.
وهناك، تلك اللحظات القليلة، التي تعبر بالك سريعاً فلا تحس بها إلا بعد حين، حين لا تعود تعرف تماماً ما تحسّ به، أو ما ينبغي أن تحسّ به أو حتى ما كنت تحسّ به قبل قليل. هكذا تماماً كامرأة تتعرض للاغتصاب، تختلط مشاعرك أمام الصور التلفزيونية الفادحة المنهمرة عليك، فتروح تتنقّل بين كرهها هي وكره نفسك بسببها. وما الذي يمكنك أن تفعله أمام التلفزيون؟ هل تمدّ رجليك باسترخاء مثلما كنت تفعل في العادة، في الأيام العادية، مدخناً سكائر المساء، زائراً المطبخ من حين إلى آخر لكي تجلب كأساً، أو تجدد أخرى، أو تعدّ طعاماً خفيفاً؟ هل تزعم لنفسك أحوال النازحين وأولئك المرتجفين في بيوتهم الهشة في قراهم ومدنهم المحاصرة، فلا تمنح نفسك مثل هذه الملذات البيتية الصغيرة التي هي من علامات العيش العادي؟ ما الذي تفعله إذاً، أنت "المحاصر" أمام التلفزيون في أوقاتك الفارغة هذه؟ تتصل بصديق تتشارك وإياه هموم الأحداث، صارخاً وشاتماً ومتحمساً ومحبطاً وسوى ذلك من أحاسيس متعارضة تحلّ بك وبجميع من حولك؟ هل تكتفي بعينين تغرورقان دمعاً أمام مشهد جثة طفل؟ هل تذهب إلى حدّ البكاء؟ وماذا بعد؟ ما هي إلا لحظات عابرة تعود بعدها إلى مزاولة عملك كمشاهد بدوام متقطع. تقفز من "خبر عاجلـ" على إحدى الشاشات إلى "خبر عاجلـ" على شاشة أخرى. تروح تصرخ محيياً هذا "المحلل السياسي" أو ذاك بسبب صوابية ما تفترضها في كلامه وفي منطقه، أو تشتم محللاً آخر بسبب خبث ما في مواقفه وتحليلاته. ثم كالعادة تصاب بالإعياء، بلحظة الفراغ الكبرى، وتعاود الإرتطام بالجدار نفسه. الجدار الميت، نفسه.
نحن الكائنات التلفزيونية، الحشرات التلفزيونية، الطفيليات التلفزيونية، نشعر إذا ابتعدنا عن الشاشة قليلاً، بتلك الحكة الجلدية التي يشعر بها المدمن، دمنا ينادي على المشهد وعلى الخبر، نشعر بالاختناق إن لم نتلق جرعتنا الاعتيادية منه، بل إننا أصبحنا، يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، بحاجة إلى جرعات أكبر تغذي إدماننا المتعاظم. قصف "حيفا" أصبح خبراً قديماً، جرعة قليلة، ومثله تدمير البيوت والبنى التحتية اللبنانية، والضحايا الذين بالمئات، استهلكناها بسرعة، وها هو دمنا التلفزيوني يصرخ مطالباً بالمزيد. نريد صاروخ "زلزالاً"، وتل أبيب، والاجتياح البري، نريد المفاجأة الجديدة. نحن أطفال التلفزيون نعشق المفاجآت التي باتت قوت يومنا ومقياس أوقاتنا. قبل النوم، نقوم بجولة أخيرة بين الشاشات علّنا نعثر على "المفاجأة"، وحين نتأكد من أنها لم تأت بعد، نمضي إلى الفراش مطمئنين، لنهرع لحظة استيقاظنا صباحاً ونقوم بالجولة الصباحية، علّ بابا نويل المفاجآت هبط خلال نومنا من مدفأة الشاشة وترك مفاجأة لنا. نتناول طعام الغذاء بسرعة وكأننا نوهم أنفسنا بأننا نعيش حقاً إيقاع الأحداث، وإذ لا نرى جديداً حقيقياً أو تطوراً جوهرياً في الأحداث، نشعر بنوع من خيبة الأمل، وبأن غيابنا المؤقت هذا عن الشاشة، بسبب أعمالنا ووظائفنا وأشغالنا الأخرى، لا بد من أنه السبب في عدم حدوث الأحداث نفسها. نحن أبناء التلفزيون نشعر أن العالم يتحرّك بقوة أعيننا وحدها. وهو الألم، ذاك الذي لا يتوقف عن اجتياحنا والتوغّل فينا، ولا شيء آخر. وهو ألم الانفصام. وألم المشهد، الألم الفائض عن المشهد، وهو أولاً وأخيراً ألم عجزنا الذي لا ينتهي.
وعلى الشاشة ثمة من يصرخ أو يهمس دعماً للمقاومة. وثمة من يهمس أو يصرخ إدانة للمقاومة. وعلى الشاشة "ثورجيون" و"عروبيون" و"مغامرون" "وصامدون". وعلى الشاشة "ليبراليون" و"عقلانيون" و"واقعيون" و"استسلاميون"، وعلى الشاشة "إنسانيون" و"محايدون" "ومنطقيون" و"حائرون". وعلى الشاشة جنون يتصاعد وخراب لا ينتهي. وأنت عالق هنا بين الريموت كونترول، وبين هؤلاء جميعاً. وتحلم بأن تنام نوماً طويلاً يختفي معه كل هذا. وتحلم بسرير لا تزاحمك عليه آلاف الجثث. وتحلم بحياة تافهة، حياة تمر فيها الأيام مثلما ينبغي أن تمرّ، مثلما تمرّ على بشر آخرين، في أمكنة أخرى من الكوكب. لكنك تعرف أنك تحلم، وأن ما تراه على الشاشة ليس وهماً، بل الواقع مقطعاً إلى أوهام صغيرة؛ لأنها الحرب التلفزيونية كذلك: الواقع مقطعاً إلى أوهام صغيرة، أوهام انتصار أو هزيمة، حق أو باطل، أمل أو يأس، ليل أو نهار، إحساس أو خدر، لأنه في النهاية ليس إلا ذلك الضوء الأحمر الصغير الذي يومض على زاوية التلفزيون، وعلى رأس الريموت كونترول.. وفي النهاية يقتل من يقتل، ويهجّر من يهجّر، ويدمّر ما يدمّر، هناك، في العالم الحقيقي، وراء زجاج الشاشة، حيث لا تصل عين، ولا يرفرف قلب، ولا يومض ضوء.
 * شاعروكاتب فلسطيني - عن موقع كيكا