قوة إسرائيل

قوة إسرائيل - عبدالعزيز المجيدي

أكملت إسرائيل جولتها الدامية في غزة. وكالعادة، بينما ذهب الجيش الإسرائيلي وحكومته لتقييم نتائج عدوانه على القطاع، انغمس الفلسطينيون والعرب في متاهة محرقة إضافية: الانكباب على تعميق الانقسام.
على الدوام تفرض إسرائيل على العالم القبول بسياستها تجاه الفلسطينيين والعرب، وهي لا تفعل ذلك لأنها تحظى بدعم أمريكي وأوروبي، بل لأن أعداءها المفترضين هم أول من يمنحها أسباب التفوق.
منذ نشأة هذه الدولة عام 48م وهي تلقن المنطقة بأسرها كل ما تجسر على فعله.
برغم محاولات التقليل من شأن ما حصدته إسرائيل طوال الحروب التي خاضتها مع العرب، فإن هذه الدولة العبرية كانت تحقق الكثير من أهدافها. ما حدث في غزة مؤخرا يؤشر بدرجة رئيسية إلى أي حد بلغت سطوة هذه القوة الغاشمة على المنطقة.
لم يبدأ العرب في محاولة تحسس مكمن قوة هذه الدولة أبعد من الميركافا ومفاعل ديمونه. وببساطة فإن الجميع يؤشرون دوما إلى الغرب كمصدر رجيم لكل عربدات هذا الكيان الاستعماري، ثم يغرقون في سبات أبدي. هذه هزيمتنا الغافية في الأعماق منذ ظهور هذا الكيان الغاصب.
لأسباب مرتبطة بالمصالح بدرجة رئيسة، فإن إسرائيل تتلقى دعما ضخما من الغرب، وخصوصا من أمريكا. ذلك بالتأكيد مؤثر في ميزان القوى في المنطقة. لكن العرب ينصرفون عن الخوض في عمق قوتها الفتاكة الأخرى.
إسرائيل هي في الأساس جمع من مهاجرين قدموا من أصقاع الأرض؛ لكن هذه الدولة حققت اندماجا بين مكوناتها العرقية إلى حد كبير. ذلك لا ينفي أن أشكالا من التمايز داخل المجتمع الإسرائيلي مازالت ماثلة. ومع ذلك فهي ليست مصدر تهديد لكيان الدولة، كما يحدث الآن في مناطق عربية مختلفة.
لقد استطاع المجتمع الخليط أن يؤسس لكيان يقوم بدرجة رئيسية على قيمة أخلاقية نحاول التقليل من شأنها عند كل سانحة: كرامة المواطن الإسرائيلي (اليهودي). وقد أنجز هؤلاء القادمون على ظهر أساطير دينية استقرارا سياسيا داخليا في جانب الصراع على السلطة، حتى في أحلك لحظات المواجهة مع العرب.
تدور بين هؤلاء القوم معارك سياسية شرسة، وينقسم الجميع إلى تيارات متباينة؛ لكن الجميع لا يذهبون إلى أسلحتهم وكتبهم الدينية لحسم الخلاف، بل إلى صناديق الاقتراع.
خاضت إسرائيل حتى الآن أكثر من ست حروب متقطعة مع العرب، وهي في حالة مواجهة شبه دائمة مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. خلال ذلك داومت السلطات هناك على العودة إلى الشعب اليهودي لاختيار قيادة حكمه.
في خرائط المواجهة المزدحمة بالقمع وأنظمة الاستبداد، كان الناس مغيبين، ومازالوا راسخين في الغياب، وعلى ذلك تتناسخ الأنظمة تلو الأخرى. كانت الذريعة الجاهزة سابقا -ويا للدجل والاستغفال!- التفرغ لمواجهة العدوان. حتى هذه الذريعة المتلفعة بالقضية ماتت وحل بدلا منها هذا الهراء المقيم على العروش.
كم رئيسا لإسرائيل جاء وذهب في الزمن الذي استغرقه ولا يزال حسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح من عمر شعوبهم؟!
لا يجرؤ أي مسؤول إسرائيلي على تقطيب وجهه في مواجهة مواطنيه. مقابل ذلك فإن البلاد والعباد في كل العواصم العربية ملك يمين الحاكم وأولاده.
كجنرال حرب متمرس وقائد سياسي، حقق شارون لإسرائيل الكثير. وعندما وقع نجله جلعاد في شبهة فساد، لم يشفع كل ذلك التاريخ في خدمة إسرائيل لإبقاء الابن بعيدا عن سلطة القانون، وخضع للتحقيقات أثناء حكم والده. ومنذ ثلاث سنوات يرقد القائد الإسرائيلي في غيبوبة دخلها وحده، بينما لم تدخل إسرائيل إلى الطوارئ التي تسيطر على العواصم العربية.
وقبل أكثر من عام كان الرئيس الإسرائيلي موشيه كاتساف يقدم استقالته مجبرا، فقط لأنه تحرش بامرأة جعلت مواطنيه يشعرون بالخزي، ثم يمضي إلى مصيره.
هنا تواجه كل ملاييننا الهادرة أكثر من التحرش وأكثر من الاستعباد. ويداوم كل زعيم عربي على ظهر شعبه يوميا كقدر محتوم.
عندما اجتاحت إسرائيل غزة، ونشرت كل ذلك الموت، خرج الناس في كل بقعة من العالم للاحتجاج. نحن خرجنا أيضا، والمظاهرات فعل جيد؛ لكن هل نستطيع أن نخرج فقط، بعيداً عن مشاعرنا الدينية والقومية، كون ما يحدث مهينا لكرامة البشر. لا يبدو أننا سنفعل شيئا مماثلا إذا حلت مصيبة مشابهة في بوليفيا مثلا.
لم تعبأ إسرائيل بكل تلك الحناجر المحتشدة في العواصم العربية، لأنها تدرك جيدا حجم تأثيرها على قرارات الحكام، بل بدت مذعورة من كل ذلك السخط الذي توزع شوارع لندن ونيويورك، لأنها تعرف جيدا مقدار تأثير الاثنين. ثم إن الجماهير العربية نفسها ظالمة. كم مظاهرة في العواصم العربية تحركت من أجل دارفور وصعدة؟!
بين حنايانا بذرة نصر إسرائيل. إنها كرامة الإنسان المنتهكة.
لتبرير جرائمه ضد شعبه لا يحتاج أي نظام عربي إلى الكثير. نحن جاهزون في بنيتنا الثقافية، لأنّا نسوّغ القتل والمصادرة للمختلف، سواء في الدين أم المذهب أم الطائفة، وحتى المنطقة. وتحت دعاوى حماية الأوطان يُقتل الناس فقط لأنهم يمكن أن يكونوا مشكلة للحاكم وليس للوطن.
ستظل إسرائيل موعودة بالمزيد من الملاحم لبسط سيطرتها على المنطقة، طالما استمر كل هذا التنكيل بالإنسان العربي على يد حكامه.
ما نحتاجه هو تكريس ثقافة التعايش بين مكونات الدول. يجب أن يكون حق الحياة مقدسا للجميع، باختلاف أفكارهم ومعتقداتهم. وحين ترتفع حساسيتنا حيال هذا الحق والدفاع عنه يمكن أن تبدأ إسرائيل بالإعداد للرحيل. وحدوث ذلك يعني أن الناس سيمضون صوب تتويج إرادتهم في الحكم.
aziz_ziMail