النظام الوطني في اليمن.. ل: عثمنة الدولة والمجتمع - صادق عبده علي قائد

النظام الوطني في اليمن..ل: عثمنة الدولة والمجتمع - صادق عبده علي قائد*

مصطلح العثمنة هو مصطلح حديث قمنا باستحداثه أثناء دراستنا للتاريخ اليمني سواء في حقبة المملكة المتوكلية 1919-1962، أو في عهد الجمهورية اليمنية منذ حرب 1994، ومصطلح العثمنة جاء ليحل محل التقويمات السياسية للنظام البائد، مثل النظام الرجعي والمتخلف الذي عرف به النظام الإمامي في مختلف الدراسات التاريخية، فضلاً عن ذلك جاء ليحل محل نظام الوحدة الشرعية في وقتنا الراهن، والمصطلح على هذا النحو تم توصيفه من قبل بعض أساتذة جامعة صنعاء الذين أجازوا البحث لنشره في مجلة سبأ في جامعة عدن، بأنه يمثل فرضية جديدة في كتابة التاريخ.
اليمني المعاصر. والعثمنة تعني بأن اليمن في المدة المذكورة آنفاً -كانت -ولازالت- متمسكة في تسيير شؤون حياتها بالنظام والقوانين المتعارف عليها في الحقبة العثمانية في القرون الوسطى، التي من مظاهرها انعدام المواطنة المتساوية في اليمن (مجلة سبأ، العدد 12، يوليو 2003، ص 229)، والتي تبرز من خلال ممارسة سياسة الاستعلاء التي تمارسها الفئات المتنفذة في النظام منذ انتصارها في حرب 1994، مثل نهب الاراضي والاستحواذ على الوظائف في مختلف أراضي الجنوب... إلخ (انظر مؤلفنا: الخبرة السياسية البريطانية في عدن). وهذا يعني بأن جهود النظام القائم متواصلة لعثمنة المجتمع حاضراً ومستقبلاً.
ويمكننا استقراء الواقع السياسي للعثمنة من خلال تعرفنا على طبيعة السلطة الحاكمة التي تحصر وظائفها ومسؤولياتها نحو رعاياها في ثلاثة أمور، هي أن واجب الجيش حفظ الأمن في الداخل من خلال التصدي بعنف للهبات الشعبية التي تطالب بحقوقها المشروعة ورفع الظلم عنها، وأن تتولى أجهزة الأمن مهمة تحصيل الضرائب المستحقة حتى وإن ضاعت معظمها في بطون الفاسدين والمتنفذين، وأن يقوم النظام بمهمة الفصل في الخصومات بين الناس بما يضمن استنزاف أموال المتخاصمون (مجلة "سبأ"، العدد 14-15، يوليو 2007، ص 307). أما الوجه الثاني للعثمنة فيرتكز على تحول السلطة الحاكمة في بلادنا إلى قوى أخطبوطية تحتكر التجارة وتسيطر على كل القطاعات الاقتصادية منفردة أو بمشاركة تجار فاسدين ومفسدين انعكست في تدهور الأوضاع المعيشية للشعب -وكأن الماضي مرآة للحاضر- وقد تصدى علماء الدين في صنعاء لهذه الظاهرة في الحقبة الإمامية عندما طالبوا في البند الرابع من عريضتهم إلى الإمام يحيى بن حميد الدين «منع كل ذي سلطة عن الخوض والتدخل بالتجارة في الرعية ومزاحمة الناس بالمناكب في معيشتهم ومهنهم، كما نهى عن ذلك الرسول الكريم... وتوعد وأنذر من لم ينته عن الإضرار بالمسلمين». (مجلة "سبأ"، العدد 12، ص 200).
 إن استمرار هذا المنهج المغلوط الذي يسيء لدور السلطة السياسية في المجتمع يفسر لنا تخلي الحكومة عن حماية مواطنيها وتركهم نهباً للغلاء الفاحش المتصاعد يومياً، لتحول حكامنا الذين يقع عليهم واجب مراعاة مصالح الأمة إلى تجار يهرعون دوماً وراء الكسب السريع.
بينما المظهر الثالث للعثمنة - كان ولايزال- هو تدني أجور الموظفين ورجال الأمن، ولعل هذا ما دفع رجال المعارضة في بداية الاربعينات لمطالبة الإمام «بالنظر في تحسين أحوال أرباب الدوائر الحكومية كلها بلا استثناء بزيادة معاشاتها سداً لباب ذريعة الرشوة ونهب الضعفاء»، وهذا المظهر يجد انعكاسه في وقتنا الراهن من خلال إشاعة ثقافة الفساد بين موظفي الحكومة وجمع أموال الحرام دون واعز من ضمير أو دين، بل إن الفساد والإفساد غدا وسيلة لا غنى عنها في تسيير أمورنا اليومية.
والحقيقة التي نود الاعتراف بها أن المعارضة الوطنية للنظام الإمامي كان لها مبادئ وطنية مناهضة للسلطة الإمامية لازالت صالحة في وقتنا الراهن، بأن نضالها كان ينطلق بالأساس «لوقوف النظام عائقاً أمام تحديث البلاد واحتكار التجارة من قبل السلطة الحاكمة ومجموعة من كبار التجار والموظفين (أ)، ولفساد الحكم وانعدام المشاركة السياسية للفئات المستضعفة داخل المجتمع واستبداد وظلم النظام للمواطنين لاسيما فيما يتعلق بتقدير وجباية الضرائب، وكذلك التفرقة بين فئات المجتمع والطوائف الدينية، وسوف يترتب عن مثل هذه السياسة بروز سخط عام وسيظل يتعاظم إلى درجة حدوث أحداث وحركات سياسية مهمة ستساهم في تغيير النظام (ب)، والنظام في الجمهورية اليمنية أو نظام الوحدة الشرعية في وقتنا الراهن يعتمد في عثمنته للحياة السياسية داخل الدولة والمجتمع، لأنه يستمد شرعيته وقوته من خلال التكوينات القبلية التي تتسم ممارساتها السياسية والاجتماعية بمناهضتها للوحدة الوطنية والتوجهات القومية. ولعل هذا ما جعلنا نحدد بأن وطنية العناصر المتنفذة في النظام باعتبارها (أي الوطنية) فضيلة الفاسدين» (انظر مؤلفنا: الخبرة السياسية البريطانية في عدن: السلطة التنفيذية، ص 329).
والمخارج الأساسية للوضع القائم المأزوم في اليمن؛ نعتقد بأن التعديلات الدستورية المتعلقة بالنظام السياسي للحكم ليصبح رئاسياً كاملاً والذي يستبدل فيه مسمى السلطة المحلية ويعدّل إلى الحكم المحلي، بأنها تفتقد للشمولية والمصداقية باعتبارها لا تعطي أدنى اهتمام لمعالجة واقع العثمنة الذي تعاني منه بلادنا لاسيما في مختلف المجالات الإدارية والاقتصادية والتعليمية والأمنية والإنسانية... الخ، وهذه الإصلاحات ضرورية جداً لخلق نوع من الانسجام والتفاعل بين البنية التحتية والبنية الفوقية داخل المجتمع. وعليه نرى من الضرورة بمكان أن تسعى السلطة السياسية في بلادنا لتنفيذ جملة من الخطوات السياسية التمهيدية ذات الطابع الوطني -القومي الذي يلبي مصالح كل عناصر المجتمع، مثل تعزيز العملية الديمقراطية كالفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية) بما يحقق سعادة الشعب ووحدته وبما يحقق اعتبارات العدالة بين المواطنين في مختلف مدن وقرى اليمن، والانتخاب العام الحر والنزيه، والمشاركة الشعبية الواسعة في اتخاذ القرارات المصيرية بهدف تعزيز دورها الفعال في تسيير شؤون الدولة في كافة المجالات، والتداول السلمي للسلطة، وأن يتم تطبيق بنود وثيقة العهد والاتفاق التي وقعت في عمّان عاصمة الاردن في 20 فبراير 1994، لاسيما فيما يتعلق بمبدأ المواطنة والحكم المحلي، ومحاربة الفساد من خلال تأسيس شرطة لمكافحة الفساد في مختلف المناطق اليمنية، تكون منفصلة انفصالاً تاماً عن السلطة التنفيذية أسوة بما كان موجوداً في الجنوب العربي عام 1963 بعد الإعلان عن قيام حكومة الاتحاد إلى أواخر عام 1967 (انظر مؤلفنا: الخبرة السياسية في عدن). فضلاً عن معالجة المشكلات الأخرى التي تمثل شكلاً آخر للعثمنة المحرمة دينياً وسياسياً مثل احتكار التجارة من قبل أرباب السلطة والمتنفذين في النظام... الخ.
وسوف نفرد مقالاً آخر نتعرض فيه بإسهاب لمعالجة الإشكاليات التي تغذي العثمنة وتدفع الوطن إلى مصير مجهول.
* أستاذ مساعد تاريخ حديث ومعاصر - جامعة عدن.