الشطر الثالث

الشطر الثالث - مصطفى راجح

كانت اليمن شطرين: شمالي، وجنوبي، حتى مايو 90 وبالتوازي معهما كان هناك شطر ثالث، مساحته الجغرافية سجون النظامين، وأماكن الاحتجاز السرية وغرف التعذيب. شطر ثالث توحد فيه المظلومون من ضحايا الأجهزة، في هوية واحدة أزالت البراميل، والفروق المصطنعة بين النظامين، هوية واحدة جمعتهم: «حقنا في الحياة».
شطر ثالث ضم في عضويته رواد السجون والمعتقلات في صنعاء وعدن، ضحايا الأمن الوطني وأمن الدولة، وتوابعهما.
إنهم المعتقلون السياسيون والمختطفون الذين غيبوا في إخفاء قسري لازال مستمراً حتى اللحظة، والنشطاء السياسيون الذين وجدوا أنفسهم وأسرهم ضحايا لقمع النظامين والصراع السياسي في فترة الحرب الباردة.
قامت الوحدة في مايو 90، وتوحد «سالم» و«حسين» وابتسموا، وأعلنوا إغلاق الملفات، وإلغاء جهازي الأمن الوطني وأمن الدولة، ومرحلة جديدة، دون أن يكلفوا أنفسهم مراجعة ملفات من دم ولحم. بشر لم يعرف مصيرهم منذ سنين عجاف، ولازالت جمرة الأسى في صدور أقاربهم، وأهليهم واحبائهم، وكأن العذاب كتب عليهم إلى مالا نهاية. لتحطم المشاعر الانسانية التي يثيرها بقاء مصير أنسان غامضاً ومجهولاً، في حالة هي أقسى من الموت.
صباح الاربعاء قبل الماضي كان يوماً مختلفاً في حياة أسر بعض المختفين قسرياً. يوماً مختلفاً، فقط لكونه أخذهم إلى منصة وأضواء وكاميرات ثبتت على وجوههم، ونقلت وجعهم إلى شركائهم في «الإنسانية»: الناس والمجتمع اليمني والدولي.
الندوة عقدت تحت عنوان: جلسة استماع لأقارب المختفين قسرياً، ونظمت بمبادرة من منتدى الشقائق وصحيفة «النداء»، وهذه الفعالية تتويج لجهد متميز لصحيفة «النداء» وطاقمها، الذين فتحوا الملف، وبحثوا عن الضحايا، وأجروا المقابلات وكتبوا عن عديد قضايا لمختفين قسريين، كاد أقاربهم أن يفقدوا الأمل في تضامن الناس معهم.
في منصة الندوة، تحدث رجال ونساء عن أقاربهم المختفين قسرياً، وهم ضحايا متنوعون من تيارات سياسية متعددة ومتناقضة، تم إختطافهم وإخفاؤهم حتى اللحظة، من قبل جهازي الأمن الوطني وأمن الدولة بشكل مباشر أو اختطفوا في ظروف الصراع السياسي، ومحطاته الأبرز في الشمال والجنوب، من السبعينات، مروراً بأحداث المناطق الوسطى، ويناير 86، وصولاً إلى حرب 94.
خديجة يوسف غلام محامية تحدثت عن شقيقها علي غلام الذي أعتقل فور دخول قوات «الشرعية» إلى عدن في حرب 94. لطيفة قاسم، وجدت أخيراً مناسبة انتظرتها طويلاً لتوجه كلامها لـ«الآخرين» عن أخيها محمد قاسم الصحفي الذي اعتقله جهاز الأمن الوطني (السياسي حالياً) في صنعاء 1982.
الطاف محمد بدورها لم تتمالك نفسها وهي تتذكر زوجها محمد ناجي الناشط السياسي المدني الذي اعتقل في 23 يناير 86 في عدن.
بكت الطاف أمام الحضور وهي تناشد الجميع التضامن معها والضغط على السلطات الرسمية للإفراج عن زوجها، ومعرفة مصيره.
فتحي نجل علي عبدالمجيد الذي اعتقله الأمن الوطني في صنعاء عام 82، ودرهم العبسي شقيق عبدالسلام العبسي الذي مضى على اعتقاله 30 عاماً منذ اعتقاله، وإخفائه في عام 78 بصنعاء.
هناك آخرون لم يتمكنوا من الحضور منهم أقارب العنوان الأبرز للإختفاء القسري في اليمن سلطان أمين القرشي الوزير الذي يقبع في الظلام منذ عام 78.
عبدالعزيز عون اعتقل، ودخل في عتمة المصير المجهول منذ بداية عام 78، حيث تم اعتقاله في فترة رئاسة الحمدي، وغابت أخباره منذ 78.
اسماء كثيرة، بعضها لازال مجهولاً، وهم بالمئات لازالوا في العتمة، ولازال الظلام يلف أخبارهم، ولازالت الحسرة في صدور أهاليهم.
<<<
الأهم في فتح هكذا ملف هو انطلاقه من مبدأ التضامن الإنساني بعيداً عن أي أجندات سياسية.
النظر في قضايا بشر هم جزء منا بمنأى عن الخلفيات السياسية سواءً للأطراف المتورطة في اعتقالهم وإخفائهم، أو الإنتماءات التي صدروا عنها في نشاطهم السياسي، أو البيئة السياسية التي أودت بهم إلى المجهول، أو البيئة السياسية الحالية وحساباتها.
 بإمكان الناس هنا أن يستعيدوا إحساسهم بالتضامن الإنساني، مع ضحايا أنتهك حقهم في الحياة بمنأى عن انتماءات الضحية والجلاد معاً.
يتم هنا تحييد الفرز الحزبي، والسياسي يتوارى في مثل هكذا فرز، ليحل مكانه حق الناس في معرفة الحقيقة، في قضايا الاختفاء القسري التي ارتكزت على عقلية منتهك أباح لنفسه مصادرة حق الحياة لمواطنين يمنيين وجدوا أنفسهم في لحظة جنون ما، ضحايا لآلة أمنية طائشة في الشمال والجنوب.
<<<
يبِقى القول أن مثل هكذا ملفات لا تهدف لإدانة أشخاص أو جهات، بقدر ما تهدف أولاً وأخيراً إلى معرفة الحقيقة، بقدر ما تهدف إلى إنصاف الضحايا وأسرهم.
الوقوف أمام قضايا الاختفاء القسري والانتهاكات بشتى صنوفها نوع من التمثل للقيم الإنسانية وبنائها وترسيخها على أنقاض عقلية الغاب التي تستبيح الخصوم، وتهدر حقهم في الحياة.
وإذا كان هناك من إدانه فهي أولاً لهذه العقلية، التي لازالت تسعى جاهدة لإطالة زمنها، في مرحلة الكاميرات والقنوات والفضاءات المفتوحة، والإقرار بحرية التعبير، والتنظيم والقول.
<<<
في المغرب فتحت السلطات الرسمية جميع الملفات من الاختفاء القسري، وملف التعذيب، والتصفيات إلى المنفيين. فتحت جميع وسائل الاعلام أبوابها أمام الضحايا وأقاربهم للحديث العلني عما حصل لهم في سنوات العتمة.
أكثر من ذلك أشرك المجتمع بفئاته المختلفة في هذه المكاشفة، وطرحت مسألة إعادة الاعتبار للضحايا، وإنصافهم وتعويض أقاربهم.
وتوجت المكاشفة بإستقبال الملك لأقارب الضحايا في القصر الملكي، وتقديم اعتذار رسمي معلن لهم.
لم يكن هذا المسار إدانة لحكم الملك بقدر ماهو إدانة لعقلية أمنية، أسست النظام على استباحة حياة الخصوم.
وإن نظاماً قادراً على مثل هكذا مراجعات يفتح لنفسه أفقاً جديداً، وعصرياً يمكنه من الإستمرار والبقاء كحاجة للمجتمع وبالتوافق معهم واختيارهم، لا البقاء وكفى حتى على أنقاضهم.
musrag

 
***
 
 
جرائم الإختفاء القسري تبقى على السطح مهما كانت المراهنة على عامل النسيان
 
 إعداد المحامي/ محمد المقطري

يعتبر الاختفاء القسري جريمة ضد الكرامة الانسانية وانتهاكا صارخا لحقوق الانسان وحرياته الاساسية والتي كفلتها المواثيق والمعاهدات الدوليه وكفلها الدستور اليمني والتشريعات المحلية.
ويعرف الاختفاء القسري حسب مصطلح الامم المتحدة بأنه "احتجاز شخص محدد الهوية رغما عنه من قبل موظفي السلطات الحكومية او من قبل مجموعات منظمة او أفراد عاديين بزعم أنهم يعملون باسم الحكومة او بدعم منها او بإذنها او بموافقتها وتقوم هذه الجهات او القوى بإخفاء ذلك الشخص او ترفض الافصاح عن مكانه او الكشف عن مصيره او الاعتراف باحتجازه مما يجعله خارج نطاق حماية القانون".
وقد نصت كافة المواثيق الدولية منها ميثاق الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وغيرها، على حق الانسان في الحرية والامن الشخصي والذي لايجوز المساس به بأية حال لما يصاحب حالة الاختفاء تعرض المختفي لكثير من الانتهاكات التي تمس كرامته الانسانية الأصيلة وحرياته الاساسية، منها:
< انتهاك لحق الإنسان في الحرية والأمان على شخصه.
< انتهاك الحق في عدم تعرض الشخص للتعذيب ولا المعاملة او العقوبة القاسية او اللاإنسانية او المهينة.
< انتهاك الحق في الاعتراف للإنسان بالشخصية القانونية.
< انتهاك حق جميع المحرومين من حريتهم في أن يعاملوا معاملة إنسانية تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص.
< انتهاك الحق في الحياة اذا ما تعرض الشخص المخفي للقتل.
< انتهاك الحق في بناء حياة أسرية كريمة.
< انتهاك الحق في محاكمة عادلة.
وتعتبر حالات الاختفاء القسري للاشخاص انكاراً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة وانتهاكا لكافة المواثيق والمعاهدات الدولية التي تلزم الدول التي صادقت عليها على اتخاذ كافة التدابير التشريعية والادارية لإنهاء حالات الاختفاء القسري، واستشعارا من دول العالم والمنظومة الدولية بخطورة ظاهرة الاختفاء القسري أقرت الأمم المتحدة في ديسمبر 2006م اتفاقية خاصة (لم تدخل حيز التنفيذ) بشأن الاختفاء القسري، واعتبرت أن الاختفاء القسري انتهاك لحق في حد ذاته وليس ملحقا بحقوق الانسان الاخرى، كما كانت تعتبره الصكوك الدولية، وبالتالي فإن كافة الدول المنظوية بالامم المتحدة ملزمة بكفالة هذه الحقوق، واليمن جزء من المنظومة الدولية وتلتزم وفق نص المادة 6 من دستورها بالعمل بميثاق الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان وميثاق جامعة الدول العربية وقواعد القانون الدولي المعترف بها.
وقد كانت اليمن مسرحا منذ منتصف القرن الماضي بشطريها الشمالي والجنوبي لحالات عديدة من الاختفاءات القسرية طالت المعارضين السياسيين خارج الحكومات القائمة حينذاك، إلا أنه في كثير من الحالات امتدت حالات الاختفاء لاشخاص مشاركين في السلطة نفسها بمجرد الشك في ولائهم او اختلافهم في الرأي او معارضتهم لبعض تجاوزات السلطة او الشك في ولائهم السياسي او الايديولوجي او الفكري، وذهب ضحية ذلك رجال سياسة وفكر ودين. ورغم قيام الوحدة اليمنية واقرار التعددية السياسية وعدم تجريم العمل الحزبي الذي كانت تتخذه الحكومات السابقة مبررا لتصفية خصومها الا ان ظاهرة الاختفاء القسري مازالت تمارس من قبل الاجهزة الحكومية حتى بعد توحيد اليمن، ومازال الكثير من المختفين قسرياً مجهولي المكان والمصير وعدم اعتراف الجهات المختطفة بمسؤوليتها عن اختفائهم رغم مضي عشرات السنين. ولم تتخذ اليمن التدابير التشريعية والقضائية والادارية الفعالة لمنع وانهاء اعمال الاختفاء القسري او الاعتراف بمصير المختفين.
إن استمرار اجهزة الدولة في ممارسة عملية إخفاء الأشخاص قسريا حتى الوقت الحالي وبشكل متنامٍ يهدد استقرار وأمن المجتمع وحقهم في حياة كريمة وأمنه، ورغم أن هذه الظاهرة اتخذت لها أشكالاً وأساليب متنوعة إلا أنها تظل أخطر الانتهاكات لحقوق الانسان على الإطلاق، إذ يتم حاليا إما الاعتراف بوجودهم لديها بعد فترة من اختفائهم (كما حصل للناشط الحقوقي علي الديلمي والصحفيين ابراهيم حسين الباشا وعبدالرحيم محسن) او تركهم في اماكن خالية من السكان بعد اختطافهم وتعريضهم للتعذيب والضرب (كما هي حالة الصحفي عبد الكريم الخيواني). وكثيرة هي الحالات التي جاءت متفرقة منذ الفترة اللاحقة على حرب 94م، ولولا الدور البارز لوسائل الاعلام والصحافة ونشاط منظمات المجتمع المدني لما ظهر هؤلاء وكان مصيرهم مثل الكثير من المختفين قسريا، ولعل واقعة اختفاء وزير التموين الاسبق سلطان القرشي وزميله وقناف زهرة والشمسي وعلي خان وغيرهم تظل مرسومة بالأذهان، وتذكرنا بوقائع كثيرة طالت قيادات سياسية وقانونية في جنوب الوطن وشماله وحتى قيام الوحدة عام 90م، كما يظل عدد الاشخاص الذين تعرضوا لحالات الاختفاء القسري غير معروف ومحدد لإصرار السلطة على عدم فتح هذا الملف والمراهنة على الزمن وعامل النسيان – إلا ان استمرار حالات الاختفاء التي تقوم بها أجهزة السلطة يجعلها على السطح دوما، كونها أصبحت ظاهرة تمارس بشكل شبه يومي واعتيادي خاصة في السنوات الاخيرة، مرافقة لأعمال القمع الذي يمارس ضد خصوم السلطة السياسيين او المعارضين لسياستها في مختلف مناطق الجمهورية، واتسعت دائرة الانتهاك مع تنامي وتصاعد الحراك المدني والتجمعات السلمية خاصة في المحافظات الجنوبية، وضد من تتهمهم السلطة بالانتماء للحوثية في المحافظات الشمالية.
القوانين اليمنية (النص والواقع):
إن الاختفاء القسري بمفهوم الامم المتحدة لم ينص عليه القانون اليمني بشكل صريح وانما جاء تحت مصطلح الاختطاف كمعالجة لظاهرة تعاني منها اليمن وتحت كفالة الحرية والامن الشخصي، ولم تعالج ظاهرة الاختفاء القسري الذي تمارسه سلطات الدولة منذ وقت مبكر، رغم استحداث قوانين جديدة تشدد عقوبة الاختطاف والتقطع كأعمال جنائية ترتكب من قبل اشخاص او مجموعات او موظفين عامين كحالات فردية، ولكن ومن منطلق كفالة الحق في الحرية والامن الشخصي والتزام اليمن بالمواثيق والصكوك الدولية التي صادقت عليها خاصة ميثاق الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية او اللاإنسانية او المهينة، وألزمت نفسها العمل بأحكام ونصوص هذه الصكوك وفقا للمادة 6 من الدستور، فإن أهم النصوص التي تكفل الحق في الحرية والامن الشخصي، ويندرج تحت ذلك الحق؛ الحق في عدم الاحتجاز او الاختفاء القسري، سنجد أن الدستور اليمني جرم هذه الأفعال حيث نص في المادة 48 على كفالة حرية الاشخاص وامنهم وعدم جواز احتجازهم إلا بموجب القانون، وكفل حق كل انسان بأن تصان كرامته وحرم تعريضه للتعذيب الجسدي او النفسي او المعاملة غير الإنسانية، وعدم جواز حجز اي انسان في غير الاماكن الخاضعة للقانون، وجعل انتهاك تلك الحقوق جريمة لاتسقط بالتقادم ويعاقب كل من يمارسها او يأمر بها او يشارك فيها (الفقره ه من نفس المادة).
كما جاءت التشريعات الوطنية لتعزز إجراءات كفالة هذه الحقوق واتخاذ تدابير عقابية لمن يقوم بانتهاك اي حق من هذه الحقوق، حيث نصت المادة 7 من قانون الاجراءات الجزائية رقم 13 لسنة 1993م على "أن الاعتقالات غير مسموح بها إلا في ما يرتبط بالافعال المعاقب عليها قانونا ويجب ان تستند على قانون"، ونصت المادة 11 على أن "الحرية الشخصية مكفولة ولايجوز اتهام مواطن بارتكاب جريمة ولا تقيد حريته إلا بأمر من السلطات المختصة وفق ما جاء بهذا القانون"، كما نصت المادة 172 من نفس القانون على عدم جواز القبض على اي شخص او استبقائه الا بأمر النيابة العامة او المحكمة وبناء على مسوغ قانوني". وتعد جريمة انتهاك حق الحرية من الجرائم الجسيمة التي لاتسقط بالتقادم مهما طال الزمن حيث تنص المادة 16 من نفس القانون على "لاتنقضي بمضي المدة الدعوى الجزائية في الجرائم الماسة بحرية المواطنين او كرامتهم او التي تتضمن اعتداء على حرية الحياة الخاصة"، وأوجب القانون على كل شخص ان يبلغ النيابة العامة او احد مأموري الضبط القضائي عن اية حالة احتجاز او قبض على اي شخص دون مسوغ من القانون وكذلك اذا كان محتجزا في مكان غير قانوني او لايخضع لاشراف القضاء، (جاء ذلك في احكام المواد 13و94) من نفس القانون.
كما جاءت مجمل القوانين واللوائح المنظمة للجهات ذات الشأن بحرية الاشخاص وامنهم على الكثير من الضوابط والمحاذير التي ترافق تقييد حرية الاشخاص والتي تمنع احتجاز اي شخص في اي منشأة عقابية، وأوجب على المسؤولين عن إدارة أماكن الحجز عدم قبول اي انسان فيها الا بمقتضى امر موقع من السلطة المختصة ووفق الاجراءات القانونية مع كفالة حقوق المحتجز في المعاملة الإنسانية الكريمة، وألزم مسؤولي هذه الجهات بمراعاة العمل بمعايير حقوق الانسان المنصوص عليها بالاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها اليمن، جاء ذلك في لائحة السجون ولائحة الشرطة ولائحة وزارة الداخلية وغيرها.
كما جاء قانون الجرائم والعقوبات رقم 12 لسنة 1994م لينص على اجراءات عقابية ضد كل من يقوم باختطاف اي شخص، مشددا العقوبة عندما يصدر ذلك الفعل من موظف عام حيث نصت المادة 246 من قانون الجرائم والعقوبات على "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من قبض على شخص أو حجزه أو حرمه من حريته بأية وسيلة بغير وجه قانوني، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات إذا حصل الفعل من موظف عام أو بانتحال صفته أو من شخص يحمل سلاحاً أو من شخصين أو أكثر أو بغرض السلب أو كان المجني عليه قاصراً أو فاقد الادراك أو ناقصه أو كان من شأن سلب الحرية تعريض حياته أو صحته للخطر".
ونصت المادة 249 من نفس القانون على "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات كل من خطف شخصاً، فإذا وقع الخطف على انثى أو على حدث أو على مجنون أو معتوه أو كان الخطف بالقوة أو التهديد أو الحيلة كانت العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سبع سنوات، وإذا صاحب الخطف أو تلاه ايذاء أو اعتداء أو تعذيب كانت العقوبة الحبس مدة لا تزيد على عشر سنوات وذلك كله دون إخلال بالقصاص أو الدية أو الارش على حسب الاحوال إذا ترتب على الايذاء ما يقتضي ذلك، وإذا صاحب الخطف أو تلاه قتل أو زنا أو لواط كانت العقوبة الاعدام". كما نصت المادة 250 من القانون على "يعاقب بالعقوبات السابقة على حسب الأحوال كل من اشترك في الخطف أو أخفى المخطوف بعد خطفه إذا كان يعلم بالظروف التي تم فيها الخطف وبالأفعال التي صاحبته أو تلته وإذا كان الشريك أو المخفي عالماً بالخطف جاهلاً بما صاحبه أو تلاه من أفعال أخرى اقتصر عقابه على الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات".
كما عزز قانون جرائم الاختطاف والتقطع رقم 24 لسنة 98م حماية الحق في عدم تعرض الاشخاص للاختطاف وشدد في العقوبة متى كان ذلك الفعل صادرا من موظف عام او جهة مختصة.
ورغم ذلك فإن الممارسات التي تقوم بها أجهزة الامن والاستخبارات وأجهزة مكافحة الارهاب وخاصة جهاز الامن السياسي المتمثل في احتجازه الاشخاص وإخفائهم وعدم الاعلان عن اماكن تواجدهم او مسؤوليته عن اعتقالهم، وسواء كانت تلك الافعال مؤقتة او لفترات طويلة فإنها تمثل حالة من حالات الاختفاء القسري الذي تجرمه المواثيق والمعاهدات الدولية والدستور والقوانين المحلية النافذة، ولا يبرر قيامها بذلك الفعل الادعاء بالحفاظ على نظام الحكم أو امن الدولة ومركزها الحربي او بشأن تهديد المصالح الوطنية والقومية او التجسس او غيرها كون مهامها واختصاصها وصلاحياتها المخولة لها وفقا لقرار انشائها لايمنحها الحق في إلقاء القبض او احتجاز اي شخص الا وفقا للصلاحيات المخولة لرجال الضبط القضائي كما هو محدد في المادة 7 من قرار انشاء جهاز الامن السياسي رقم 121 لسنة 1992م. ونفس الحال صلاحيات ومهام جهاز الامن القومي كما هو محدد بالمادة 5 من قرار انشائه رقم 261 لسنة 2002م. والمعلوم قانونا أن صلاحيات مأموري الضبط القضائي حددت بالفصل الثاني من الباب الثاني من قانون الاجراءات الجزائية رقم 13 لسنة 1994م، وتبعيتهم للنائب العام في ممارسة صلاحيات مأموري الضبط (م85 إجراءات)، مما يجعل قيام هذه الاجهزة ليس باختطاف اي شخص او إخفائه بل احتجازه لفترة تتجاوز 24 ساعة جريمة وانتهاكاً صريحاً لأحكام الدستور والقوانين النافذة تستوجب معه المساءلة القانونية ومعاقبة من يرتكبها.
ولعل حالات الاختفاء القسري التي يتعرض لها النشطاء الحقوقيون والسياسيون والصحفيون في السنوات الاخيرة خير دليل على ذلك، حيث تم رصد اكثر من................. حالة اختفاء عام 2006م، و.............. حالة اختفاء عام 2007م، و19 حالة اختفاء خلال النصف الاول من عام 2008م، تم معرفة 11 منهم كانوا مخفيين لدى جهاز الامن السياسي، ومازال 8 منهم غير معروفة أماكن تواجدهم او مصيرهم وعدم اعتراف اية جهة بمسؤوليتها عن اختفائهم.
المآخذ والتدابير:
لقد استعرضنا كفالة الحق في الحرية والامن الشخصي والضمانات والتدابير التي تنص عليها القوانين اليمنية، وكذا التزام اليمن بإنفاذ قواعد القانون الدولي والصكوك والمعاهدات الدولية، وأن تلتزم بمواءمة قوانينها وفق المعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. ورغم أن القصور التشريعي يظل موجودا في مواجهة هذه الحالة وخاصة في ضعف التدابير العقابية بمواجهة الفاعلين الحكوميين والمعنيين بإنفاذ القانون، لكن وبحسب النصوص الدستورية والقانونية الحالية هل فعلا الحكومة اليمنية تقوم بإنفاذ قوانينها ومنع جريمة الاختفاء القسري وملاحقة مرتكبيها واقعيا؟ الإجابة في كل الاحوال لا! كون حالات الاختفاء القسري او الاختطاف التي تتم غالبا -وخاصة ضد النشطاء السياسيين وقادة الرأي والتعبير– تقوم بها السلطات الحكومية، ولم يسبق أن تم تقديم أي من المسؤولين في الدولة للمساءلة أمام القضاء بقضية اختفاء قسري رغم اعتراف السلطات الرسمية بارتكابها ولو لم يكن ذلك صراحة في كثير من الحالات، فحينما يتم الإعلان عن اختفاء شخص معين وتنكر الدولة علمها او قيامها بذلك ثم تعترف لاحقا بوجوده لديها، فإنها تكون هنا قد ارتكبت الفعل المجرم في دستورها وقانونها وقامت بانتهاك صريح للشرعة الدولية، خاصة المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فالاختفاء القسري واقعة مادية مجرمة لاترتبط بمدة الاحتجاز فسواء ظل الشخص مخفيا يوماً او سنة او عشر سنوات، يظل الجرم قائماً ولا يشفع الزمن والقانون لفاعله. والسلطات عندما تمارس عملية إخفاء الأشخاص قسريا تكون تحت طائلة المساءلة القانونية مهما طال الزمن، وهذا هو نص المادة 48 من الدستور من عدم سقوط الجريمة المتعلقة بالحرية بالتقادم، والمادة 16 إجراءات جزائية، فقيام الدولة بارتكاب فعل مجرم من قبل قوانينها تكون بذلك قد تخلت عن مسؤوليتها في حماية مواطنيها وكل شخص على ارضها من اي انتهاك، ومارست عمل العصابات الخارجة عن القانون. وهو أمر يوجب على المجتمع المدني بكل فعالياته (منظمات/ أحزاب/ نقابات/ اتحادات/ صحافة/إعلام وغيره) العمل على تسليط الضوء على هذه الظاهرة وعدم تركها للنسيان الذي تراهن عليه السلطات.
لذلك يقع على الحكومة اتخاذ التدابير القانونية والواقعية والفاعلة في إنهاء ظاهرة الاختفاء القسري ليس من خلال التصديق على المعاهدات الدولية وسن النصوص التشريعية التي تجرم الاختطاف وحجز الحرية فقط، وإنما اتخاذ تدابير قانونية بإدراج الاختفاء القسري كجريمة في القانون مع تعريفه تعريفا واضحا ودقيقا وبيان طبيعته ومظاهره وأشكاله، وكذا اتخاذ تدابير إجرائية وإدارية تتضمن إحالة مرتكبي الجريمة إلى العدالة وتأهيل وتدريب الموظفين المسؤولين عن إنفاذ القانون على التعامل مع حالة الاختفاء القسري من كونها جريمة ضد الانسانية والمبادئ الاخلاقية والدينية، كما يتطلب الامر إرادة سياسية لإنفاذ القانون وملاحقة مرتكبي الجريمة وعدم تحصين عملهم بأية حال من الاحوال.
كما يتطلب اتخاذ إجراءات فعالة وإجراء تحقيق سريع وفعال في الادعاء الذي يصدر بأن شخصا من الاشخاص قد تعرض للتوقيف ولم ير له أثر بعد ذلك او تعرض للاختفاء فجأة، من منطلق مسؤولية الدولة في معرفة ما يحدث للافراد الذين يخضعون لسيطرتها خاصة عدم التعرض للاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري الذي يحدث على أيدي السلطات والعاملين باسمها او تحت إمرتها.
الخلاصة:
وخلاصة ذلك نجد أن حالات الاختفاء القسرية التي يتعرض لها الاشخاص قد يصاحبها عديد من الانتهاكات لشخصه اولا وهو في حالة الاختفاء مثل: القتل/ الضرب والتعذيب الجسدي/ التعذيب النفسي/ الحجز في زنازين مظلمة وضيقة وبدون تهوية جيدة/ الحرمان من الاكل/ الحرمان من الرعاية الصحية/ الاعتداء الجنسي/عدم معرفة المكان الذي يتواجد فية بغالب الاحيان وعدم معرفته للمصير الذي سوف يواجهه وما يترتب على ذلك من عذاب نفسي شديد وقاس.
ولأسرته ثانيا من حيث قلق الاسرة وخوفهم من المصير المجهول للشخص المختفي/ انتزاع حالة الامان في الاسرة والاطفال/ فقدان الاطفال تربية أبيهم ورعايته الصحية والنفسية لهم وتعليمهم والاهتمام بشؤون حياتهم وحرمانهم من حياة أسرية مناسبة وملائمة وعيش كريم وما يترتب على اختفاء الشخص المعيل للأسرة من تشرد وضياع للابناء والمعالين منه وتنمية الحقد على المجتمع والخروج على القانون وانتشار ظاهرة البطالة والامية والجهل والجريمة التي تكون نتاج كل ذلك. كما تمتد الآثار السلبية لحالة الاختفاء القسري لتطال كيانه الأسري والاجتماعي إذ يتم حرمانه من زوجته وتشتيت ثروته وحرمانه من الحق في حياة خاصة يختارها، فقانون الأحوال الشخصية يجعل الغائب لفترة اربع سنوات بحكم المتوفى، نص المادة 117 من قانون الاحوال الشخصية رقم 20 لسنة 1992م وتعديلاته، كما أعطى نفس القانون للزوجة التي يغيب عنها زوجها لسنة كاملة دون إنفاق حق فسخ عقد النكاح.
والمختفي قسريا هو غير المحدد المكان والمصير فيكون بحكم الشخص المفقود وليس الغائب فوفقا لتعريف المادة 113 من قانون الاحوال الشخصية أن الغائب هو الشخص الذي لايعرف موطنه ولا محل إقامته، أما المفقود فهو الغائب الذي لاتعرف حياته ولا وفاته، والمختفي قسريا يسري عليه هذا التعريف حكما. ولذلك نجد ان الاثار التي تخلفها جريمة الاختفاء القسري لاتمتد الى الشخص نفسه بل الى زوجته وأطفاله وأسرته ومجتمعه المحلي الذي يظل يترقب تعرض اي من أبنائه لنفس الحالة، فتكون حياة المجتمع غير آمنة ولا مستقرة، وهو حق نجد الدولة قد تخلت عن حمايته وقامت بالاعتداء عليه عندما تكون هي من يرتكب ذلك الفعل.
* ورقة مقدمة إلى ندوة «الإختفاء القسري»
صنعاء - الاربعاء 18 يونيو