في ورقته المقدمة إلى ندوة «الإختفاء القسري»: «النداء» و«الاختفاء القسري».. الحياد المستحيل

مدخل
تتموضع حالات الاختفاء القسري في الخطاب السياسي والحقوقي باعتبارها صنفاً من الانتهاكات التي مورست في زمن غابر. لتحتل بالتالي موقعاً ثانوياً في اهتمامات المنظمات الحقوقية، وتكاد تختفي، طوعياً، من أجندة الأحزاب السياسية وبرامجها ومبادراتها التصالحية. يمكن عزو ذلك إلى الثقافة السياسية السائدة القائمة على الإقصاء (للآخر) والاصطفاء (للذات) والآخروية (نكران الذات في سبيل فراديس دنيوية أو سماوية) والشمولية (حيث الفرد منذر للفكرة والقضايا الكبرى).
وعلى الجملة فإنها ثقافة التجريد بامتياز. تحليق في الكليات والمشاريع الكبرى، وتعال على التفاصيل، والتفاصيل الانسانية على وجه الخصوص.
التجريد هو سيد العنف. في عوالمه يجري تبخيس الفرد، إما بتجاهل مصيره أو بأسطرته. وفي الحالين يتم نزعه من سياقه الإنساني الشخصي والأسري والاجتماعي. كذلك يؤول المختفي قسرياً إلى محض رقم في سجلات وزارة حقوق الانسان، أو إلى بطل يستعلي على الحياة العادية بتفاصيلها الصغيرة، في رطانات وطنطنات الأحزاب السياسية.
إلى الثقافة السياسية، وبها، تم إزاحة هذا الملف من الواجهة منذ الوحدة (22مايو 1990) وحتى الآن، لأن الجماعات السياسية التي تتقاسم المجال السياسي، وبخاصة تلك التي حكمت في الشمال أو في الجنوب، أو كانت جزءاً من تحالف حاكم، تورطت في جرائم الإخفاء القسري، أو تواطأت في ظل تحالفات سابقة عند وقوع الجرائم أو تحالفات لاحقة (وراهنة) تبشر بفراديس جديدة.
عدا هذا، تتساكن المنظمات الحقوقية مع الثقافة والجماعة السياسيتين، مغلبةً تحيزاتها السياسية والأيديولوجية، وإلا فمبدأ السلامة، لتطرح من أجندتها عذابات أسر المختفين قسرياً. والنغمة السائدة في شهادات أقارب المختفين الذين التقتهم «النداء» طلعت في صيغة سؤال كبير: أليس المختفي قسرياً من صنف الإنسان حتى تتجاهلنا جميع المنظمات التي تدافع عن حقوق الانسان؟

الإخفاء الثاني
بعد تحضير استغرق قرابة شهر فتحت «النداء» الملف، متحوطة لسوالب البيئة ومثالب النخبة، متوسلة تحقيق هدفين:
لفت الانتباه إلى معاناة أسر الضحايا، على أعتبار أن الاختفاء القسري جريمة مستمرة (1)، وليس محض انتهاك وقع في حقبة ماضية وهذه وظيفة حقوقية؛ والمساهمة في إحداث تغيير في القيم السياسية السائدة، من خلال التوكيد على ضرورة معالجة ملفات الماضي، بما يحول دون استنساخها مجدداً، وهذه إحدى ركائز مفهوم العدالة الانتقالية في المجتمعات المتحولة إلى الديمقراطية.
خلال فترة التحضير لنشر الملف، اتضح التالي:
1 - أن الملف أصبح بنداً في أجندة الدولة اليمنية بعد زيارة وفد من المفوضية السامية لحقوق الإنسان صنعاء وعدن في الفترة 17-21 أغسطس 1998، قام خلالها برصد عدد من الحالات، وقدم تقريراً بها إلى الحكومة اليمنية في وقت لاحق؛
2 - أن المنظمة اليمنية للدفاع عن الحقوق والحريات أسهمت في توفير قناة لبعض الأسر لإيصال بلاغات عن الضحايا. وأمكن لوفد المفوضية الالتقاء بالأسر خلال زيارته القصيرة؛
3 - تبين أن القائمة الدولية تحوي على 160 إسماً فقط، وأن عدداً كبيراً من أقارب المفقودين، لم يعلم بزيارة الوفد، وبعضهم لا يعلم أصلاً بأن قضية المختفين متداولة بين الحكومة والمنظمة الدولية؛
4 - لم نلحظ أي متابعة للملف المفتوح بين الحكومة والمفوضية من أي منظمة حقوقية أو مدنية يمنية. كما أن الأغلبية الساحقة من أقارب الضحايا الواردة أسماؤهم في قائمة المفوضية لا تتوافر على أية معلومات عن فحوى الاتصالات الجارية بين الحكومة والمنظمة الدولية، لأسباب عديدة، بينها غياب الشفافية؛
5 - أقارب بعض الضحايا عبروا عن عدم ثقتهم بالطرف اليمني (اللجنة الوطنية العليا، ثم وزارة حقوق الانسان). وقد فوجئ بعضهم بأن الوزارة أفادت المفوضية بأن أقاربهم صاروا في عداد المتوفين؛
6 - إن الحكومة اليمنية تتعاطى مع الملف باعتباره شأناً متصلاً بسمعتها في سجل حقوق الانسان، ولذلك تتعجل إغلاق الملف، كيفما أتفق، حتى إن اقتضى ذلك فبركة بعض البيانات، أو حجب المعلومات عن ذوي الضحايا؛
7 - تتوسل الحكومة اليمنية في ردودها على المفوضية السامية (سابقاً) حصر الملف في المحافظات الجنوبية والشرقية (اليمن الجنوبي). وقد زعمت في أحد ردودها بأنها قامت بتسوية أوضاع من تبين اختفاؤه في أحداث يناير 1986. وربما قصدت الإعانة الشهرية المقررة للأسر التي أبلغت عن اختفاء أقارب لها، والبالغة 2000 ريال؛
8 - لوحظ أن العلاقة بين الحكومة والمفوضية أخذت طابعاً تقنياً بيروقراطياً، تحول فيها الضحايا إلى مجرد أرقام، في ظل غياب الفعاليات الحقوقية والسياسية؛
9 - تبين أن بعض الأسر التي التقتها «النداء» اضطرت لأسباب أقتصادية أو اجتماعية إلى استخراج وثائق وفاة؛
10 - إلى السخط من المنظمات الحقوقية، لوحظ تشكك من بعض الأسر حيال الصحافة، جراء خبرة سلبية سابقة، حيث تم نشر معلومات مشوهة، أو أثير لغط حول دوافع النشر، ما أدى إلى التشكك في رسالة "النداء"، والخشية من إمكان توظيف النشر للدعاية ضد قوى سياسية كانت في الحكم أو ماتزال.
آليات حمائية:
اعتمدت الصحيفة في نشر الملف خطاً تحريرياً يقوم على المحددات الآتية:
1 - التعامل مع الضحايا بدون انتقائية أو شبهة تحيز ايديولوجي أو سياسي أو اجتماعي؛
2 - إبراز فداحة الانتهاكات واستمراريتها، وتقويض الأرقام: فالأرقام المعلنة -في تقديري- لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من الضحايا الفعليين، كما أن الضحية ليس رقماً، بل وراء كل رقم حياة وعذابات وانتظارات؛
3 - نشر الملف لغرض تصويب الأخطاء، وكسر الاحتكار، ووضع المعالجات والمقترحات، وليس لغرض الإثارة أو لمجرد القص. على الرغم من أهمية افساح فرصة البوح لأقارب الضحايا؛
4 - مراعاة الحساسيات السياسية وخصوصاً في ظل تصاعد الاحتجاجات في الجنوب، بالتوازي مع دعوات تصالحية في بعض المحافظات الجنوبية؛
5 - مراعاة الاعتبارات الاجتماعية، فبعض الأسر تفضل لأسباب عائلية عدم نشر معلومات شخصية عن المختفي قسرياً أو تجد حرجاً في نشر قصته لاعتبارات تتعلق بظروفها الراهنة؛
6 - تجنب الأحكام القيمية، وتفادي ذكر أسماء الأشخاص الذين يشتبه في تورطهم مباشرة في جرائم الاختفاء القسري؛
7 - شمولية التغطية، زمنياً ومكانياً، لدحض الرواية الرسمية، ودفع «شياطين التأويل» بما هي السلاح التقليدي في مخازن الجماعات السياسية والايديولوجية.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى الزملاء الذين أسهموا في تحرير الملف، وفي المقدمة الزميل جلال الشرعبي مدير التحرير والزملاء نادرة عبدالقدوس وفهمي السقاف (عدن), وفضل مبارك (أبين), وبشرى العنسي وفتحي أبو النصر ومحمد العلائي، وابراهيم البعداني (إب),وباسم الشعبي (لحج)، والمخرج الفنان طارق السامعي. وأنوه هنا بالزميل القدير عبدالباري طاهر الذي ساهم بالكتابة في حلقات الملف،وكتب عن الصحفي المختفي قسرياَ محمد علي قاسم هادي الذي كان مسؤولاَ نقابياَ في نقابة الصحفيين مطلع الثمانينات.

قوة البوح
كانت تلك المحددات آليات حمائية ضرورية لدفع الأذى عن الصحيفة، وبخاصة إمكانية الطعن في مصداقية الملف أو التشكيك في دوافع الصحيفة. ولاشك في أنها حققت وظيفتها الحمائية، على الرغم من صدور تهديدات من جهات مجهولة تتوعد رئيس التحرير ومحرري الملف بالقتل، والإخفاء القسري، والحرق، كما في رسالة تلقتها الصحيفة عبر موقعها الالكتروني جاء فيها:"إن لم تتوقفوا يا(...) عن نشر الملف سنحرق وجوهكم بالأسيد".
واصلت "النداء" نشر الملف، وأبلغت الجهات المختصة بالتهديدات، والأرقام التي استخدمها المهددون الساخطون، وقد توقفت التهديدات بعد ذلك.
من المهم هنا الإشارة إلى أن بعض المتصلين اعتبر نشر قصص ضحايا من حقبة ما قبل الوحدة في الجنوب مؤامرة سياسية(أو مناطقية) لإحياء صراعات الماضي، والتشويش على أجواء التصالح والتسامح التي يجري إشاعتها في المحافظات الجنوبية والشرقية. كما عبَّر متصلون آخرون عن نقمتهم على الصحيفة لتشويهها سمعة البلد والتآمر على الوحدة، بنشر قصص مختفين قسرياً في حرب1994. وقد اعتبر أحدهم أن الصحيفة عميلة لجهات في الخارج تتآمر على اليمن، واصفاً ضحايا1994 بالنكرات.
عدا ذلك فقد صدرت تعبيرات ضيق من بعض الناشطين السياسيين، رأوا في توقيت نشر الملف تشويشاً على القضايا الراهنة. كما أن قيادياً في اللقاء المشترك (ليس من قيادات الاشتراكي) اعتبر أن الاشتراكي الآن عرضة لشتى صنوف الانتهاكات، والأولى بالصحيفة أن تغطي هذه الانتهاكات عوضاً عن نبش الجانب السلبي من تاريخه.
وفي المقابل أشادت شخصيات سياسية معارضة بالملف سواء عبر اتصالات هاتفية أو تصريحات منشورة، ومن هؤلاء الدكتور ياسين سعيد نعمان والمهندس فيصل بن شملان.
وتلقت الصحيفة إما برسائل على عنوانها البريدي(الالكتروني)، أو عبر الهاتف أو لقاءات مباشرة، مواقف مؤيدة لنشر الملف، ومثمنة للنهج الذي اسُتخدم في إعداد مواده.
كما تلقت رسالة من منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان تشيد بمهنية الملف، وتعبِر عن تضامن المنتدى مع الصحيفة ضد التهديدات الناجمة عن الملف.
كما نشرت الصحيفة في عددها(115) الصادر في 15أغسطس2007، رسالة من الكاتب الصحفي الأستاذ أحمد الرماح يقترح فيها أن تبادر "النداء" مع مهتمين آخرين بالملف إلى تشكيل لجنة وطنية لمعالجة أوضاع المختفين قسرياً، تتولى جمع المعلومات عن حالات الاختفاء القسري، والضغط من أجل رد الاعتبار إليهم، وإنصاف ذويهم مادياً ومعنوياً، علاوة على ابتكار وسائل لتجذير الوعي بخطورة ومأسوية جرائم الاختفاء القسري والتأسيس لثقافة جديدة تعلي من كرامة الإنسان وحقه في الحياة.
أخيراً فإن وزيرة حقوق الإنسان الأستاذة هدى البان بادرت إلى الاتصال برئيس تحرير الصحيفة، لغرض دعوته إلى زيارتها في مكتبها. وفي اللقاء الذي جرى بحضور وكيل الوزارة الاستاذ علي تيسير، عبرت الوزيرة عن اهتمامها بالملف، موضحة بأنها منفتحة على أية مقترحات أو ملاحظات تتصل بأداء الوزارة.

ضريبة البوح:
المختفي قسرياً غائب فيزيائياً، غائب فحسب. وقد اختارت النداء لصفحات ملفها عنواناً من كلمة واحدة: أحياء.
بلى! لكنهم لا يشيبون أبدأ، ليس لأنهم كائنات متحولة كما في الخيال الهوليودي. ولا لأنهم رجال خارقون. لا. ولا لأن أسرهم ابتكرت وصفة الخلود، كما في الأساطير الشعبية، ولكن ببساطة لأنهم لما يموتوا بعد، ولأن أسرهم لم تُشرع أبواب بيوتهم أمام المعزين، حتى وإنْ حولتهم السجلات الحكومية الخرقاء إلى محض أرقام، ودونت أمام أسمائهم كلمة متوفي.
أحياء، لأن لكلٍ بيئته وبيته الاجتماعي وأحلامه الصغيره وأحباؤه المنتظرون. وفي الملف الحي، الملف الذي ينوء بالانتظارات والعذابات، الملف المقصي من الحيز السياسي والجدول الحقوقي، خَبِرَتْ النداء، كما وضاح عبد السلام العبسي وأحمد الضالعي وخديجة غلام ولطيفة قاسم وفتحي علي عبد المجيد وسلطان البان، محنة العيش في عالم "مختف قسرياً"! ولسوف تقاسم هؤلاء ضريبة البوح. البوح بما هو المحطة الأولى في رحلة استرداد أولئك الذين حرمتهم قوى غاشمة من المضي قدماً في دروب أعمارهم، وما تزال تتعالى، بصلف وتكبر وتجبر، على مناشدات أقاربهم بكشف مصائرهم كيما يتسنى لهم، هم المختبئون من درب الأعمار، استئناف حيواتهم.
على مدى عشر حلقات تجرعنا مرارات هذا الانتهاك الفظيع، وتوجب علينا أن نشهد مع الأمهات والزوجات والأبناء والأشقاء والأصدقاء لحظة الاختفاء وأدركنا معنى أن يكون عبد السلام العبسي شاباً بهياً وجداً وقوراً في آن. وعروسه النضرة تنتظره عند عتبة الزمن، زمنه هو، لتناوله الوليد البكر الذي أسماه وضاح، ووَعَدَ بزيارته بعد أسابيع، ولتعرَّفه على حفيده "أصيلـ" المتشوق لقدوم الجد الموعود.
ليسوا موتى. ولذلك "يصعب التأقلم مع الاختفاء القسري مهما استمرت الحالة في الزمن لعمق الجرح والبعد العاطفي الذي تخلقه مشكلة إنسان حي وميت، حاضر وغائب(2). وكذلك يُعاود (بعض) المقربين من ضحية الاختفاء القسري الإحساس بالذنب والمسؤولية، مع نشوء إحساس بالوحدة والفراغ، وتزورهم نوبات إحباط وانهيار عصبي واضطرابات جسدية وعاطفية، ويفقدون الإحساس بالرغبة، والمتعة.(3)
ليسوا مجرد أرقام، فوراء كل إسم في السجلات البغيضة حياة وروائح وملابس معلقة، وطفل موعود بمذاق كيك فريد، وأخت تؤجل فرحها، مرة تلو الأخرى، في انتظار أخ أكبر.
والمحقق أن أسرة "النداء" انغمست في الملف إلى الحد الذي لم تعد قادرة معه على التأقلم مع هذا الانتهاك، لكأنها أسرة مختفٍ قسرياً.
لن أوارب أو أتفذلك. لقد غَمَرَنا بوحُ المنتظرين، وغسلتنا عذاباتهم، واجتزنا الخطوط الفاصلة على الورق بين الصحفي وموضوع تغطيته. وانحزنا إلى الضحايا. بتنا، مثلهم، محكومين بالانتظار، حتى أننا نستحضرهم، مختفين ومنتظرين، في الأعياد، ونستدعيهم في المناسبات الوحدوية والوطنية!
والحاصل أن "النداء" سدًدت، عن طيب خاطر، نصيبها من كلفة البوح هي التي تجرأت فطرقت أبواب أسر الضحايا تستحثها على البوح.
لبت الاغلبية الساحقة "النداء"، وتكرم البعض فدعانا إلى مشاركته التفاصيل العادية لأناس عاديين.
للبوح مضاعفاته. ولكم كان مؤثراً ذاك الاعتذار الذي وردنا عبر وسيط، من شقيقة أحد الضحايا. تمنت، متلطفة، أن نصرف النظر عن نشر قصة شقيقها لأنها تخشى أن تتداعى والدتها الصابرة إذا صادف أن التقت إبنها على الصحيفة.

شراكة عمر مع الغائبين:
في الحلقة الرابعة لخصت منى (زوجة المختفي قسرياً علي عبد المجيد) حياتها بجملة لفحت وجوهنا، قالت: "راح عمرنا مع الغائبين".
أمضت نصف عمرها في انتظار شريك العمر. تنتظره منذ اعتقله رجال أمن في صنعاء عام 1983 لم تنتظر فحسب، فقد عملت وكدَّت وربَّت أبناءها الأربعة. وهي قالت لمحررة "النداء": تعبتُ... تعبتُ بعد ما ضاع... لو تدري كم تعبتُ".
المرأة في "ملف النداء" حاضرة باعتبارها الضحية الأولى في مجتمع ذكوري يقوم على الغلبة، ويقرَّر منذ الولادة مسار المولود وفرصه، حسب الجنس.
من المفيد أن يكون هذا البند موضع التفاتة منتدى الشقائق والحضور الكريم. فالملف مرصعٌ ب "شقائق" أمضين أعمارهن في انتظار الرجال.
انتظار –يجب أن نخلص- مروِّع لا يماثله انتظار، لأن الأم أو الزوجة أو الأخت أو الإبنة، تتحرك داخل بنى ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية تنحاز للجناة.
على الحركة النسوية أن تدرس حالات هؤلاء الضحايا لتمسك بفظاعات المجتمع الذكوري. فالمرأة داخل هذه البنى المكرَّسة عبر مئات السنين، لا تُحرم فحسب من إمكانية استئناف حياتها، وإنما، أيضاَ وأساساً، تفقد أية قدرة على توليد آليات تعويض حيال الانتهاك. كذلك تتجلى أعراض "الانتزاع النفسي" أكثر ما تتجلى في شخوص قريبات المختفين قسرياً. والحركة الحقوقية النسوية مدعوة، وظيفياً وأخلاقياً، إلى احتضان ضحايا الاختفاء القسري من النساء.
إلى أين؟
نشرت "النداء" الملف والتقط منتدى الشقائق الرسالة.
خطوة ضرورية، لكنها ليست كافية. فالوظيفتان، الحقوقية والديمقراطية (التحولية) للملف، لا تتحققان بالبوح وبمشاعر التعاطف المزجاة لذوي الضحايا، ولا بالرهان على الضمير السياسي المثقل بالآثام.
لا. وإنما بتصميم خطة عمل تدفع الملف إلى صدارة الأجندة الحقوقية والسياسية يبدأ ب:
- تقديم المساعدة الفنية لأسر الضحايا لتنظيم نفسها ذاتياً.
- تشكيل لجنة غير حكومية من حقوقيين وإعلاميين ومثقفين وبرلمانيين تتولى صوغ برنامج عمل يتوخى تحقيق 3 أهداف مرحلية:
1 - متابعة الملف لدى وزارة حقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان، واستيفاء أخر التطورات فيه(وبالتالي كسر الثنائية القائمة منذ1998).
2 - حشد التأييد والمناصرة لقضية المختفين قسرياً، عبر حملة مُحكمة ومُزمنة.
3 - تجهيز وحدة معلومات لتلقي البلاغات من أسر المختفين قسرياً الذين لا تظهر أسماؤهم في سجلات الحكومة.
بالبوح فحسب استفززنا التجريد, وبالتجريب يمكن أن نبتكر آليات وصيغ للجم العنف الذي ينطوي عليه.

* ورقة مقدمة إلى ندوة «الإختفاء القسري» - صنعاء - الاربعاء 18 يونيو

هوامش:
(1) بحسب هيثم مناع فإننا نكون أمام حالة غياب فيزيائي وفقدان لكل وسيلة للتواصل مع إنسان لم يُصنف في عداد الأموات دون أن يكون بين الأحياء. أي أمام وضع لا يستجيب لأي ترميز ثقافي ونفسي للاستعداد الذهني للبشر. (....) تعذيب مزمن للشخص والأهل تستدعي تعزيز وسائل المحاسبة. انظر:
الإمعان في حقوق الإنسان - موسوعة عامة مختصرة، اشراف هيثم مناع،ط1، دار الأهالي، دمشق، 2000،ص43.
(2) المرجع نفسه.
(3) المرجع نفسه.
Hide Mail