لا تقتسم الطعام مع القتلة

يمكن أن يَعِد محافظ تعز «المنتخب» من أبناء المحافظة بكل شيء إلا المواطنة. وبغير المواطنة لا قيمة لأي شيء يعدهم به!
وقبل أسبوعين عندما وقف الصوفي على منصة الخطابة ينثر عبارات الصقيلة والحاذقة، فوق الرؤوس الحسيرة المحتشدة في قاعة المركز الثقافي، كان يغازل حاجة المحافظة الغريقة إلى «منقذ» يتمتع بالندية والاستقلال إزاء سلطة أغرقت البلد بأسره... وكانت الغالبية مستعدة لأن تتجاوز حقيقة كونه قادماً من رحم السلطة ذاتها، وأن تصفق بحماس... ببساطة كانت الأيدي تحتفي بطوق النجاة المفترض!
مطلع السبعينيات من القرن الفائت دفع المحافظ العواضي رأسه ثمناً لحب هذه المدينة... لم يجرؤ أحد بعده على اقتراف جريمة كهذه خوفاً على رأسه.
كل الذين أحبوا هذه المدينة من قبل ومن بعد، انتهوا مجانين أو انتحروا أو دعستهم عربات القصر... جوهر اللعنة تكمن في كون هذا الحيز الاجتماعي والمكاني من خارطة البلد، عصياً على الإقصاء كنسيج نقيض لسلطة القبيلة الحاكمة؛ فعلى مدى سنوات مابعد نوفمبر 67. باستثناء رئاسة الحمدي- حرصت هذه السلطة على اختزال نسيج تعز الاجتماعي في مجموعة منتفعين لا يتمتعون بقوة تمثيله حقاً، بقدر ما يمثلون سعي المركز الحثيث لاحتوائه خارج دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية محاولات الاحتواء هذه أكسبت السلطة المتخلفة مزيداً من الوقت، لكنها لم تقض على حاجة الأغلبية المتنامية إلى عقد اجتماعي حديث يفرز الناس كأفراد كاملي المواطنة في ظل تمثيل سياسي يقوم على رافعة الأهلية والكفاءة، لا على رابطة الدم والقرابة والولاء لرموز القبيلة المهيمنة. حتى ذلك الحين سيكون من السذاجة أن نتفاءل بما تقدمه السلطة باعتباره تنازلات ثمينة لوجه الديمقراطية والحكم المحلي!
إن تعز المهيأة لانتفاضة مبكرة شبيهة بانتفاضة الجنوب اصطفافاً ومطلباً، لا تزال تراهن ببلاهة وابتذال على المكرمات القادمة من شمال الشمال.
لا تزال ترهن رأسها في جراب الحواة ولاعبي «الكوتشينة السياسية» وسجالات أقطاب الحكم القبلي بأطيافه، طمعاً في كسرة حياة ومثقال كرامة!
- ترى شريحة من الحمقى أن مأساة هذه المحافظة تنحصر في افتقارها إلى قطرة ماء وجردل إسفلت تدلقه شاحنات التويتي والضنين وصوفان، على ترابها وتنصرف لتتقاضى المليارات عنه.. إن المشاريع في صورتها الراهنة هي فردوس النافذين والقطط السمان، وجحيم المستهدفين بها. مأساة هذه المحافظة تبدأ من عدم وضوح موقعها في معادلة الحكم، ولا تنتهي بكل الفوضى التي تعصف بها في كل منحنى.
وترى شريحة أخرى من المغفلين بأن علينا أن نرفع آيات الحمد والثناء لسلطان البلاد الذي تحنن على هذه المحافظة بوالٍ من أبنائها.. حسن إن كان هذا يوجب الابتهال، فالأحرى بتعز أن تبتهل لدولة الجنوب التي أفسحت موقع الرئيس لعبدالفتاح اسماعيل دون الحاجة لأن يباركه شيخ القبيلة ورئيسها، أو يلف حول عنقه حبل الولاء!
- إن التباس شكل الحكم القائم وملامح الدولة وطبيعة السلطة المهيمنة عليها، أوقع الأغلبية التواقة للتغيير في حالة من «اللا حسم» تشل حركتها، لدرجة يفضي بها كل ما تعتقد هذه الأغلبية أنه نضال، إلى فراغ، وينتهي بها كل درب إلى لا شيء!.
- في المسافة بين نص الدستور والقوانين وبين واقع الحال، تنتحر كل الشعارات التي سفح المقهورين براميل الدم لسقياها فطرحت ثمارها في خزائن الجلادين و«العكفة» وظلت الأكواخ جائعة ومقهورة.
- أكداس الجثث التي ينبح أصحابها ويتعفنون في صعدة طيلة خمس حروب، هي تعبير تعيس ومرعب عن بشر يموتون طمعاً في راتب شهري أو حفاظاً عليه. لا علاقة للضحايا بجمهورية النظام أو ملكيته؛ بشافعيته أو جعفريته.
- المعارك الشريفة التي خاضها الحالمون بدولة عدالة، سُحل أبطالها في الشوارع على أيدي من يفترض أنهم إخوة الحكم. فصائل الحرس الوطني المجهزة شعبياً للدفاع عن ما يفترض أنها ثورة وليدة، سحقتها «مدافع العمري»؛ وثكنات الصاعقة دكتها «مدرعات حاشد».
- لفظت «الجمهورية تماماً كالوحدة» أنفاسها الأخيرة عقب سنوات من الولادة. ليس ما يحكم اليوم سوى أسرتين في قبيلة، تتقاسمان عافية البلد، وتشتريان بالفضلات دعم الأجراء والمنتفعين ومراكز القوى الثانوية.
- على قاعدة اقتراف هذه الحقيقة يمكن للقوى الاجتماعية المستبعدة والمقصية أن تؤسس نضالاً مثمراً، وبتجاوزها سيستمر الذبح، وستبقى رقاب المغلوبين على أمرهم عرضة لسواطير الاستخفاف بآدميتها، فيما سيكون على أيادي الضحايا أن تصفق، وعلى وجوههم أن تتفاءل!
- إن شبح هذه الحقيقة يجعلني عاجزاً عن أن أنعم باطمئنان القطيع؛ باطمئنان أحزاب المعارضة إلى حصافة تكتيكاتها و«مزقاوتها»؛ باطمئنان أبناء تعز إلى محافظ جديد يعدهم بلبن العصفور، فيما يعجز -بفعل قصوره الذاتي- عن حماية رقابهم من «جنابي العكفة الجدد» و«جياتر الحدا وعمَّار ومراد وبلاد الروس»؛ يعجز عن انتزاع حصة هذه المحافظة من الأمن والعدل والمواطنة، وتكافؤ فرص الالتحاق بالمعاهد والكليات العسكرية والقضاء، والتنافس على السوق، والدرجات الوظيفية المجزية لأعداد غفيرة من المتخرجين، بمنأى عن المرور عبر بوابات السادة «البركاني، العليمي، عبدالعزيز، الحزمي، جابر، و.... آخرون».
- إن الطريق إلى المواطنة وكرامة الفرد، أعقد بكثير من أن تشقها «بلد وزرات الصوفي وصوفان والكرشمي». والاسفلت الذي تسير عليه حافياً مطأطئ الرأس، هو ممر عبودية مهما امتد.
- إنني لا أنكر على المحافظ الجديد فضائل ذاتية يتمتع بها، لكنه - إذ يقف اليوم على محك اختبار باهظ الكلفة- بحاجة إلى أن ينتصر لهذه الفضائل، بحاجة إلى أن يكون ممثلاً للكوخ لا مندوباً للقصر، أن ينحاز لعنق الضحية لا لشفرة الجلاد، لأسرة الشهيد/ عبده غالب لا لقبيلة قاتله، للقصاص العاجل لا للضغط باتجاه المساومة على دم المواطنة المسفوك في رابعة النهار؛ كالحال في قضية اغتيال الشيخ عبدالسلام القيسي, العالقة بين «مجلس الجمرة وطيرمانة علي محسن».
- إنها أشياء لا تشترى ياسيادة المحافظ، فلا تقتسم الطعام مع من يذبحون «الحالمة»!!
salah-ALdkak@yahoo. com