هل أتاك حديث الهوية؟!! في بحث الجنوبي عن حقه وحقيقته

هل أتاك حديث الهوية؟!! في بحث الجنوبي عن حقه وحقيقته - وضاح المقطري

غالباً ما تبدو الثقافة حاملاً رئيساً لهمّ التحرر والخلاص. وهي فوق ذلك الصانع الظاهري لمسيرة البحث عن المصير، ففيها تطفو حاجات الجماعة ومميزاتها، ولذا تتشبث بها الجماعة وتتجه إلى إنتاج ثقافة خاصة ومغايرة، والبحث في التراث عن خصائص وقدرات وإمكانيات متفردة يمكن الاتكاء عليها في صناعة الهوية، والاسترخاء التام في الحديث عنها وتنميتها وتطريزها.
غير أن الهوية الحقيقية هي الهوية السياسية التي تصنع التحولات، وتأتي كأب واعٍ وحازم للهوية الثقافية، فهي (أي الهوية السياسية) تولد من رحم الأوضاع، وبها يبدأ الحديث عن المصير والحق في البحث عنه وتقريره، ومن معناها يولد الهم الثقافي الذي يبني مشروعه من الإحساس بالرغبة في الفرادة والتميز من أجل مشروع سياسي حقيقي وممكن. ولذا تلعب الثقافة دور التعبئة المحفز على صناعة الهوية. فالهوية إذا سياسية قبل أن تكون ثقافية، ولذا هي على استعداد تام لولادة نفسها، والتحول والتغير وكسر قاعدة الثبات المزعومة، منتجة بذلك مبررات التميز.
خلال عام من الحراك الحقوقي السلمي (الذي تطور إلى سياسي مع الوقت) برز مصطلح "تقرير المصير" فجأة إلى ساحة الحراك اليمني، مستتبعاً خلفه عشرات المصطلحات والمفاهيم السائرة على المنوال نفسه في اتجاه تحديد هوية جديدة لجزء كبير من البلد كان وحتى 22/5/1990 دولة مستقلة ذات سيادة وممثلة دبلوماسيا في أكثر من ثمانين دولة، وتطورت القضية من مطلبية حقوقية إلى سياسية واضحة وصريحة معنية بتقرير المصير، حتى وصلت مؤخراً إلى "فك الارتباط"، وهو ما يعني البدء بتشكيل هوية جديدة قائمة على استرجاع مكتسبات وموروثات النظام السياسي السابق، ومؤسسة على تميز المعاناة ووحدة الهم والمصير المشترك، والإحساس بالتمايز عن الآخر، ومشروعية الحلم بدولة مدنية مستقرة.
لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز الهوية أو إلغائها، ويدرك العرب والمسلمون ذلك أكثر من غيرهم، فبما أنهم أكثر من يعلن ويدعي التمسك بالهوية والدفاع عنها، فهم يعرفون أيضاً –وإن كانوا يتجاهلون ذلك منذ قرون- أن الهويات التي حاولوا طمسها في الشرق والغرب تمردت عليهم وأعادت إنتاج نفسها وإمكانية التطور والتجدد، بل وخلقت هويات جديدة، ولن يكون آخر مثل لذلك الهوية الكردية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن ترشيد خطاب الهوية والتمايز، كما لا تفيد محاولات تفنيدها أو إعاقة نموها، فتلك المحاولات لا تستطيع أكثر من تأكيدها في الروح الحاضنة لها بقوة. والشارع الجنوبي، أكثر من غيره، دليل حاضر على ذلك، ولن يكون الدينار الشيوعي آخر مميزات هذه الهوية، كما لن تفعل اعتقالات قادة الحراك ومحاكمتهم سوى تأكيد عدالة قضيتهم ومشروعيتها، فيما لا يمكن أن يتوقع أحد ما ستسفر عنه الأيام القادمة من مظاهر ستخلقها الهوية التي تتشكل بهدوء (ربما لا يعود كذلك) على الساحة العملية المعلنة، وبعنف في وجدانات ونفوس الجنوبيين.
برغم أن الهوية من أكثر الأشياء تبدلاً أو على الأقل تنوعاً، على عكس ما يتم تأكيده من أنها دائمة الثبات، وبرغم أني لا أؤمن بثبات أي شيء، إلا أني كنت أعتقدها تمتلك القدرة على الثبات طويلاً، لولا أن لفت انتباهي إلى سرعة تبدلها وتغيرها -وصعوبة ذلك أيضاً- رئيس تحرير هذه الصحيفة، وهو ما يبدو أنه الدافع الحقيقي للكتابة في هذه المسألة بتجرد تام عن أي إمكانية للشعور بخطر قد يقال إن الهوية التي تتخلق الآن تشكله على مصلحة البلد برمته، فالخطر الحقيقي قد أصاب الحياة بمختلف أشكالها منذ داست أقدام الفساد على رقاب الجميع بلا رحمة، وبالتالي فإن الواجب الأخلاقي يحتم علينا الاعتراف بما يتشكل جنوباً وتأييد حقه في الوجود وتأكيد معناه بأي شكل يحفظ للجنوبي حقه وكرامته التي أهدرتها حرب ووحدة صيف 94.
الهوية اليمنية تعاني وبشكل دائم ومستمر منذ مئات السنين من قلق الوجود، وكل يوم وهي تبحث عن شكل جديد لها قادر على التعبير عن نفسيات أفراد المجتمع المتعدد والمتنوع. وبرغم كثرة الحركات الثورية والحركات التغييرية، ومبادرات الإصلاح السياسي، إلا أن الأمر الذي تم تجاهله دائماً هو مسألة التنوع الثقافي، التي وإن بدت ظاهرياً غير ذات أهمية، إلا أنها وبسبب عدد من التراكمات السياسية والاجتماعية اتجهت لأن تكون مصيرية وحاسمة.
الدولة اليمنية (ومعذرة للدكتور محمد عبد الملك المتوكل لاستخدامي مصطلح الدولة هنا) مارست على مدى ثلاثين عاماً عمليات إقصاء ضد عدد من المجتمعات المحلية والمنظومات السياسية الحاملة للمشاريع التحديثية، وتحالفت مع نظم تقليدية ودينية بعد إعادة إنتاجها للإجهاز على المشاريع الحضارية، واتجهت بعد حرب 94 إلى إقصاء –أشد عنفاً وشمولية- ضد مجتمعات محلية أخرى كانت تعيش بعيداً عنها في ظل سيادة عدد من القيم المدنية والأخلاقية التي تفخر هذه المجتمعات بها اليوم، ومنذ 7/7/94 بدأت المعاناة الجنوبية تتوزع على الأفراد وسط صمت شبه تام من الجميع، حتى تمكن هؤلاء الأفراد من الظهور بمطالب حقوقية صريحة وواضحة ولا تقبل سوى الحلول الكاملة، في وقت استمرأت المجتمعات الأخرى معاناتها واستعذبت آلامها، فكان حقاً على الجنوبي أن يختار لنفسه قضية متفردة، وعلى المجتمع هناك توليد هوية جديدة لا يملك الجميع إزاءها إلا الاحترام والتقدير على الأقل.
ليس من السهل إنتاج هوية متميزة عموماً، وليس ذلك بسهل داخل مجتمع نصف متجانس كالمجتمع اليمني، بيد أن الممارسات السياسية للدولة الحاكمة سرعت وتسرع بإنتاج هذه الهوية القائمة -كما أسلفت- على عدد من الموروثات والمكتسبات. والآن فقط يمكن القول إن هذه الهوية بدأت بمشروع مدني منحاز إلى الحقوق التي لا يمكن تجزئتها والقيم الثقافية المؤسساتية اللامركزية، مع إمكانية كبيرة لوجود نظام تعددي. ولأن هذه الهوية من الأهمية بمكان لبث روح المبادرة والنشاط في مجتمعات ساكنة وقابلة للتطويع والتقوقع حول خصوصياتها للحفاظ عليها بأقل الخسائر الممكنة، فإنه لا بد من مبادرة جماعية تتبناها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني للتفاعل مع هذه الهوية باعتبارها المدخل الرئيس لصناعة هوية يمنية شاملة متعددة ومتنوعة وقادرة على الفعل الحضاري، مع الاحتفاظ بحق كل طرف في التعبير عن رؤاه في هذه المسألة.
وبعيداً عن التجريد، فإن ما ينبغي الآن هو مبادرة الجميع بشجاعة وجرأة إلى الاعتراف بحق الجنوبي والجنوبيين في اختيار وتأكيد هويتهم، وحتى حق تقرير المصير كحق لا يتجزأ من حقوق الإنسان مع احتفاظ الجميع (وأخص هنا أحزاب اللقاء المشترك) بحق تقديم مشاريع حلول المسألة اليمنية.
w-maktariMail