رجل بحجم الواقع والمخاطر

رجل بحجم الواقع والمخاطر

 عبدالكريم الخيواني
ترك الشيخ عبدالله ابن حسين الأحمر عصاه ومضى. رحل الرجل. إنه في حضرة ربه العلي المتعالي.
سنواته الثلاث الأخيرة أهلته لهذا اللقاء مطمئناً، لم يعد هناك مجال للأنشغال بإقصائه سياسياً أو مساومته على موقف ما.
رحل الرجل، وللموت جلاله، كان يوماً سيرحل، جاء الموعد وتهيأ له جيداً، لا أحد يدري هل بكى على نفسه، هل فكر في نعي ذاته، هل باغتته لحظة ضعف بشرية فدمعت عيناه التي قال ذات مرة إنه لم تسقط منها دمعة.
عرف الراحل الكبير خلال خمسة عقود كرجل بحجم  الأحداث التي تشهد أنه كان رقماً صعباً في جميع معادلاتها، وعرفته اليمن مظلة بحجمها، عرفه الناس بسيطاً حد التواضع، يعرف كيف ينزل الناس منازلهم، ولا يغيب عن مناسباتهم، سباقاً في حضور الافراح، حريصاً على تقديم العزاء والجنازة.
كما يفاخر بآبائه الشهداء ونضالهم. يتلمس طريق الإنصاف في لغته، مظهراً تعاليه عن الحقد، ساخراً من دوافع الانتقام.
إنه الشيخ عبدالله ابن حسين الأحمر، الذي وصفه صحفي عربي بأنه آخر الزعماء القبليين في الجزيرة والخليج. منذ مرضه والقبيلة في مهب التساؤلات. لم ينافس على منصب ولم يدخل في صراع لكي يحكم، لكن الحاكم يحتاج إلى موافقته لكي يحكم، والموافقة على أسبوع أو عقد لا تفرق عنده. سياسي يعلم تماماً متى ينطلق وأين يتوقف، ومتى يستحب الكلام ومتى يكره، لا يحتاج إلى تلاعب بالألفاظ وتنميق للجمل والعبارات، لكن يعي أن أقرب الطرق بين نقطتين هو الخط المستقيم.
مضى رؤساء وبقي هو متيقظاً في المتراس، لم يسرج خيلاً للمضي، ولم يأبه كيف يترجل، مع أن الثائر الحر الشيخ مجاهد عندما استشهد أدرك أن جزءاً منه سبقه نحو حياة أخرى، وبدأ الشيخ يرتب أوراق الرحيل، ويحاول أن يضمن امتداد روحه وخبرته للمستقبل (الجنبية) هنا.
 دافع عن وجود ودور القبيلة دائماً، وانفتح على السلطة والتجارة والعلاقات الخارجية، وظل ثابتاً على موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي، ومدافعاً عن القدس وحق المقاومة. كثيراً ما كانت تلزمه الحجة، مثلاً إذا قيل له: لماذا ما تزال صورتك مع بوش الأب ما تزال معلقة وأنت ضد أمريكا، لا يتردد فوراً بالأمر بإنزالها.
قبل أكثر من عامين صرخ عالياً ان البلد وصل إلى نفق مظلم قوبلت الصرخة بصراخ رسمي بلغ حد السفسطة، تلاه اعتذار أكد للشيخ أن السلطة لم تعد قابلة بالتنبيه، بالتحذير، أو بالدعوة للاصلاحات.
تعددت سفريات العلاج، وغاب الشيخ كثيراً عن رئاسة جلسات البرلمان، الذي عرفه في أول تجربة برلمانية عام 70 رئيساً عُرف عنه حينها الالتزام بالنظام واللوائح حد أنه كان إذا أراد الحديث كنائب ينزل إلى الميكرفون في القاعة. لاحقاً غابت التقاليد عن البرلمان، الذي لم ينكر الشيخ ذات حوار أنه برلمان ضعيف.
 حاول الرجل في آخر أيامه ترتيب أوراق مستقبلية لشكل العلاقة بين السلطة والقبيلة، والحفاظ على اتفاق تعايش أجيال، لكنه اتفاق يخضع لشروط المستقبل وتسري عليه أحكام السنن، كل السنن. ومؤكد أن الراحل الكبير كان يدرك ذلك، لأنه كان شخصية لا تتكرر بسهولة، ورجلاً بحجم الواقع والمخاطر. رحيله أعاد علي سالم البيض الذي لم يخرجه حدث 13 عاماً.
وبرحيله ستفتقد السعودية حليفها الأقوى، في اليمن والرجل الذي لم تضعف علاقاتها به، وسيفقد الاصلاح مظلته، وستفقد القبيلة آخر معاقلها، وستفقد اليمن صانع الحكام والحاضر في كل سياساتها ومواقفها لخمسة عقود. خسرت البلد الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر، رحمه الله تعالى.