في ذكرى الثلاثين من نوفمبر

في ذكرى الثلاثين من نوفمبر - عبدالباري طاهر

تحتفل اليمن بالذكرى الاربعين ليوم الثلاثين من نوفمبر67. وهو يوم تحقيق الجنوب الاستقلال بعد كفاح دام استمر أربعة أعوام. وفي الوقت نفسه تحتفل بالذكرى الثامنة عشرة لبيان الثلاثين من نوفمبر 89، وهو البيان الذي أسس للشرعية الديمقراطية، ومثل المدماك الاساس ليوم 22 من مايو1990. فإذا كان يوم الاستقلال قد جسد الشرعية الثورية، لقيادة الجبهة القومية، التي قادت الكفاح المسلح ضد المحتل البريطاني، فإن الثلاثين من نوفمبر89 قد مثلت الانعطافة نحو شرعية جديدة، للثورة اليمنية سبتمبر62، واكتوبر63.
ولم تكن الانعطافة مجرد مزاج أو رغبة ذاتية لهذا الزعيم أو ذاك، وإنما كانت شاهد المأزق الكبير الذي تعيشه شرعية الغلبة والاحتراب في الشطرين.
 عجز النظامين عن حل معضلات التنمية والبناء، والتطور السياسي والديمقراطي أحد أبرز ملامح أزمة النظامين الشطريين.
صحيح أن الوحدة لم تبن على أسس ديمقراطية راسخة ومتينة، ولم يكن التحول الديمقراطي حاسماً. وكان دمج دولتين بجيشهما وأمنهما وإدارتيهما وقبائلهما هو الاساس الذي أنبنت عليه دولة مايو 90. وغلب المنحى العاطفي والانفعالي على الجوانب الفكرية والعقلانية والضمانات المادية: الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية إلا أن التحول الديمقراطي قد لقي استجابة شعبية عارمة. فخرجت الاحزاب السرية الى العلن وتأسست عشرات الاحزاب، ومنحت تراخيص لعشرات الصحف، وتبارى الحزبان الحاكمان الى التنافس على الاحزاب وامتلاك الصحف.
ووجدت الشمولية نفسها مهددة بالحراك الشعبي والمعارضة السياسية المتنامية؛ فكانت حرب 94 انقلاباً دموياً على بيان الثلاثين من نوفمبر وعلى دولة الوحدة السلمية والديمقراطية.
أعادت حرب 94 شرعية الغلبة والقوة وأوغلت القوة في محاصرة الحياة السياسية والتضييق على الهامش الديمقراطي، وقمع حرية الرأي والتعبير، وبالأخص الحريات الصحفية، كما زكت الحرب الفساد والاستبداد، والاتكاء على نهج الفتن والاحتراب الداخلي كوسيلة مثلى للحكم وللفيد، وإعادة توزيع الثروة والنفوذ.
لقد اعادت حرب 94 إنتاج الحكم بالغلبة، وجرى إقصاء أبناء الجنوب، من دولة كانوا الطرف الثاني في بنائها، فحل الجيش والأمن والوظيفة العامة، كما جرى نهب الاراضي، والاستيلاء على الممتلكات، ونهب الدولة في الجنوب، ومحاولات طمس تجربة الجنوب، وكفاح أبنائه مما ولد قهراً وغبناً يستشعره أبناء الجنوب.
لا شك أن نهج الحرب وتسيد الفساد والاستبداد قد ألحق الضرر باليمن كلها. ولكن أبناء الجنوب يحسون، أو الحكم نفسه قد فرض إحساساً بالتفوق الجهوي، والانتصار «المعمد بالدم» والمعبأ بالدلالات المقيتة من عصور ما قبل الدولة.
نقترب من يوم الثلاثين من نوفمبر، الذكرى الاربعين للاستقلال والثامنة عشرة للوحدة، في أجواء تتسم باستعداد الجنوب لإحياء ذكرى تجربة مائزة وفريدة لتحقيق الاستقلال الوطني الذي نظر إليه اليمنيون والعرب حينها كأهم رد عربي في الركن الشرقي الجنوبي من الارض العربية على هزيمة 67، بينما ينظر إليه الحاكم اليمني اليوم بدونية وزراية وانتقاص.
فالاستقلال لا اهمية ولا معنى له فهو مجرد يوم جلاء، أما الوحدة فهي عودة الفرع الى الأصل، ومجرد إنهاء تمرد الابن على الأب، والاقلية تحت حكم الاغلبية.
وهي الشعارات التي حكمت حرب 94، وسار على نهجها الحكام الذين يرون الوحدة المعمدة بالدم أو الممهورة بالغلبة والانتصار، هي التي تحققت في 7 يوليو 94 حتى لقد قال احد غلاتهم:«إن الله قد اثبت وجوده في هذا اليوم».
الخشية أن يندفع الحكم كدابة إلى الاحتكام إلى القوة في مواجهة الاعتصامات والاحتجاجات المدنية وإحياء ذكرى الاستقلال كما حدث في ذكرى 14 أكتوبر في ردفان. فالحرب - ولاشيء غير الحرب- هي الكفيلة بحماية الوحدة، وقهر الاحتجاج المدني او المعارضة السياسية كاعتقاد الحكم.
بديهي أن تتنوع وتتعدد وسائل الاحتجاج، فردفان والضالع اللتان حملتا السلاح في وجه المستعمر البريطاني، يتصدى اليوم أبناؤهما بصدورهم لرصاص «المحتل الوطني».
وتحتج عدن، رائدة العمل السياسي والاحتجاجات المدنية، بأكثر من صيغة ديمقراطية للإدانة والرفض، ويمتد احتجاجها الى مختلف مناطق الجنوب وصولاً إلى تعز ومأرب.
أليس لافتاً أن تخرج مناطق في حاشد في مسيرات رافضة للاستبداد والفساد. ويكون الاحتجاج في صعدة «خروج لخروج» بصيغة «التاريخ الآثم» كتسمية الأحرار. أما احتجاج إب والحديدة فهو احتجاج غاندي أو مسيحي: «إذا لطمك أحد الاشقياء على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر». وتكون الاستكانة فاجعة عندما ينحاز الضحية للجلاد، أو يعطي صوته لسارق خبزه.
يظن الحكم- وبعض الظن إثم- أن السلاح هو العلاج الناجع لأمراض الاحتجاج المدني. وهو موروث قبائلي عنتري تجاوزته الامم والشعوب. فالاحتجاجات، خصوصاً في الجنوب، لا يمكن حلها إلا بالعودة إلى جوهر وروح بيان الثلاثين من نوفمبر والتزام الحكم بالعهود والمواثيق المقدمة للأمم المتحدة عقب الحرب العدوانية.
ويقينا فإن خلق الفتن والحروب المستدامة، وقمع الإضرابات والمظاهرات، وتكميم الافوه، وترويع الصحافة والصحفيين، وقذف المحصنات والتطاول عليهن، لا يزيد الأزمة الخانقة إلا اشتعالاً.
نضال اليمانيين على مدى أكثر من نصف قرن، كان يتجه لبناء دولة عصرية ديمقراطية وحديثة. مقالات «الحكمة اليمانية» ودعواتها والصحافة العدنية، ونضال الحركة النقابية الطلابية وميثاق الجبهة القومية، وأهداف الثورة اليمنية: سبتمبر واكتوبر، ودستور دولة الوحدة «المغدورة» ووثيقة العهد والاتفاق, تستهدف كلها بناء دولة ديمقراطية عصرية وحديثة، وهذا الهدف هو ما عجزت عن تحقيقه الإمامة البائدة. ولا يستطيع رصاص الحكم ودباباته إسكات نداء وأشواق اليمنيين لبناء دولة النظام والقانون والمؤسسات، والخلاص وإلى الابد من الاحتكام إلى السلاح وتسيد الفساد والاستبداد.