المختفون قسرياً (10)

- عدن - فهمي السقاف صنعاء - محمد العلائي

في 1969 أدرك الشيخ قادري كرو عبدالعزيز صلاته الأخيرة، بيد أنه لم يتمكن من مشاطرة أبنائه العشاء الأخير.
فحينما قصد الرجل مسجد «زكو» بالشيخ عثمان، لأداء صلاة العشاء، كان بانتظاره فريقان: 3 من ابنائه في بيتهم المؤقت، و4 رجال مقطبي الحواجب، على متن سيارة لاندروفر. كانوا يتربصون به قبالة مدخل المسجد.
فرغ قادري من صلاته، عندما كان ولده «صالح» يسير في الجادة، عائداً بطبق لذيذ، من مطعم مجاور للحارة التي يقطنون.
يحمل الرجال ال4 اسحلتهم النارية، لكنهم يرتدون الزي المدني. وفيما كان الشيخ (الشاب) يقفل عائداً الى بيته، اعترض المسلحون طريقه. وبعدما ظفروا به أخذوا بتلابيبه وألقوه في بطن السيارة.. بطن الغياب السرمدي.
لاحقاً، سيتوجب على أولاده ال3 (صالح، سرور، وعبيد)، تجرع مرارة 38 عاماً من الانتظار المديد.
ساعتذاك، كان سرور (الابن الأصغر لقادري)، يجلس على عتبة المنزل. كان يبلغ من العمر وقتذاك 17 عاماً. وإذ راح الفتى يجول ببصره في أرجاء الشارع، حدق لبرهة في الضوء البازغ من منارة المسجد.
طبقاً لرواية صالح فإن سرور لمح أباه مطوقاً برجال متجهمين، وبحركة دراماتيكية أخفوه في بطن السيارة... الى الأبد.
«كنت حينها في قرابة ال 22 عاماً، وشقيقي عبيد 20 عاماً، وكان اصغرنا سرور 17 عاماً، حين انتقلنا بمعية والدنا للسكن مؤقتاً في مدينة الشيخ عثمان»، يقول صالح لـ«النداء» وقد بدا وجهه شاحباً وحزيناً.
يُمضي صالح الآن عامه ال55. لكن رغم ذلك ما يزال لديه متسع من الوقت ليروي حكاية والده، الذي اختفى قسرياً بعد سلسلة مضايقات جردته من كل شيء.
كان قادري شخصاً مرموقاً إبان السلطنة العبدلية في الحوطة. فإلى كونه خلف والده كشيخ لقريته «الثعلب»، (5 كليو مترات شرق الحوطة)، فقد عين أيضاً في 1953 عضواً في المجلس التشريعي اللحجي للسلطنة العبدلية» فضلاً عن أنه حاز في الفترة ذاتها على عضوية المجلس الزراعي اللحجي.
ولئن أجمع كل من عرفه عن كثب، على عديد مزايا كان يتمتع بها الرجل، فقد أضافوا، علاوة على ذلك، أنه كان شاباً طموحاً متطلعاً، تعدى نشاطه ودوره الاجتماعي حدود قريته الصغيرة ليصل الى حاضرة السلطنة العبدلية (الحوطة).
قبيل وفاة والده، الشيخ كرو عبدالعزيز، في ثلاثينات القرن الماضي، ببضعة أعوام، قرر قادري دخول عش الزوجية. لقد أنجب من هذه الزيجة 9أبناء (6 ذكور، و3 إناث).
«ما بين نهاية 1968 وبداية 1969 صودرت مزرعة الوالد، الواقعة في بستان الحسيني، عندما تم تطبيق قانون الاصلاح الزراعي في عهد الرئيس قحطان الشعبي»، قال كرو (45 عاماً) وهو أحد أنجال قادري، لدى مقابلته «النداء» في بستان الحسيني الشهير قبل بضعة اسابيع.
وأضاف كرو بتحسر شديد: «كان القانون يحدد ملكية الأسرة ب80 فداناً، والأفراد ب40 فداناً، لكن الوالد عومل كفرد لبعض الوقت، وبعدها صودرت بقية الأرض كاملة في العام 1970 (بعد اختفائه)، وأصبحنا معدمين، لا نملك من مزارع والدنا، وجدَّنا، شيئاً يذكر».
أياً يكن الأمر، فقد راودت قادري مشاعر القنوط. «وعند اشتداد المضايقات والملاحقات بداية 1969، اسدى له الشيخ سعيد اللحجي معروفاً جليلاً: تبرع له بمنزله الكائن في السبلة بمدينة الشيخ عثمان، ليقطنه، طمعاً في تحسن الظروف». كان يتحدث كرو وهو يترقب وصول السيارة التي ستقلنا الى ضفة أخرى من بستان الحسيني، حيث يتواجد شقيقه صالح، الذي سيغوص في اكثر التفاصيل عمقاً.
يقول صالح: «كان سرور أصغرنا سناً، إلا أنه كان ألصقنا بالوالد في حله وترحاله، يرافقه كظله، سيما بعد خروجه من السجن في 1967».
عندما أعلن المؤذن دنو وقت العشاء، نهض قادري لتوه. «عبيد وسرور بقيا في البيت، وأنا ذهبت لإحضار وجبة العشاب من مطعم لا يبعد كثيراً عن الحارة التي كنا نسكنها» أردف صالح بنبرة مثقلة بالوجع.
بعد برهات بدأت صلاة العشاء. لحظتها سمع سرور وعبيد أيادي غليظة تطرق الباب بشدة. فتح سرور الباب، لكنه لم يتوخ الحذر. وحين دعاهم لتناول العشاء، سألوه بحدة عن الشيخ قادري. «في المسجد يصلي العشاء»، رد سرور بتلقائية، وأشار الى مسجد «زكو».
لقد غادروه دون إيماءة وداع أو كلمة شكر على دعوة كريمة لتناول العشاء.
«كانت وجوههم مكفهرة، وملامحهم تشي بالخطر»، يقول صالح. وأضاف بصوت خافت: «كنا، ثلاثتنا، أنا وعبيد وسرور، منتظرين بشوق عودة الوالد لنتعشى معاً كالمعتاد. لم نكن نعلم أنه سيتخلف من الآن فصاعداً، ليس لتلك الليلة فحسب، بل لسنوات طوال، مستمرة حتى اللحظة».
المواقف المؤلمة أشد قسوة حتى عند استعادتها. لذا فقد بدا صالح وهو يسرد تفاصيل اختفاء والده، كمن يتحدث عن فاجعة حدثت قبل اسبوع فقط.
على سبيل التثبت، توجه صالح في صباح اليوم التالي، صوب قرية «ثعلب». وحين سأل والدته واخوته عما اذا كان والده بات ليلته عندهم، تلقى منهم جواباً ما يزال كغصة عالقة في حلقه: لم يأت! إنه عندكم!.
انضم محمد الى صالح ليواصلا معاً سرد بقية تفاصيل الاختفاء. ومحمد هو النجل الأكبر للشيخ قادري. كان عمره آنذاك 30 عاماً. «زرت شرطة الشيخ عثمان، وأبلغتهم بما حدث للوالد. لكن قائد الشرطة اجاب بالنفي: ليس عندنا. إلا انه أردف قائلاً: اسأل عنه في جهاز أمن الثورة»، قال محمد والكآبة تكسو وجهه.
وزاد: «ذهبت الى جهاز أمن الثورة، وهناك قابلت محمد سعيد عبدالله «محسن»، رئيس الجهاز آنذاك، وبعدما رويت له ما حدث رد : ليش عندنا؟ إسأل أقاربك عنه لعله عند احدهم. تأكدنا أنه ليس عند أحد من الأهل، وأبلغنا شرطة الشيخ عثمان في اليوم التالي فقال قائد الشرطة: لعله لديكم» أرد محمد.
يواصل محمد: «محسن كرر نفس اجابته السابقة، فازددت إلحاحاً، وأظهرت له رغبتي في مقابلة الوالد، وبعد ذاك الاصرار، أوعز محسن لأحد افراد جهازه الأمني: «خذوه لرؤية والده!!». لقد كان على وشك أن يذيق «محمد» ذات المصير الذي ألقى بوالده الى المجهول.
«احد ضباط الجهاز نصحني بمغادرة المبنى في الحال، موضحاً أن ما قاله رئيس الجهاز ليس إلا أمراً مبطناً من شأنه إلحاقي بوالدي»، ختم محمد حديثه.
في 26 يونيو 1968 اغتيل الرئيس سالمين. حينها سرت إشاعة مفادها أن من اختفوا قسرياً أعيدوا من جزيرة سقطرى الى سجن المنصورة.
«ظننا أن والدنا سيكون معهم، فكانت وجهتي هذه المرة رئاسة الجمهورية»، يستأنف محمد روايته، لكن بحزن اكثر. استطاع عبدالفتاح اسماعيل الاطاحة بسالمين، وتربع على سدة الحكم.
استبشر محمد خيراً. ولدى وصوله مكتب الرئاسة قدم مذكرة للرئيس الجديد.
 يقول: «حددت السكرتارية موعداً لا ستلام الرد، وحالما ذهبت وجدت أن الرئيس لم يجشم نفسه عناء الرد».
في خضم هذه التفاصيل غاب أحد أبرز شخصيات القصة، إنه سرور. وحين سألناهم عن مصير هذا الابن المدلل، أفلتت من ثلاثتهم (محمد وصالح، وكرو) تنهيدة مدوية، تنم عن وجع دفين يغلي في صدورهم.
أجاب محمد هذه المرة أيضاً: «بعد أن مرت الشهور دون ان نتأكد اين انتهى المطاف بوالدنا، تعاظم الحزن في قلب سرور، وتوفي قهراً وكمداً، بعد 3 أشهر من اختفاء الوالد».
أخذ محمد يستفرد بالحديث، واندفع يكمل رواية المصائب التي حاقت بهم بعد العام 1969:
«في 1970 الحافل بالانتفاضات، صودرت جميع ممتلكات الوالد بما في ذلك بقية الاراضي الزراعية ،كما اقتحمت حملة أمنية بقيادة أحمد سالم عين فُتيش، منزلنا وصادرت منه قطعتي سلاح، ابو عجلة، واثنين خيول ومجموعة من الاغنام».
يستطرد محمد باستياء: «يومها سلك الثوار درب المستعمر في الأذى والتنكيل، لم يسلم شيئاً من موجودات المنزل، تصور أخذوا حتى أسرة نومنا وفرشانا، لم يتركو من المنزل سوى الجدران حتى الجدران كانت في طريقها للمصادرة لولا لطف الله وعنايته. طلبو منا اخلاء المنزل وأشعرونا شفوياً بقرار تزفيرنا (ترحيلنا) قسرياً الى شمال الوطن».
كرو يتذكر جيداً تفاصيل طفولة فيها الكثير من البؤس والحرمان. وقبل ان يسترسل في حديثه معي كان ينتشلنا من جهامة ذكرياتهم الطافحة بالمعاناة بخفة ظله. يتميز ابناء لحج عادة بروح الدُعابة. قال كرو: « كانت تعد والدتنا الخمير في البيت وكنت أذهب أبيعه لنحصل على قوتنا وما يعيننا على مواصلة دراستنا وكنت أبيع ثمار المنجا والباذنجان التي كنت احصل عليها نظير عمل في مزارعنا (السابقة) «قدم لي كشفاً يحوي ما هو من أملاكهم».
يختتم كرو حديثه: «لا أدري أي ذنب ارتكبه والدي حتى يلقى هذا المصير الغامض. هو من قارع الاستعمار ودخل سجونه ومعتقلاته مناضلاً في سبيل الوطن. لم يكتفو بذلك فحسب بل كنا موصومين بأننا أبناء الاقطاع والثورة المضادة!!».
 
 
***
 
 
عبدالكريم الحوثي وآخرون  أعضاء في قائمة المختفين قسرياً
ليس هناك ما يدل على وجودهم في سجن الجهاز العتيد

لا يزال مصير عبدالكريم الحوثي، عضو لجنة الوساطة، وشقيقه بدر الدين الحوثي، طي الغموض.
في 10 فبراير 2007 استدعت وزارة الداخلية عبدالكريم. وبعد لحظات أبلغت مرافقيه أنه رهن التوقيف.
وعدا أخبار غير مؤكدة راجت بعد اختفائه ب4 أشهر تقول انه موجود في سجن الامن السياسي، فإن عائلته مذاك لا تعرف أين آل به المطاف.
ليس هناك ما يدل على وجوده في سجن الجهاز العتيد. هكذا تقول عائلته. طالما لم يسمح لها بزيارته او ايصال الطعام والملابس والدواء له، سيما وأنه يعاني من مرض الربو. وكان قبل اختفائه اجرى عملية جراحية لإزالة حصوات من الكلى، في حين كان لا يزال بحاجة ماسة لاستخدام الدواء حتى لحظة الاختفاء.
في الفترة نفسها، اعتقل من منزل عبدالكريم بضعة شباب لم يتمكن ذووهم من زيارتهم، ويفتقرون الى تأكيدات قاطعة تفيد بأنهم لدى الأمن السياسي، وهم : محمد الشهاري، محمد عبدالكريم الحوثي، أمير بدر الدين الحوثي ( كان يخضع للعلاج فهو يعاني من مرض نفساني)، وسالم حسين.
الى ذلك، اعتقل من منزل عبدالله حسين الحوثي في صنعاء كلُّ من: ابراهيم بدر الدين الحوثي (اصابته شظايا في الحرب)، محمد علي عبدالكريم الحوثي (يعاني من تضخم في الكبد)، وزكريا محمد بدر الدين الحوثي.
تلزم الاشارة الى أن جميع هؤلاء المختفين ما يزال وجودهم في الأمن السياسي مجرد إشاعات، وفقاً للمعلومات.