حالة ارتباك

حالة ارتباك - سامي غالب

فرضت الاحتجاجات المتنامية في جنوب اليمن وشرقها نفسها في صدارة جدول الأعمال الوطني، ما يفسر التوتر الراهن لدى أطراف المنظومة السياسية (التقليدية) من قدوم الضيف الجديد الذي لما تتضح ملامحه بعد.
 قبل أن يكتمل عام على الانتخابات الرئاسية والمحلية، باغتت الاحتجاجات النخبة السياسية (حكماً ومعارضة)، وحرمتها من متعة استظهار أناشيد وخطابات النصر «المؤزر»، ومراثي «الهزيمة غير العادلة».
 على مدى السنوات العشر الماضية، أي منذ انفكاك (أو إنفلات) الاصلاح من التحالف الاستراتيجي مع الرئيس، اتخذت الممارسة السياسية والحزبية والانتخابية، طابعاً مدرسياً (مؤسسياً ولكن بلا مؤسسات) حيث الإطار بخطوطه السميكة راسخ، وحدود حركة كل طرف محسوبة ومحسومة أيضاً. والآن فإن طالباً شكس الطباع التحق بالمدرسة، فارضاً على الإدارة ورواد الفصول طريقته في التعليم.
 في تصريحات الفاعلين السياسيين (سلطة ومشترك) الذين يتوزعون المجال السياسي (على الفوارق الهائلة بين امكاناتهم)، مزيج من قلق وتوتر وحنق وأمل، وذلك القاسم الوحيد بينهم الآن. وفي الحركة يتباعدون أكثر فأكثر، السلطة باتجاه «حزب الوطن»- أي الجيش والأمن- والمشترك باتجاه الشارع الذي ينزع إلى الحركة في إيقاع أسرع، كما في المحافظات الجنوبية الشرقية.
 أفسد الشارع- في المحافظات الجنوبية والشرقية- اللعبة «المستنقعة» في انضباطها وتكتيكاتها ورتابتها ومخرجاتها المكرورة، ملزماً «سادة اللحظة الراهنة» بالتزحزح من أمكنتهم قليلاً.
اعترف الحكم، على استحياء، بشيء يدعى آثار حرب 1994، بعدما أنكر على الاشتراكي مراراً إلحاحه على إدراج بنداً في الحوارات حول معالجتها. وفي وثيقة الحوار الموقعة بين الحكم والمشترك، اعتبر آثار الحرب مسألة معلقة بين شريكي المرحلة الانتقالية، منبتة الصلة بالأوضاع السياسية الراهنة، لكأن الأمر محض تسوية لأمور عالقة بين طليقين، ما يذكر بالحملات المتبادلة قبيل وأثناء الحرب، والتي أظهرت «الوحدة» علىَ أنها معاشرة زوجية.
الشهر الماضي صدر قرار جمهوري بتشكيل لجنة لمعالجة الظواهر السلبية، وفيها معالجة آثار حرب 1994. لم تعد آثار الحرب - إذاً- شأناً يدخل في دائرة الأحوال الشخصية، وما عاد ممكناً القطع بأن آثار الحرب قد طُمرت بقرار العفو عن قائمة ال16، وعودة بعض المدرجين فيها من الخارج.
إلى الاعتراف الخجول، يلوذ الحكم بقلاعه الحصينة (الجيش والأمن) مهملاً أدواته العصرية، وفي الصدارة منها، حزبه: المؤتمر الشعبي العام، الذي توارى بعيداً، مكرساً القناعة بأن وظيفته في العملية السياسية مقتصرة على توفير الأغلبيات الكاسحة (الكسيحة) في المواسم الانتخابية. ولا ضير، بعد ذلك، من أن يتشاغل مسؤولوه بالملاسنات، وأن يتهم الرئيس صالح أعضاء في لجنته العامة بالفساد والبحث عن أدوار.
على الجانب الآخر يظهر المشترك قدراً من التكيف مع نوائب الدهر، مبدياً تسامحاً حيال منافسيه الجدد (أو أصحاب المشاريع الصغيرة، بحسب التوصيف المعتمد في خطاب المشترك) الجامحين في استقطاب شارعه. أكثر من ذلك فإن زعامات المشترك لا تتوانى في الدفاع عن حق «الفاعل الجديد»: جمعيات المتقاعدين وهيئات المصالحة وآخرين- في التعبير عن تطلعاته، حتى وإن خالطها شيء من إنكار الثوابت الوطنية!
تكيف المشترك مع الشارع (الجنوبي). يجيئ محمولاً بالحرص على الاشتراكي الذي خرجت دورة لجنته المركزية الأخيرة ببيان باغت شركاءه قبل أخصامه. الاشتراكي الذي أغضب السلطة وأربك المشترك، استوعب مطالب أعضائه من تيار إصلاح مسار الوحدة، واعتمد منطقهم فيما يخص القضية الجنوبية فنجا من التشظي، وقد خصَّص المجلس الأعلى للمشترك واحدة من جلساته لاستيضاح دواعي هذا التحول في الخطاب الإشتراكي الذي يتمايز عن برنامج المشترك. ولا ريب في أن قيادة الإصلاح تفهمت موقف الحزب الاشتراكي، علماً بأن التطورات في الساحة الجنوبية، وبخاصة التقاطع لدى قيادات فروع الحزبين بين السياسي والجغرافي، لا تتيح لقيادة الاصلاح في المركز اتخاذ مواقف مغالية باسم «الوحدة» التي شارك الاصلاحيون بتثبيتها حرباً.
فاعل جديد غريب الأطوار دخل المجال السياسي فارضاً إيقاعة على «السادة المحترمين». وعلى هؤلاء التسليم بالوافد الجديد، والتضحية -لا مفر!- بنصيب من ممتلكاتهم في الثكنات وحصصهم في الشوراع، وإلا فإن بوسعهم أن يخاطروا بكل شيء في انتظار وافدٍ مجهول أكثر شراهة.