لماذا تخشى السلطة البردوني حتى الآن!؟

لماذا تخشى السلطة البردوني حتى الآن!؟ - محمد المنصور

تفسر التوجهات الايديولوجية للسلطة موقفها السلبي بين الثقافة والابداع ورموزه في القديم والحديث، كما يفسر ذلك التوجه بالنفي والمصادرة غياب التقاليد الثقافية الوطنية الجامعة في المؤسسات الرسمية المعنية بالشأن التربوي والثقافي والإبداعي.. وطريقة تعاطيها مع الشأن الثقافي والابداعي.. الغالب عليها الانتقائية والعشوائية والموسمية، وهيمنة الايديولوجيا.. والموقف السلبي الإلغائي من شاعر ورمز ابداعي وفكري كبير في قامة البردوني أحد تجليات الموقف الرسمي المتخلف من الإبداع.. الذي ينظر إليه في إطار (الضد وال مع) من منطلق شخصاني ذاتي مفرط الأنانية.
ذكرى ثامنة على رحيل البردوني، تمرّ على الساحة الثقافية والوطنية.. وما تزال الاسئلة، المتجهة بالإدانة للسلطة ومؤسساتها، جراء موقفها الالغائي للبردوني وغيره من الرموز الابداعية والنضالية والفكرية، هي ذاتها.. بل تزداد اتساعاً لتصف المثقفين - غالبيتهم- انفسهم بالتواطؤ على ممارسة هذا الإلغاء الفج لكل القيم الحضارية المتعارف عليها في العالم، والتي في مقدمتها الإحتفاء بالرموز الابداعية ونتاجهم وإحياء المناسبات والفعاليات التي تليق بهم وبالأوطان التي ينتمون إليها، وتؤصل كذلك للوفاء كقيمة وللإبداع كتراكم عبر الاتصال بين الأجيال التي تفيد الصيرورة الابداعية القيمية المتحضرة.
والمؤسف ان ما تجسده الممارسة الثقافية وخطاب السلطة الثقافي، لا يؤكد سوى القطيعة والجدب الإبداعي والتنكر والجحود للرموز الإبداعية، والاتجاهات الفكرية، والتراث، والهوية الحضارية لليمن.. التي يتشدق بها الخطاب الرسمي في المناسبات وضمن سياسة الترويج لنفسه في الداخل والخارج.
إننا لسنا دعاة انغلاق على الماضي ورموزه ومفاهيمه، كما يتصور البعض- بل نحن دعاة تجديد وإبداع وقيم جديدة فكرية وفنية وثقافية تؤكد على الاستمرارية الإبداعية في الوطن، والتي تتصل وثيقا باولئك الأسلاف المتميّزين بالعطاء في شتى جوانبه..، وذلك في احد جوانبه تأكيد على الإعتزاز بالانتماء والأصالة، لا يتنافي مع التبشير بالجديد وقيمه الابداعية والفكرية. وفي الموقف الرسمي من البردوني تتكثف كل دلالات النفي والقطيعة والإلغاء للآخر والمختلف مع التوجه السائد بالمعنى الايديولوجي الضيق- وليس بأي معني آخر يبرر للسلطة وأشياعها وكتبتها ومؤسساتها المشهود لها بالتخلف وانعدام الدور الايجابي.
الموقف السلبي العدمي من شاعر- تفتخر به الأمة العربية جمعاء- هو ذاته الموقف من الزبيري، والمطاع، والموشكي، والعنسي، والوريث، والويسي، وعمر الجاوي، والشحاري، والربادي، والنعمان، والارياني، وزبارة، وأحمد محمد الشامي، وعبداللطيف الربيع وعبدالرحمن الحجري، وتوفيق الزكري إلخ!! وهو ذاته الموقف الايديولوجي الإقصائي من المذاهب الاسلامية في اليمن ورموزها سواء الزيدي وأئمتها وعلمائها، أم الشافعية وعلمائها، أم الاسماعيلية، هو ذاته الموقف من التيارات السياسية والفكرية التي تنتمي للحداثة ومفاهيمها التي تستهلك الآن في صيغ مفرغه المضمون مثال: الديمقراطية وحقوق الانسان، والمواطنة، والدستور وهلم جرا.
السلطة بوعي أو بغير وعي تختزل في نفسها اليمن تاريخاً وحضارة ورموز ماضياً وحاضراً؛ فمن الرئيس وعهده يبدأ وينتهي التاريخ والحضارة والوجود الانساني في هذا البلد.
 إن الثورات، وتاريخ النضال وإنجاز الوحدة اليمنية في 22 مايو، والديمقراطية، والمنجزات الظاهرة والباطنة تختزل في الرئيس وعهده، ورؤاه، ومواقفه المناسباتية.. وكل ما عدا ذلك، ومن عداه مجرد متلقين، أو منبوذين من التاريخ حتى وإن كانوا من صنّاعه- حال مناضلي الثورة، وقادة الحزب الاشتراكي الذين أسهموا بصنع الحدث الوحدوي وتحقيقه. وبهذا الفهم الشمولي المغلوط فإن لا مكانة ولا دور للآخر ولا حق للممارسة النقدية أن تمارس حق الاختلاف، والبحث عن الحقيقة؛ فالآخر يجري تصنيفه فوراً في عداد المخالف، اللا منتمي... والتهمة جاهزة والتصنيف معدّ لمصادرة هذا أو ذاك، وفق رؤية «مانويه» تقسم البشر الى أشرار وأخيار، ومع وضد.. لذا فمن غير المستغرب الموقف الرسمي من البردوني، الذي جرى تصنيفه من قبل كتبة التقارير، وسدنة السلطة، بالمشاكس، والخطر على النظام، وتردد في اكثر من سياق زمني ومكاني رسمي تصنيفه بالملكي الرجعي.. نعم وليضحك القارئ ما شاء؛ فما زال قاموس السلطة يفيض بالمصطلحات والمفردات الاتهامية الجاهزة والجاري استخدامها على مدار الساعة. ولعل التنصل الرسمي والامتناع عن طباعة مالم يطبع أو يجمع من كتاباته الشعرية، بما فيها الذي كان قيد الإعداد للطباعة «الجمهورية اليمنية، رحلة الى مرافئ القمر، رحلة ابن من شاب قرناها، ومذكراته التي نشرها في صحيفة سبتمبر» يوحي بالمدى الذي تستطيع ثقافة الإلغاء والمصادرة الذهاب إليه.. بغية الهيمنة على الواقع في مستوياته السياسية والاقتصادية والثقافية، وبكل الأساليب، المنافية لإدعاء الديمقراطية والوطنية والتحضر، تمت الحيلولة دون صدور مذكرات المشير السلال، والقاضي الارياني، والاستاذ النعمان وغيرها، وجرت وتجري عملية افراغ اليمن من كنوزها الأثرية ومخطوطاتها وتدمير منظم لهويتها الثقافية.. وضمن متوالية حسابية للهدم، وإفراغ القيم من الذاكرة الوطنية ووجدان الناس.
لقد لمس المهتمون والمتابعون من عامة الشعب خلو معارض الكتاب السنوية الرسمية من دواوين البردوني وكتبه منذ رحيله 30/8/1999 وحتى اليوم، رغم أنها بالحساب التجاري ذات مردود مجد، يقبل عليها المواطنون في كل مكان؛ ما يشير بالمؤكد إلى مسؤولية مباشرة للسلطة بالحظر والمصادرة.
إنّ البردوني معنى إبداعي وفكري وطني وإنساني كبير يستحيل شطبه.. من ذاكرة الأجيال ومن معنى الإبداع والفكر النقدي الحرّ والخلاق..، يستطيع أن ينتصر لنفسه وللقيم التي نذر لها نفسه.. وأسهم بشكل؛ لا يحتمل اللبس، في حركة النضال والإبداع والتنوير..، وانتصر لقضايا الإنسان؛ ما أبقاه قيمة ومرجعية في الضمير الوطني والإنساني. وبلا ريب فإن موقف السلطة السلبي واللا أخلاقي منه.. هو ذاته الموقف من الانسان في الوطن.. الذي يتخذ طابع الاستلاب والقمع والمصادرة، وفضح هذا الموقف ورفضه وإدانته انتصار لقيم الحرية والمساواة والابداع التي نذر لها البردوني وغيره من رموزنا حياتهم. وتقع على عاتق المثقفين والكتاب والأكاديميين مسؤولية إعادة الاعتبار للبردوني وغيره من المبدعين ولحرية الفكر والابداع، وإن ثمة مسؤوليات مباشرة تقع على عاتق المؤسسات الثقافية والابداعية غير الرسمية، في طليعتها اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين، في هذا الخصوص.. وهو قادر- أي الاتحاد- على كسر طوق الحصار والنسيان المضروب حول البردوني، الذي كان ذات يوم رئيساً لهذه المؤسسة، بطباعة كتبه، وإقامة وإحياء الفعاليات الخاصة به، والعمل على انشاء متحف خاص بالبردوني.. وغير ذلك مما هو ممكن.. ويسهم في التأسيس لتقاليد ثقافية وإبداعية في بلد يتنفس الثقافة.. وهو قبل كل شيء معطى حضاري وثقافي عربي وإنساني، وليس مجرد واجهة يقصدها سياح الليل، أو شعارات تعلق على الجدران وتقال في مناسبات رسمية. اليمن هي هذا الإنسان، وهذا التعدد والتنوع والخصب والثراء الحضاري، هي المستقبل والماضي.. والبردوني عنوان كبير للحرية والإبدع والتمرد على التخلف والاستبداد والتعصب.. لذلك يخشون البردوني.. ولذلك نحبه..، ونوجه التحية لمن يرفعون البردوني إلى مصاف التذكر والحضور كفعل للمقاومة والإبداع.. والوفاء أيضاً!.