قتل الأم

عبدالباري طاهر يكتب عن قتل الأم

سك الأدباء مصطلح «قتل الأب». وقد استعاروا القتل للتجاوز والخلاص من التقليد والتأثر والبنوة الأدبية والروحية. ورغم فجاجة «المصطلح» إلا أنه قد عنى الكثير في تجاوز المبدعين للأدباء الكبار.
أما «قتل الأم» فتعبير فاجع عن علاقة اليمانيين بأمهاتهم (المدن) وتحديداً صنعاء وعدن.
من يقرأ التاريخ الوسيط لمدينة صنعاء العاصمة التاريخية لليمن، يدرك مدى بشاعة وقسوة القبيلة في حروبها المستدامة ضد المدينة «الأم»، كتسمية المؤرخ العرشي في تاريخه.
وملاحم حوليات صنعاء للحرازي، ويوميات صنعاء ليحيى بن الحسين، تاريخ اليمن لمؤلف مجهول تحقيق القاضي حسين السياغي، كلها شواهد على توحش الامامة والقبيلة في حربها ونهبها وتخريبها للأم الرؤوم صنعاء. وتخزن الذاكرة الشعبية، وذاكرة ابناء مدينة صنعاء من كبار السن، كارثة 1948. حينها اجتاحت القبائل المدينة الثائرة في فبراير والاغتيال البشع والدامي لمدينة تعد من أقدم عواصم مدن العالم، وتحفة وآية في الفن والتحضر والجمال.
وهناك قصص وأشعار شعبية وفصيحة عن هذه الكارثة التي تجسد حروب القرون الوسطى. فقد نهبت المدينة. واستباحتها القبائل الجائعة والمتوحشة لعدة أيام.
اما مدينة عدن، المينا ءالبحري المهم في العالم و العاصمة التجارية لليمن كلها فإنها ومنذ مطلع القرن الماضي وبسبب الوجود الاستعماري البريطاني قد أصبحت جزءاً من دول الكمنولث. وعرفت الحركة النقابية العمالية «الموحدة» ومن مختلف مناطق اليمن منذ الحرب الكونية الثانية 39-40. واسست الحركة النقابية العمالية لولادة الأحزاب السياسية: حزب الأحرار 44، والجمعية اليمنية الكبرى 46، ورابطة ابناء الجنوب 1950، والجمعية الاسلامية الكبرى 49، ومن ثم الاحزاب الحديثة: البعث والقوميين العرب والماركسيين.
وكانت الصحافة العدنية: فتاة الجزيرة 1940، وصوت اليمن 46 وعشرات الصحف والمجلات؛ مما جعل من عدن أنموذجاً رائعاً للتعددية السياسية والحزبية والفكرية للحريات الصحفية في الجزيرة والخليج.
وعلى مدى القرن الماضي كانت عدن مركز التنوير والدعوات للحرية والديمقراطية والثورة. فقد كانت المعارضة المدنية، التقليدية والحديثة، تتخذ من عدن مركزاً لها. فحركة 1948- الثورة الأم قد انطلق التحضير لها والدعوة إليها من عدن.
وكانت عدن ملاذاً آمناً للَّائذين من أحكام الاعدام والاعتقالات الكيفية. وكما انطلق الفدائيون والقادة للدفاع عن 48 من عدن فإن جحافل الحرس الوطني بالمئات والآلاف، قد انطلقت من عدن، ومن مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية؛ دفاعاً عن ثورة سبتمبر 62. ولا يعرف تنابلة السلطان ان الحرس الوطني الآتي جله من الجنوب كانوا نواة الجيش اليمني والعائدون منهم إلى الجنوب وتحديداً جبال ردفان هم من فجر وقاد الثورة في الجنوب ثور 14 اكتوبر 63.
فعدن على مدى الاربعينيات والخمسينيات والستينيات كانت المركز التجاري والاقتصادي والسياسي والثقافي والأدبي للجزيرة والخليج. وهي، أي عدن، من صاغ الافكار الأساسية للثورة والوحدة اليمنية. ولم تكتف عدن بتوحيد الحركة النقابية العمالية، والاحزاب السياسية الحديثة الموحدة منذ النشأة، فاحتضنت ولادة اتحاد الأدباء والكتاب 1972. وكانت اتفاقية القاهرة وبيان طرابلس والكويت التوحيدية معطى من معطيات الهزائم العسكرية للنظام في صنعاء المناوئ للحداثة والتطور والتقدم.
والحقيقة ان التربية والتثقيف الحزبي والوطني والسياسي للحزب الاشتراكي والحركة القومية الحديثة والادباء والكتاب ومؤسسات المجتمع المدني، لها أبلغ الاثر في تحقيق الوحدة التي وإن مثلت ارادة يمنية عامة، إلا أن القراءة الوحدوية لقيادة الاشتراكي قد سرعت بيوم ال22 من مايو 90.
وقد مثل انتصار خيار الوحدة انتصار الحوار السلمي الديمقراطي، وسقوط منهج الوحدة بالقوة أو الغلبة. ولكن قوى الحرب والفيد قد انقلبت على الوحدة عائدة سيرتها الأولى ونابشة ذاكرتها «التاريخية» في حروب الفيد، واغتيال المدن ونهبها. فحرب 94 الكريهة قد دمرت أسس المصالحة الوطنية بين الشمال والجنوب وبين مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية، وجعلت القوة والغلبة أساس شرعية «الوحدة» المعمدة بالدم. وفتحت أو أعادت اليمن سيرتها الأولى في الاحتكام إلى الفتن والتنازع والاحتراب في حسم قضايا لا ينبغي أن يكون للقوة دخل فيها. فالقوة العسكرية الخارجة من رحم القبيلة قد أغلقت أبواب الحوار والتطور الديمقراطي للنظام، وفتحت أبواب الجحيم على نفسها وعلى شعبها. فالاعلام الرسمي الذي يجب أن يكون ملكية عامة لأنه يمول من المال العام يتمترس من حول لغة التجريم والتخوين واحتكار الوطنية. وتوزيع تهم العمالة والخيانة والانفصال على الخصم السياسي، وتحديداً على قوى التمدن والحداثة.
ان الانتصار بالحرب قد جسد «قتل الام» عدن أو اغتيالها، وجعل من الجنوبي الصانع الحقيقي للحداثة والتطور والثورة والوحدة، عميلاً وخائناً وانفصالياً وهو ما يبرر الاستيلاء على الارض وتعطيل الميناء والعبث بالموارد وسرقتها، وإحالة المئات والآلاف من العسكريين والمدنيين على المعاش، والتعامل معهم باستعلاء وتمييز.
قاتل أن يجعل الاحتجاج السلمي والمدني جريمة كبرى وخيانة وطنية، بينما يرى في التمرد المسلح الوسيلة المثلى لمنح الحقوق والاعتراف بالمواطنة، ومنح الاعطيات والامتيازات فالمحتكم إلى السلاح يثبت شرعية الحكم ولا ينفيها، بينما المل السياسي والاحتجاج الديمقراطي، والمطالبة السلمية، هي الخطر الداهم والشر المستطير لأن العسكرة والقبيلة لا تقبل بمثل هذا اللون من الاحتجاج.
تعتقد القوة الآتية من عصر ما قبل الدولة أن القتال هو ميدانها الوحيد الذي أتى بها إلى السلطة، وهو ايضاً الوسيلة الوحيدة والمثلى والأبدية للحفاظ عليها. أما العمل السياسي والاحتجاج المدني فهو قتال بسلاح لا تعرف عنه، وفي ميدان لم يسبق لها القتال فيه. وهي تكرهه كراهية تحريم؛ فهو من غير عصرها ولا قبل لها به، لذا تكثر الحديث عن الدم المعمد وعن التلويج فرعى بالجيش والأمن والشعب لحماية الثوابت الوطنية، وصيانة الوحدة والثورة والجمهورية.
أليس غريباً أن تكون الأم هي القتيلة والخائنة!؟
الخطر الذي يتهدد الوحدة والوطن ليس الاحتجاج المدني ولا مظاهرات المتقاعدين العسكريين، ولا الهتافات الغوغائية التي تقسم اليمن إلى شمال وجنوب. وإنما الخطر الحقيقي هو الفساد الذي يدمر الكيان، ويهدر الثروة الوطنية، ويمزق النسيج الوطني، وينتزع لقمة الخبز الكفاف من افواه الفقراء، وغالبية شعبنا فقراء. ولله الحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه.
إن جوقة المرتزقة الذين يسميهم المفكر المصري، صلاح عيسى «صناع رابطة الطغاة» هم الاخطر من اولئك الغوغائيين الذين يعادون جزءاً من أبناء شعبهم «لزعلهم» من طغيان الحكم وفساده واستبداده.
التضييق على المعارضة السياسية وتجريم وتخوين الرأي المختلف وتهميش مؤسسات المجتمع المدني والسيطرة عليها, وواد حرية الرأي والتعبير, تجعل الفتن والحروب المناطقية والمذهبية والقبلية السبيل الوحيد والاحتمال الكارثي الحاضر والقادم.