المختفون قسرياً (8)

المختفون قسرياً (8)

النقابي المغيب محمد علي قاسم هادي
 
 
أتذكره كالآن، كأننا لم نفترق: صورته، صوته الخافت، بساطة ابن القرية، الآتي من إب أو من ريفها، سيان. الطالب بجامعة صنعاء، النشط في العمل الصحفي اليومي، فهو الدينامو المحرك لمجلة «الغد»، المجلة الرصينة التي يصدرها ويرأس تحريرها الدكتور حمود العودي.
كان محمد أواخر السبعينيات ما يزال طالباً في الجامعة، ويعمل في صحيفة «التعاون» ومجلة «الغد».
كان الطالب المجد من اوائل المنخرطين في العمل النقابي الصحفي. فهو عضو عامل في جمعية الصحفيين، ربما منذ التأسيس (1976). وهو أيضاً عضو سري نشط وفاعل في الحزب الديمقراطي الثوري الأوسع عضوية والأكبر فاعلية وتأثيراً في كل الأحزاب السرية اليسارية.

- عبدالباري طاهر
 

لم يكن انتماؤه الحزبي معروفاً إلا في إطار الناشطين في الخلايا السرية. وقد أفاده ذلك في توسيع دائرة نشاطه النقابي الصحفي. ففي انتخابات العام 1980 فاز بعضوية الهيئة الإدارية لنقابة الصحفيين. وأصبح المسؤول الثقافي للنقابة. وكان الأستاذ ابراهيم المقحفي ومساعده الفقيد منبه ذمران هما القيادة الجديدة.
هناك قضية أو سمة ميزت العمل النقابي بصورة عامة سواء في اتحاد العمال أو الأدباء أو الأطباء أو الصحفيين، وهي أن حظر العمل الحزبي وتجريمه (باعتباره خيانة عظمى) قد دفع بالأحزاب المحظورة والحزبيين للعمل من خلال النقابات والاتحادات باعتبارها المجال الوحيد المفتوح لممارسة العمل السياسي، فالتحق العديد من الناشطين الحزبيين بالمجال النقابي. وكانت عيون الأمن والمخبرين السريين مفتوحة على الميدان الوحيد الموارب: النقابات.
لم يكن اختيار محمد علي قاسم مسؤولاً ثقافياً في النقابة اعتباطياً؛ فهو على تواصل مع الجامعة ومع أساتذتها ومع المجلات، ومنغمس في الهم الثقافي والسياسي حتى أذنيه.
لا أتذكر أن محمد علي قاسم قد تعرض لإعتقالات قبل العام 80. ومعرفتي به تعود إلى الأعوام الأخيرة من السبعينيات. ولعل أكثر الزملاء ارتباطاً ومعرفة به، الزميلان العزيزان: محمد علي الشامي، ومحمد لطف غالب عضو البرلمان السابق. فقد عايشاه أكثر مني.
بعد طردي من صحيفة «الثورة» بطريقة درامية، تحمس الأستاذ الكبير الفقيد عبدالحفيظ بهران، أمين عام الاتحاد العام للتعاون، وسانده الاعزاء الدكتور حمود العودي وعلي الحرازي، فانتُدبتُ للعمل في صحيفة «التعاون» التي كان يصدرها الاتحاد ويرأس تحريرها الصديق الحميم الصحفي القدير الفقيد عبدالوهاب المؤيد وهو المسؤول عن الإدارة الاعلامية للإعلام. فعملت إلى جانبه في المكتب والصحيفة. وكان ابن قاسم يعمل كسكرتير تحرير لمجلة «الغد»، وقد تميز ابن قاسم بالصمت والكتمان والحيوية والنشاط، وهي أهم وأبرز صفات المناضل الحزبي في ظروف غاية في القسوة والارهاب.
كان المناضلون من أمثال محمد علي قاسم يخرجون من مخابئهم (شبه السرية) في النهار غير واثقين من العودة إليها في المساء. فالاعتقالات الكيفية، والتعذيب في المعتقلات، والصراع الدامي في الاطراف، وصراع الشمال والجنوب، والشمال والشمال والجنوب والجنوب، كلها تزكي العنف، وتجعل من العمل السياسي جريمة العصر.
وكانت اعتقالات الثمانينيات أكثرها بشاعة ودموية وضراوة. فقد بدأت الأدلجة والتخريب للصراع يتخذ بعداً خطراً. ووضع الاسلام السياسي حامي حمى المقدس في مواجهة الشيوعيين الملاحدة.
ربما كان صعود الفتى محمد إلى قيادة النقابة في انتخابات العام 1980 قد لفتت الانتباه إليه أكثر.
في مطلع العام 81 تم لقاء في عدن بين منظمة الصحفيين الديمقراطيين برئاسة النقيب زكي محمد بركات، الذي «لحسه الرفاق» في عدن في كارثة 86، وبين ابراهيم المقحفي ومنبه ذمران ومحمد علي قاسم هادي: القيادة الجديدة لنقابة الصحفيين في الشمال، للتحاور حول التوحد وهو الحوار الذي بدأ منذ نشأة الكيانين النقابيين. وكان الجاوي وعبدالله الوصابي (أول نقيب للصحفيين في الشمال) وأحمد قاسم دماج (أحد أهم المؤسسين لاتحاد الأدباء والصحفيين)، من أهم الداعين والداعمين للتوحد.
ترافق وصول المقحفي ومنبه وابن قاسم مع مؤتمر اتحاد العرب الذي انعقد في عدن. وكنت عائداً من تونس بعد المشاركة في اجتماعات الاتحاد العام للصحفيين العرب. وفي خاتمة التحاور بين الصحفيين صدر بيان عن التوحيد فيه قدر كبير من تبني موقف الاشتراكي، ولا يمكن بحال أن يقبل به الشمال. وهو بيان يضع ممثلي النقابة في الشمال في دائرة الخطر. وفزع الزملاء. والتقينا، وذهبنا معاً، فالتقينا بالدكتور محمد قاسم الثور عضو المكتب السياسي حينها والأقرب للاعتدال في صراع أجنحة الاشتراكي. وتبنى رؤيتنا لإدراكه الأوضاع في الشمال وخبرته النقابية. ولكن البيان لم يُعدَّل لوجود أطراف نافذة في الحزب تدفع إلى المواجهة، وربما توخت من توريط قيادة النقابة في البيان إرغامهم على البقاء في عدن.
وصدر بيان تكذيب من صنعاء، وأن البيان لا يمثل النقابة. والحقيقة أن البيان/ المكيدة كان زائفاً ومفبركاً يهدف إلى توريط الزملاء. وهو ما حدث فعلاً. فما إن عاد الوفد إلى صنعاء حتى أُقصي المقحفي ورُكن جانباً بعد الوعيد والتهديد. أما منبه ذمران ومحمد علي قاسم، وهما العضوان الحزبيان في «الوحدة الشعبية»، فقد جرى اعتقالهما فور عودتهما، ونكل بهما أي تنكيل!
حينها تسربت أخبار (نتمنى أن تكون كاذبة) أن محمد علي قاسم هادي قد قتل تحت التعذيب هو ورفيقه المهندس الزراعي محمد عبدالقاهر. أما منبه ذمران فقد خرج مدمراً وشبه ميت، ولم يمكث بعد الخروج من الاعتقال إلا مدة قصيرة كان (خلالها) يتردد على الاطباء والمستشفيات حتى لقي ربه. وأصيبت العائلتان بكارثة حقيقية. فأسرة ذمران الصحفي الكفؤ في وكالة «سبأ» للأنباء فقد فقدت بضربة واحدة منبه ذمران ويحيى محمد صالح الخاندار الذي قتل في جولة من جولات صنعاء ذات مساء آثم. ويموت منبه ذمران من آثار التعذيب. ويعاني فائز ذمران حتى اليوم من التعذيب النفسي والجسدي. ويختفي أي أثر للصحفي الشاب محمد علي قاسم هادي.
يتصرف مسؤولو الاجهزة الأمنية اليمنية وكأنهم سباع غابة. فأرواح البشر لا تعني لهم شيئاً. ويصبح القتل والاغتيال والتعذيب كقهوة الصباح، لذيذاً ومنعشاً.
مرة أخرى أجدني ملزماً بشكر العزيز سامي غالب وصحيفة «النداء» في فتح ملف «المخازي الحبالى» كتسمية الرائع يوسف الشحاري ضابط الأمن بل أحد مؤسسيه الذين عانى من هذا الجهاز كثيراً حتى رحيله. وأتمنى على زملائنا في نقابة الصحفيين والأدباء والمهندسين والمحامين أن يهتموا كثيراً بقضايا القتلى والمغيبين، فنحن لن نحمي أنفسنا بالخوف، فالذئاب لا يزيدها مرأى الدم إلا هيجاناً وسعاراً.
وإذا ما استطاع جيلنا تلجم وحوش الدماء «المعمدة» فإننا نكون قد حمينا أنفسنا وحميناهم ايضاً. لأن حديثهم المسهب بزهو عن الدم المعمد، يجعلهم صناعاً وضحايا في آنٍ. وعظات وعبر التاريخ كثيرة. ولكن الميزة الحقيقية لعظات التاريخ لا يتعظ بها أحد، كرؤية الفيلسوف الألماني هيجل.

 
***
 
 
 
في العدد المقبل
 
* «النداء» ترصد رحلة أسرة محمد علي قاسم، بحثاً عنه في صنعاء، والصليف.
* حصل على شهادة حسن سيرة وسلوك من مقر الأمن الوطني، وبعد 3 أيام اختفى في دهاليزه.
* عاش بقلب حالم... وبكلية واحدة.
 

***
 
 
الرد الرسمي على تقرير الفريق الدولي:
المختفون قسرياً ضحايا النظام الشمولي في الجنوب!
 
تلقت الجمهورية اليمنية تقريراً من فريق المفوضية السامية لحقوق الإنسان، المعني بحالات الاختفاء القسري الذي زار اليمن في الفترة من 17 إلى 21 أغسطس 1998 بهدف عمل دراسات للحالات المعلقة من الاختفاءات القسرية بسبب الحرب الأهلية في عام 1986 التي نشبت فيما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وقد أحتوى التقرير المشار إليه على ما يلي:
- مقدمة.
- السياق التاريخي.
- حالات الاختفاء المعلقة المدرجة في ملفات الفريق العامل.
- المزاعم العامة وحالات الإختفاء القسري الأخرى.
- استنتاجات وتوصيات.
وقبل التطرق إلى بيان ردنا على ما جاء في التقرير، وعلى وجه التحديد الفقرات المطلوب التوضيح أو الرد بشأنها وهي التي تندرج تحت البند (ب)/ التوصيات، فإن حكومة الجمهورية اليمنية، تود التأكيد على ما يلي:
1 - إن الغاية الأساسية من الدعوة لهذا الفريق العامل المعني بالاختفاء القسري لزيارة الجمهورية اليمنية هي الرغبة الملحة والصادقة للحكومة اليمنية في التعاون مع هذا الفريق من أجل حل قضايا جميع حالات الإختفاء القسري المشار إليها وفق أسس قانونية وموضوعية وبما يكفل إغلاق هذا الملف نهائياً.
2 - إن حالات الإختفاء القسري في اليمن ليست بذلك الحجم أو الخطورة التي تحدث في بعض الدول وإنما تعتبر حالات محدودة حدثت في ظروف سياسية معينة، وشكلت إحدى صور الصراع على السلطة في ظل هيمنة الحكم الشمولي لما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
3 - إن حكومة الجمهورية اليمنية قد بذلت قصارى جهدها في البحث والتحقيق واتخاذ كافة الخطوات والإجراءات القانونية لتسوية وكشف ملابسات حالات الإختفاء القسري المدعى بها التي ترجع إلى أحداث عام 1986، بما في ذلك الإتصال بأسر المفقودين وتسوية أوضاع من تبين اختفاؤه في تلك الأحداث، كما قامت اللجنة الوطنية العليا لحقوق الانسان وبناءً على اقتراح بعثة الفريق العامل المعني بالاختفاء القسري بالإعلان في الصحف الواسعة الانتشار في اليمن عن توجه الحكومة اليمنية لمعالجة كافة قضايا الإختفاء القسري، وحث أسر المفقودين على التوجه للجهات المختصة والإدلاء بما لديهم من معلومات حول أقاربهم المختفين.
4 - كما تؤكد الجمهورية اليمنية أنه ومنذ قيامها في 22 من مايو عام 1990، لم يحدث فيها أي حالات إختفاء قسري. ومن ثم فإنه لا صحة مطلقاً للمزاعم القائلة بحدوث حالات اختفاء قسري أثناء حرب صيف عام 1994 وما بعدها.
«موقف الجمهورية اليمنية إزاء ما جاء في التوصيات الواردة في التقرير»
أولاً: حول توضيح ملابسات حالات الاختفاء التي حدثت عام 1986 فإن حكومة الجمهورية اليمنية تشير إلى ما يلي:
1 - إن النظام السياسي للجمهورية اليمنية هو نظام ديمقراطي قائم على التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان. وتأسيساً على ذلك وإدراكاً من حكومة الجمهورية اليمنية لأهمية معالجة كافة آثار ومخلفات الصراع السياسي ودورات العنف التي اتسمت بها حقبة الحكم الشمولي لما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية والتي مثلت أحداث الثالث عشر من يناير عام 1986 الذروة في دورات تلك الصراعات الدموية المؤسفة؛ فقد بادرت اليمن وعقب قيامها في 22 من مايو 1990 إلى معالجة تلك القضايا من خلال ما يلي:
- تم التأكد من خلو السجون والمعتقلات من أي شخص حبس جراء أحداث 1986.
- اعتُبر كل من ذهب ضحية هذه الأحداث شهيداً، وتتقاضى أسرته إعانة شهرية من جهة العمل التي ينتمي إليها الفقيد، وفي حالة عدم عمله في جهة حكومية تمنح الأسرة إعانة عن طريق وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
- ليس لدى الحكومة اليمنية أي تحفظ في تعويض أي أسرة ثبت فقدانها أحد أقاربها في تلك الأحداث.
2 - ورد في ص (9) الفقرة (39) أن الفريق يوصي الحكومة اليمنية بأن تصدر إعلاناً عاماً تعترف فيه بوقوع الأحداث التي أفضت إلى اختفاء ووفاة مئات الأشخاص. ويرد على ذلك أن الحكومة اليمنية ممثلة باللجنة الوطنية العليا لحقوق الإنسان وبناءً على اقتراح وفد الفريق العامل، قامت بتوضيح كافة الملابسات المتعلقة بحالات الإختفاء القسري التي تمت أثناء أحداث عام 1986 من خلال الحوار الصحفي الذي نشرته إحدى الصحف اليمنية مع المنسق العام السابق للجنة الوطنية العليا لحقوق الإنسان.
3 - وورد في ص(10) فقرة (40) التوصية بإنشاء فرقة عمل للتواصل مع جميع الأسر المعنية بتسوية القضايا القانونية المتبقية في ما يتعلق بحالات الاختفاء القسري التي وقعت عام 1986، وإنشاء قاعدة بيانات تشمل جميع الأشخاص المختفين وأفراد أسرهم.
وقد قامت الحكومة اليمنية في حدود إمكانياتها المتاحة بإنشاء فرقة عمل خاصة تابعة للجنة الوطنية العليا لحقوق الانسان للتواصل مع جميع الأسر المعنية بتسوية القضايا المتعلقة بحالات الاختفاء القسري، وقد تمكنت تلك الفرق من إجراء تحقيقات حول الحالات الواردة في الكشف المقدم من الفريق المعني بحالات الاختفاء القسري، أسفرت عن معرفة مصير عدد من هؤلاء المختفين، وجمع بعض المعلومات عنهم.
 
***
 
> بعاليه الرد الرسمي على تقرير الفريق الدولي المعني بحالات الاختفاء الرسمي.
الرد الصادر من اللجنة الوطنية العليا لحقوق الانسان (2002) برئاسة علي محمد الآنسي، مدير مكتب رئاسة الجمهورية، يوحي بأن حالات الإختفاء اقتصرت فيما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وتجاهل الحالات الأخرى التي اختفت في الشمال قبل الوحدة.
التجاهل موصول أيضاً حيال ضحايا الاختفاء القسري في اليمن عموماً بعد تحقيق الوحدة اليمنية في 1990، رغم تأكيدات الفريق الدولي والتقارير والشكاوى التي تلقاها الجانب اليمني من ذوي المختفين.
«النداء» تدعو الجهات المعنية المسؤولة في وزارة حقوق الانسان وغيرها إلى التعامل الإنساني والنزيه مع حالات الإختفاء دونما انتقائية أو تنصيب نفسها كأداة لتبرير حالات الإختفاء وإقناع الفريق الدولي بإغلاق هذا الملف الإنساني المؤلم عبر تزوير وقائع أو وثائق، دونما اعتبار لكرامة ومواطني أهالي الضحايا.