حقوق المرأة خارج ندوات النخبة.. النساء إذ يجلبن الحياة للرجال ! - عبدالله علي صبري

حقوق المرأة خارج ندوات النخبة.. النساء إذ يجلبن الحياة للرجال ! - عبدالله علي صبري

"غرق ثلاث يمنيات بسبب السيولـ" هكذا عنونت جريدة القدس العربي ( الأحد، ابريل 2007 )، أحد أخبارها بالصفحة الأخيرة. تفاصيل الخبر تنسب إلى مصدر رسمي الكشف عن مصرع ثلاث فتيات في إحدى قرى محافظة ذمار جنوب العاصمة صنعاء، خلال حوادث جلب الماء من أحد الحواجز وسيول الأمطار، التي هطلت على إحدى القرى بمنطقة مغرب عنس – ذمار.
وتشير خلفية الخبر إلى شحة المياه في اليمن. وعادة ما يؤدي نزول الأمطار الموسمية إلى امتلاء الحواجز المائية التي بنيت في عهود سحيقة، والتسبب في حوادث غرق النساء في اليمن الذي يعهد إليهن بمثل تلك الأعمال.
الجملة الأخيرة تكشف أس البلاء، إذ لولاها لأصبح عنوان الخبر ذكورياً، هكذا "غرق ثلاثة يمنيين بسبب السيولـ"، بيد أن الخبر الأصلي الذي حضرت فيه تاء النسوة، غابت عنه المتابعة الجدية من قبل فعاليات ومنظمات حقوق المرأة، التي ربما وجدت في مسألة جلب النساء للمياه أمراًَ اعتيادياً لا ضير من التكيف معها.
الشق الثاني للخبر متعلق بأزمة المياه في اليمن؛ ما يشكل عبئاً مضافاً على النساء اللواتي يعهد إليهن بمهمة جلب المياه، إذ عادة ما تستعيد النساء تجارب قديمة موروثة من الجدات، لكنها مجحفة بحق الحفيدات اللاتي يعشن عصراً مغايراً تقوم فيه الآلة بالدور العضلي المفروض على الإنسان.
 
انفصام هنا.. شطح هناك
بقدر ما في هذه المهمة من جهد شاق تبذله المرأة، واضطرارها للخروج من البيت والاختلاط بالرجال وبالمجتمع، بقدر ما تفصح عنه ازدواجية وتضاد صارخ بين ما ينسب إلى المجتمعات التقليدية وبين ما تعيشه واقعاً.. ففي قضية المرأة لا مكان هنا للقول أن دور المرأة محصور في بيتها، فعلاوة على مهمة جلب المياه، نجد المرأة إلى جانب الرجل في الحقول الزراعية وفي المراعي وغيرها. وإلى وقت قريب كان اختلاط الرجال بالنساء في الأعراس والمناسبات الاجتماعية هو السائد.
وبفعل عوامل ومتغيرات متضافرة، يجد المجتمع التقليدي نفسه أمام حالة انفصامية، لكنها ليست بأسوأ من حالة الشطح التي تسيطر على أداء مراكز ومنظمات حقوق الإنسان، وبالذات المعنية منها بحقوق المرأة فأجندة وأولويات هذه المنظمات مرهون بالتمويل الحكومي والأجنبي، وكلاهما بعيد جداً عن ملامسة حقائق الواقع المعايش.
عشرات الندوات والمؤتمرات حول المرأة والعنف، المرأة وحقوقها السياسية، لكن "المرأة والمياه" ما تزال قضية مغيبة وخارج الأجندة، رغم أن أغلب منظمات حقوق الإنسان الفاعلة في بلادنا، تديرها قيادات نسوية مشهود لهن بالكفاءة.
ربما كان من المهم أن تطرق القيادات النسوية باب هذه المشكلة، قبل أن يدغدغن مشاعر بنات جنسهن بحق المرأة في الرئاسة"، وهو حق لا غبار عليه، من وجهة نظري.
 
فقه بعقلية ذكورية
هذا الحق ما زال مثار جدل في ندوات " النخبة" التي دخلها مؤخراً بعض العلماء الدينيين، والذي يرفض أغلبهم حق المرأة في الولاية العامة قياساً على اقتصار حق القوامة على الرجل.
وإذ ينطلق هؤلاء من تأصيل ديني، يقدم معارضوهم رؤى دينية مضادة. وبينما تسيطر على البعض عقلية ذكورية عند الفتوى، يعتمد البعض الآخر على التنظير، وإغفال الهوة التي تزداد اتساعاً مع الواقع.
العقلية الذكورية، نقلت عدواها إلى بعض النسوة الدارسات للعلم الشرعي، فهن يتكلمن عن حقوق المرأة من الباب التقليدي ذاته، بينما تظهر محاولات –ما تزال نادرة– للخروج من الإطار الذكوري للفقه، وإضفاء مسحة أنثوية تتفق والقيم الأساسية، التي جاء بها القرآن الكريم مقرراً المساواة والتكامل بين المرأة والرجل.
حالة الانفصام ذاتها تسيطر على أغلب الفقهاء وخطباء المساجد. فهم إذ يصعدون على المنابر ويطرقون قضايا المرأة من الزاوية الشرعية، يتناسون الواقع المرير الذي تعيشه نساء اليمن، ثم لا يذكرون في خطابهم ما يساعد المرأة على تجاوز واقعها سوى أن "تقر في بيتها". بيد أن هذا الحل لن يقبل به الرجال -وبينهم كثير من الوعاظ– في مسألة جلب المياه، كذلك النساء- مع الاختلاف في الهدف من الموقف- فالنساء إذ يقبلن بالأمر الواقع، يجدن فيه دافعاً لممارسة المزيد من حريتهن بدلاً من الانحباس داخل البيت، وإن أدت هذه الحرية إلى الموت غرقاً.
حتى الأحزاب، التي تتعامل مع قضايا المرأة ببرجماتية واضحة، تغفل عن استغلال مشكلة جلب المرأة للمياه، مع الأهمية الكبرى لصوت المرأة في أية انتخابات. وربما مرد هذا الإهمال إلى كون الأحزاب ترى المرأة مجرد ملحق بالرجل، يذهب صوتها لمن يقرره زوجها أوأبوها أو ابنها أو أخوها! وهذه مسألة تحتاج إلى تحليل لا مجال له هنا.
 
والصورة في سنحان
من المهم القول أن ظاهرة جلب النساء للمياه من أماكن بعيدة إلى المنازل لا تقتصر على منطقة دون أخرى، فهي تكاد تشمل أغلب المدن والقرى النائية، وقد لحظتها بعيني في أكثر من زيارة ميدانية لعدد من محافظات الجمهورية.
وكان لافتاً ما كتبه الزميل أحمد القرشي في أسبوعية "النداء" العدد قبل الماضي، عن زيارته لمديرية "سنحان" عرين الحكم، ومعقل رئيس الجمهورية، التي يذهب شطح البعض حد وصفها ب "سويسرا اليمن"، فكانت المفارقة، أن أكثر من 3000 مواطن في "مقولة" يشربون من بئرين سطحيتين فقط. والمفاجأة ما كتبه الزميل القرشي بالنص:
«حاولت إحدى الزميلات تصوير ثلاث فتيات وامرأة عجوز، كن يحملن دبات ماء على رؤوسهن من بئر سطحية، ولكن الحاجة العجوز نهرتها بشدة (... ). مشهد الدبات المثقلة لرؤوس النساء ذاته رأيته في مناطق بعيدة جداً عن صنعاء، شهدته تقريباً في جميع قرى وادي مور بمديرية اللحية الساحلية، شهدته في منطقة "بكيل المير" النائية على الحدود مع السعودية حيث يشرب الناس مع كلابهم وبهائمهم من غيل واحد، رأيته في مديرية عبس التي لا يجد الناس فيها ما يشربون. صور دبات الماء المحمولة على رؤوس أمهاتنا وأخواتنا في الريف موجودة أيضاً في سنحان. كنت كلما رأيت مشهد بؤس مماثلاً أقول: ما فيش حد أحسن من حد، وأتذكر عناء أمي في حرض وأولا أخي الصغار».
يبقى القول: إن الصورة المنشورة هنا ليست من سنحان، ولكنها من مدينة التربة – تعز، التقطها الزميل معاذ المقطري، وهي تلخص أزمتين: أزمة مياه تعيشها اليمن، وأزمة ضمير إذ يعهد الجنس "الخشن" إلى شريكه " الناعم " بهذه المهمة الشاقة ذات الطابع الرجولي. وليتهم يقدرون للنساء هذا الدور المرتبط بحياتهم وحياة كل شيء.